محمد خضير
يواصل الشاعر عبد الرحمن طهمازي ما بدأه من “بحوث” تتحرّى الحقيقةَ الشعرية بفصول متسلسلة. لكن البحوث الجديدة، فيما تتمرّن على “اليقين” بلغتها الاستئنافية الحرّة من التقاليد المشدَّدة في قصائد الفكرة والأطروحة الفلسفية، فإنها تستلهم طوايا الواقع القريب والبعيد، وتدمغها بإيقاعها الدائري_ المشابه لدورات التاريخ العراقي خصوصاً_ وتنزع عنها ثيابَ الوهم والتزييف_ بما فيه الوهم الدائري لقصيدة النثر الحديثة.
يستسلم طهمازي لدورة القصيدة بطاقتها اللغوية، وفعاليتها الاستطرادية، وإيقاعها الثاقب الذي يضيف هوامشَ ضرورية على متونٍ تكاد تتوارى خلف أبواب دائرية، فيتعقّب دورانَها الوهميّ، إلى ما لا نهاية. وفي محاولاته الشعرية الأربع الأخيرة (المعزوفة، أبواب هائمة، تمرين على اليقين، الفصل الخامس) تتمحور الأبوابُ الدائرية للقصائد حول عِضاداتٍ/ ركائز أساسية، غائرةٍ في اللاوعي المخمور بانتصارات سياسية زائفة، وتحوّلات اجتماعية فوضوية، وانهيارات أدبية نرجسية. ومع الدوران المنهِك للحواسّ، حول محور اللحظة الراهنة/ عِضادةِ الباب الدائر، تتناثر قوى القصيدة الطاردة، وتتباعد المفردات اللغوية إلى أبعد مرمى للشعور المتيقِّن من قدراته وممكناته وتقاليده الشعرية المعتادة. وبهذه المرامي الدوّارة/ المتطاردة لغوياً، لا تلوح نهايةٌ أكيدة لقارئ القصيدة.
وفي الدورة الرابعة_ التي يتخصّص لها هذا التقديم_ تأتي قصيدة (الفصل الخامس) لتستأثر بِوَحي خاصّ من شخصية، مُسمَّرة على الأبواب الدائرية، هي شخصية المفكّر هادي العلويّ، وتفتتح بناءها الدائري بإجلالٍ للألفاظ التي مرَّ بها العلويّ خلال حياته، وتفيّأ بظلالها_ ظلال الربيع. إنّها محاولة في تعضيد الذكرى الدائرة في مكانها، منظوراً إليها من زوايا متعدّدة_ تنثرُها اللغة الدائرية، الفالتة من جاذبية السيرة الذاتية، وتسحبها القوةُ الطاردة إلى مركزها المكثَّف بالأوهام. والسؤال في هذا الجذب المتعاكس لشخصيات الأمس القريب_ المصلوبة على عِِضادات التاريخ_ يتمحور حول: أهيَ_ الشخصيةُ_ مَن تدور، والشاعر في مكانه؛ أم هو مَن يأخذه الدورانُ حول صليب الشخصيةَ المستأثَرة؟ وبأيّ زخم من مطاردات اللغة يتمّ هذا التجاذب العكسي للشخصية؟
إنّه السؤال الذي يعيد سردَ الواقع/ التاريخ إلى أمكنته الفارغة_ منذ صَلْب الحلّاج حتى وقتنا الحاضر. ومن هنا أيضاً، تنشأ شطحاتُ عبد الرحمن طهمازي اللغوية التي تتجاوز الزمنَ الدائريّ للأبواب الهائمة_ وتنطرح بقوتها الذاتية في إيقاع ثاقب، يستقطب هوامشَ التراجيديا العراقية، وقد تناثرت في كلّ مكان، فيأخذ في تكثيف التعبيرَ عنها بأقصر الجمل، وأندر الصُّور، وأوسع الزوايا؛ فكأنّ القصيدةَ المنسوبة إلى بنائها المخمور_ بالدوران حول محور ثابت_ أضحيةُ يومٍٍ من أيام الصّلب الدائري، تنزف بالدماء؛ دماء القصيدة المفصودة على عتبة الذكرى.
