توماس مان: الموت سبب عظيم للحياة

لطفية الدليمي
في سنوات الحروب والكتب نادرة وثمينة كانت رواية هيرمان هيسّة (لعبة الكريات الزجاجية) ورواية توماس مان (الموت في البندقية) مخفيتين في زاوية غير مرئية في مكتبتي، وهما الكتابان اللذان بخلت بإعارتهما إلى الأصدقاء استثناء من الكتب الاخرى، لكن عتمة المخبأ التي أبعدت عنهما أيدي خاطفي الكتب من زوار مكتبتي -لم تنقذ الكتابين من نهم كائنات أخرى لم أعهد فيها شغفا بالقراءة أوعشقا لنوع محدد من الكتب، ولم يخيل إلي في يوم ما أن تختار الفئران عملين من روائع الأدب الألماني لتلتهمهما، ويبدو أن الفئران الذواقة توصلت بطريقة ما إلى اختيار بالغ الذكاء فأقامت وليمة لهضم (لعبة الكريات الزجاجية) التي عُدّت لدى الكثير من القراء من أصعب الأعمال الروائية هضما، ووجدت فيها هي ورواية (الموت في البندقية) متعة ميزتها عن الكتب الأخرى وقرضت أطراف الكتابين بشكل متدرج حتى منتصف الصفحات، في وليمة ليل عندما خلا لها الجو اثناء مغادرتنا البيت أثناء قصف قوات التحالف لبغداد، إذ تهشم زجاج النوافذ جراء الانفجارات فتسللت القطط والفيران في