والحقيقة، فالقصيدة لا ترمي إلى أبعد من أن تملأ فراغَ الأمكنة من ذكراها الواجبة الحضور. وهي إذ تتعلّق ببابٍ من أبواب الواقع/ التاريخ/ السرد، وتدور حوله، فلكي تستنزف ذاتَها/ لغتَها الجائعة للإمتلاء الأخلاقي_ الوجودي، تضحيةً وفناء في السرّ الشخصي. القصيدة تنحت موقعَها بمزيد من الصبر وضبط الأنفاس، لكي يتفق إيقاعُها مع حالة الشخص الثالث، المبعَد قسراً عن مركز الحضور في موقع الكلام الأول. الذاتُ الشاعرية، تُفرِغ شجنَها، وتنفِّس عن حصرها وقصورها السّردي، ببناء هرمٍ أملس من الانعكاسات الراجعة_ هذه التي ترسمها عادةً علاماتُ الترقيم على سطوح العبارات_ فإذ تتخلّى عن عاداتها/ وَقارِها المرقَّم، تبدو القصيدة صلعاء كقبر دارس في أرض قفر. إنّها ذاتها، في تموّج أنفاسها الحرّة، غير المرقّمة، روحٌ هائمة بين الآن والأبدية.
لذلك، القصيدةُ لا تتورّع من أن تصلب شاعرَها في القفر اللغوي، الملئ بالأصوات النائحة نواحاً هو أقرب للهمس من صرير الأبواب التاريخية الخدّاعة. والشاعر بذلك الحدّ من التضادّ الشخصاني، يتقمّص روحَ شاعر آخر غيره، واحدٍ غريب عن زمانه، متواطئ مع الشخصية المصلوبة في عراء اللحظة_ الصحراء.
الفصل الخامس
عبدالرحمن طهمازي
الى هادي العلويّ
الرسالة وصلت مع الوعود
الصحيحة كما لو إنّ أعالي
الفرات ترعى عناقيد العنب
السعيدة وكنت أنت
راحلاً على واحدة من نجائب الليل التي
تزوّدت بالافق النشيط بعد
قيلولة طويلة
قطرة الندى كبيرةُ العمر سليمةُ المحتدِ مثل حرف عربيّ
عالق في كلمة لم يستعملها أحد فهي تلتمع الآن
كالبدويّ الذي قاده الفجر طمعاً في الحُداء وكالحرية التي تنجح العبوديّة
في تعريفها في غموض لا حدود لمستواه؛ تتخاصم الوقائع
و الخيال حيث تتفرّج الاصوات على الحروف الرائعة
المتحرّكة والتي ستثير ثائرة المعاني فالساعاتي
يعالج الثواني المطموسة تحت العقارب الذاهبة
الى البعيد بلا مؤونة ولا هوادة ولا ابتكار القصص
الهاربة من ضعف الأخلاق مثل زمان ضاق ذرعاً
بالمكان المستقيل واقترح على الشرنقة أن تفتح الباب
و لا تأخذ بيد أحد نحو الصفقة الأولى حيث يتوالى
تقطيرالألغاز و تنظيف الشوائب في هذا اللولب الغبيّ
الذي يواصل اللعب في مراياه الساخرة التي تتقدّم
نحوه وهو يجفل وتتراجع خطاه ويضحك بإخلاص ويستنجد
بأعمام قابيل الذين يقومون بالواجب، بينا الساعاتي يهجس
النبض المخزون وتستعيد النصوص الراكدة حركتها
ولا تقعد عن صهر الأغلال و تخليد ذلك في الأحلام
المسجوعة وهي ترفع الأصوات التي يراها المجنون
رأي العين بدهشة زائدة
حتّى الموت الهافت في بلده المضروب بأرقام عشوائيّة
لن يتعرّف على نقوشها المهووسة بالفقاعات التي
لا توضع على المحك ولا يُعاد النظر فيها لكنّها تعمل
على مشاغلة الفراغ و الصمت الموحش واللعب مع
زمان يفلت من المفاجأة المكروهة وتأجير الحروف
المتحاسدة في ظلّ انفجار الأسعار وانحسار الزبائن
واغلاق أبواب القواميس واعلان النفيراللغويّ ولم يعد هناك
من يبحث عن الجودة التي ستبقى فريسة للاستهلاك
الواسع كصحراء ذات نزوات ولا تنوي الخروج من ربقة الكلمات
التربويّة بل تنتظر المعنى الذي لم يقم أحد بتوجيهه و تنظر
الى الحروف وهي تخلع ثيابها وتتراشق بالأساليب
الملوّثة في حمّامات السلطة المتنقّلة في شراهة
نفسيّة تعمل على ترميم الدُمى الصوتيّة السائبة التي
تدردش حول محبّة السيادة وتقول مرّة عاش
الملك الميّت ومرّة مات الملك الحيّ ويتقابل الملوك مع
ثعالب الجمهوريّة ويتبادلون التيجان و رموز الثقة
من الشفاه ويضعون العيد الوطني في أرجوحة
ذليلة يضطرالمجنون الى السكوت فيها معترفاً
بالأخطاء ويضع أحلامه إلى جانب الوسادة البريئة
ويرجو أن يبقى مجاوراً بالتناوب على سرد
آهات العبقريّة المتوقّعة والمخاطرة بتفريق الأوقات للنجاة
بالذاكرة المنتوفة والهندام اللاواعي في صيغتة
السرمديّة الصقيلة التي لا بدّ لها من شبه الإستقرار
وها هنا عليك باغتنام الوقت وسرقة الجواريب
من أرجل الشرطة فالجلود هي الأقنعة الوحيدة
للكائنات الحيّة وغير الحيّة وإن شئت التجربة ستجد
البرهان القاطع على مناعة الأشياء والأفكار ذات
البال من متاع الدنيا والنذالات التي تعرف كيف
تؤكل الأكتاف والأعناق وإذا أردت تناول الرؤوس
اللاذعة فهاكها في ممثّل يتذكّر كلّ الأدوار باستثناء
دوره فلم يبق له سوى الجلوس على الخشبة غيرعارف
ماذا يفعل بلسانه وينظر الى حركات الجمهور الذي
يتحيّن فرصة الفرار إلى الأسواق السخيّة
هنا تتمركز الحروف المحايدة التي تحوم فوق الأسرار
البالية التي تتمطّى وتنكمش حسب القياسات وهناك يتلاقى اللصوص والشرطة
فمن ذا الذي يقوم بأود الآخر و يدٌ تعمل على غسل
اليد الثانية والغافلون يحرسون المسرح ويؤدّون
للمارّة تذاكر البصبصة على كواليس الحقيقة التي تنفض
يدها الخالية ولا بدّ من ذلك حين تسديد الثمن في هذا
الوقت الذي ضاعت فيه المجاذيف وراحت الحروف
تخبط المعاني خبط عشواء فماذا تفعل أيّها القلم
التلقائيّ العطوف وماذا تفعل الذاكرة وهي تجذب
المستقبل بحسرة الى الماضي الذي يواصل الهذيان
والجوع العسير ويستطيع قلب الآثار يوم يستولي
الضحك على المجانون الذين يرسمون الدجاج
على البيوض لتنكشف عن أفراخ مطرّزة وينطلق الصدق الخجول
في الأكاذيب العذراء بلا مكاييل ويذوق الجميع حسنات
العاقبة على سطح يطفح بالكيل وليس له ملمس
إلاّ بعد انطفاء الأمل غير المأسوف عليه برأي الزمان
الذي سار خلال الطرق التي خَبَرها حقّاً ولا يتنازل
عنها إلاّ للضحايا الذين أصابتهم المصادفات الكفيفة المضطرّة
حيث انّ الحروف اختارت لها قائداً يفضي بها الى المعاني
التي لا نهاية لها؛ قائداً مثل الهاء الجائع الأبديّ… آهٍ..
علينا بالاجتماع لنملأ الفجوات.. آه من الهاوية..
آه للآبار التي تفغر أفواهها بالهاءات التي ليس
لها نغم فصيح و تبتهج أجنحتها للفشل أي لإنعدام
النجاح الصائب بمعنى عاش الملك ولا تحيا المملكة وكما
يعرف الشعراء فانّ الميزان لا يشعر برغبات المشترين
وما كانت السفن القديمة تعرف نيّات البحّارة والماء والهواء
ومع ذلك فضعْ في بالك نصيباً من عدم المعرفة؛ نصيباً
من الجهل لا يستهان به وبإيجاز شديد انظرْ الى
ما وراء عيون التاريخ وفي أقصى المنعطفات لن
تفلتَ منك مروءة الشجاعة والبحث عن النصيحة
في فنون الحركات والسكنات بين الأوائل والأواخر
وكلّ هذا ينطق بالجدارة اذا كانت هذه الكلمة
مسموعة بكاملها وبجرأتها التي لا تسبّب صداع
السانح والبارح وكنوز الهواء التي تسوقها الأصوات
الغامضة للأنداد الذين لا يهّمهم إلّا الفشل
التدريجي في نبوءات طارئة جعلت
العلاقات أمراً ملتبساً وتافهاً كالصداقات التي
تدّعيها جهات متتالية وتنجح في إدارة اللعبة الوحيدة
التي يحميها الخطر الكافي لكنّ الشعراء هم الذين
يعيدون تربية الكلمات لتطير مع الريش ثمّ تصحو
الأناشيد وتعثر على أكمام وأختام الطبيعة وتطرق
بقيّةُ القصّة الأبواب وتُخرِج التوقيع حاسر الرأس
مع أشباح محرومة من الهزيمة وتحبّ الذكريات
والهدايا وهي تتقاسم الأعمال الخيريّة ولا تولي
عناية بالأناشيد لكنّها تطبطب على ظهور
الشعراء وهم أيضاً يطبطبون والكلّ يعيش القصص
المنسيّة التي لا تخطرعلى البال
وسجناء الحظّ يتبادلون قصصاً أخرى ويتنافسون
في النسيان. ذلك ما لا تشمّه الكلاب الشابّة المتملّقة بل تأنف منه وتهرّ هريراً دافئاً وكأنها تؤدي أمانتها للحياة، وعجاً
أبناء زائفون لأرض لا تكذب وإنّ شيئاً ما يهيمن
على الحبّ. انّه لشيءٌ يوافق الحزين ولا يرشد الوجوه
الى مغارة في اللهب ومتى تكفّ أنتَ عن السخرية من
السؤال وهو الطفل الأصيل المحروم من المشاركة في
الجواب ومن مأوى يوم الجمعة مثل أرملة تجمع الموسيقى
من حطام الآلات وتوزّعها ميراثاً للمستقبل الذي يتدحرج
دون أحفاد في جماجم شفّافة تنصحنا بالرأفة بالهرم الوشيك
على المسرح الى أن يلوذ الرعاع بالتصفيق الحالم وكأنهم
في سفينة تخطو نحو أفق ينتظر الذين غرقوا بلا معنى
ولا نديم حيّ هادئ وكان كلّ شيء مرتبطاً بسعة
الصدر ومناسباً للمهمّات المترحّلة دون ترويع
السعادة التي تخلّفتْ بعيداًعن سفن الحياة
في لحظة واحدة لم توقظ أيَّ جزء من الظلّ فما
جدوى الكلام مرّة بعد أخرى وما الخسارة في قضاء
الوقت الضائع مع أفق مرتبك ماكر يجذب التاريخَ
بيسـراه و يتخبّط على أبواب المستقبل الذي لا يسأم
ولا يملّ من العناد والوعيد والنفاق ولا يحترم الضمائر
ويصيب اللغات بأضرار ليس لها حدود ولن تليق
بالحقائق رقيقة البذور فالويل لمن أسقط الحقوق
في النقصان الذي يزداد عنفه تعنيفاً فإليك عنّي
أيّتها الأجنحة الحديديّة التي تريد أن تُدمي الأسوة
الحسنة للمعمورة بالبهتان والغباء الغامق الأسنان
وانتِ يا أُذيْنة فاسرحي تلقاء الربيع فهو قد تسلَّم
قصدك منذ زمن سحيق وهو يفهم كما تتفاهمين
فلا مجال لاستثمار العقوبات فالتقط
من جنبك حفنةً من الظلّ للذكرى
الى الخسفة الراجفة يا قارون وهنا تبدو الحقيقة
تحبو حافية في أسطورة راكضة وسيصلان معاً
إلى الحفلة المسائيّة للعصافير ولكنّ الكلمة وصلت
قبلهم لتهيئة المعاني لضيوف الاستقلّال الوطني
ومحبّذي السيادات المنطلقة في المطارات و للذين صمّموا وبرمجوا
الفشل النوعيّ الكامل المكمَّل لكلّ احتمالات الزمان
والمكان والعادات وتيّارات النصيب التي تتخبّط شذرَ
مذرَ بين الشعوب المضغوطة مثل كرات الملاعب
الاحتياطيّة لدى شركات الأدوية التي تعتاش
عليها ذراري الفيروسات المقدّسة في بحبوحة مع
البواقي من النفط والسلاح التي تدفع بالتي هي أحسن
وبالأسعار الرمزية لأولاد الخايبة الذين تشبّعوا
بأشعّة القضاء والقدر وفي جيوبهم خرائط لا تشير
الاّ لمواقع الرياح ودرجة تهالك النجوم لذلك فهم
يائسون من الرمال التي تبني الأمجاد على المرايا
المصاحبة للقوافل حتى الوداع الأخير للدخان
البليد الذي سيطر على الحركة وهو يحاول الآن
خنق الأنين الضحل حين حصوله على زناد الصوت في
هواء خائر قبل هجوم الطيور التي تنود وتتثاءب
عابسة مخطوفة الالوان في عين الشمس والوقت يأذن بالخروج من
الإرشيف البارد وقد برز صامتون أمام المقصلة؛
صامتون عديدون ينتظرون دورهم وينظرون إلى الجلّاد
الصامت الذي يتأسّف للرئيس عن عدم تنفيذه
الأوامر فالصامتون ماتوا قبل وصول الفتوى الأخيرة
وسينوب هو عنهم اذا زعم زعيم بذلك حيث مكافأة الجميع
للجميع، وعلى هذا النول تنتظر الأقدار على شاشة
قصيرة تكفي لمسح الدموع الضروريّة التي تتوالى على
استقبال القلوب التي لا تستقرّ على خوف معلوم
وذلك هو وداع المنتصرين الذين يأملون في الحصول
على كرامة ادّخرتها لهم الحياة لليوم الأسود و من أجل
مبادرة أخرى للتنقيب عن الحبّ من جديد وقد حملتْ
روائح القصب طوراً من أطوار ذكائه الثوريّ وهو راقد
وديعاً مع النصر الموعود مثل قصّة متنكّرة لا تصل خطاها الى مواهبها النهائية المتعرضة للتمزق الذاتي
والتي يحرسها الشعراء الذين جاش بهم الخَبَب
ثم يقفلون أفواههم ما إن يبدأ النهار بالهذيان
وهو يتوقّع شيئاً من الأضواء أجنحة محبوبة
تتبادل الفراغ بلا أوشام أو جذور تحرّرت من وثاق
الأفق الذي يلفّ ويدور كعادته الجوفاء التي لا يراودها
الشكّ فالفضيحة تعلن بُشرى التوبة المرحليّة وتنظيم
الهزائم بأقساط تشجيعية مسـتدامة حسب
مهارات الجماعة بنسختها الفرديّة كما هي الفطرة التي
مرّت بالجميع المتساوين في الحقوق التي فرضتها الواجبات المرتجلة
و يوقّع عليها ممثّلو الكيانات والمكوّنات القائمة حالياً
ومعهم طوائف المستقبل التي تحدّدها الأبراج الفلكيّة
كما جرت عليه عادات المجازفة بين الأجيال
النقيّة نقاءَ المياه الجوفيّة التي لم يسبق لها الاختلاط
بشوائب الأزمات المستطيلة في أثناء هبيب الليل
وقد خابَ مَن حملَ ظلما وسرقَ الهدايا واذا لم تستطع
الاتحاد مع الأحياء فاستعر الكفن من أحد الموتى وانّ
حصّتنا من الحبّ سجينة في ساعات صامتة لم يطبخها
العار ويقول رئيس القصيدة خافوا منّي لأخاف عليكم
فتخورالأشباح بأصوات ضحلة القرار خَفْ منا لنخاف وتبدأ بتشغيل الفراغ بكلّ طاقته
وطواقمه وتخرج الأحلام من جدران النوم تتنفّس
في حقول صاحية أمام الملأ الأعلى تماماً
حيث لا يفتح الهوى نافذته في البحر غريق الأبديّة وفي
تصاريف الأجل المقسوم الذي يحوم المحروم بالمجّان
وها أنت حرٌّ أيّها الموت الإضافي والحرّاس يتعجّبون
وكلّ شيء بعد فوات الأوان يحقّ له الانتظار في
زمان انطوى على نفسه مثل محارة مبتلاة بالإعياء
والأشواك البحريّة المستبدّة والأحلام تتباطأ كالإفيون
وأنا أريد أن أمشي وحيداً مالئاً الليل الذي اكتشفته
في الزنزانة الجمهورية المائلة التي ليس بإمكانها التشرّف
بالمستقبل الذي لا تعرف اختصاصه. تتعلّم الكلام
من المرايا ومعها. السماع الراجف هذا هو دوره
وعليك الآن أن تروغ من بوّابة الخرافة العظمى و تركن
نفسك في مرأب القوارب ذوات الصواري المتخاصمة
فيما بينها ومع الرياح الزرقاء المستوردة من
غابات الماضي الذي مازال يتعثّر في النظر الى أحشائه
النيّئة بالتوتّر العابر الحاضر الذي لا يكاد يخجل
من إشارة المرور فلست ابناً للأقدار لكنك أبوها
في الرضاعة. الأقدار تضحك من خمول شياطينك
الجبانة. هيّا انصرفْ إلى مواسمك. خذْ طريقك
في اللوح بعد الفرشاة المزدوجة وأنا انتظرك
وحيداً فهذه هي جنازتك الثانية التي تقدّمها
الأقدار وتحميها في كلّ مرحلة من مراحل كوكتيل
الأوهام التي لا يمكن تعويضها بالجدال المباشر الذي
يحبو عليه طفل يلوم نفسه على كوابيس الوالد والوالدة
وهما يعيشان التجربة المعكوسة في السباق مع بذور
الحقول دون وضع واقيات الزمن في المضمار احتياطاً
من انهيار النسيان تحت ضغط غير متوقّع تنهض به
نحو عقارب الساعات وحين لم تظهر الأمواج الحاسمة
فقد زادت الشموع من مرونتها في لوزة اللهب التي
تتغلغل في مشتقّات الزمان.
الآن صرتُ قرب الباب انتظر الربيع يسبح في مراياه
وتخيّطه ألوانه العذراء. نعم هكذا ينتصب الربيع أمامي
يرتشف جماله على مهل ويبتهل إلى أنغام خفيفة شفّافة حيث تشحب الأسباب ويرتوي السمع الرخيم.
وماذا كنّا سنعمل لو أغلق الماضي الأبواب. إذن
لغرقنا في زمان كثيف وأغرقنا معنا كلّ شيء وعدنا
الى حانة الذاكرة نأسف على الماضي الهجين كأنما
نحن لم ندفع عربون الحياة و الموت. وعدتُ الى
خاطري في أن أرى كيف يقضي الربيع ساعاته الأخيرة
فعدت أدراجي قبل أن ينعطف متبخّراً في رنين ناعس
و هواء نزيه يتعرّى للدعاء كالأشواق التي كان
يهدهدها ويسلّيها ويترك وزنه يخطف الطيور من
أفراخها في ذكرى مولد الهواء، فالطبيعة تضمّ
أسرارها ثم تغمرنا باستغاثة ثانية وكأنّها تشكرنا
على لقاء لم نقصد اليه لكنّه يساعدنا على التعارف
مثل لذّة تفوز بنعيم دافق يختلف عن الرموز
والربيع حائر بأنفاسه الباقية تشعّ في غيبوبة
تلتمس نأمة من الوداع الوديع مثل غزالة بابلية
تنمو فوقها الطبيعة، غزالة تفتح عينيها المسرورتين في
خضمّ المطاردة، تفتح عينيها على بقايا لغات.
التضامن الهندسيّ المتطوّر كالبرج الحكيم في هذا الفصل الخامس من الرذاذ القاسي
اقرأ ايضا
الفنانة إقبال نعيم:لدينا مؤسسات فنية بيد عناصر لا يؤمنون أصلا بالفن
حوار: جمال الشرقيعرفت الفنانة الدكتورة اقبال نعيم من عائلة فنية، فهي اخت الفنانة د. عواطف …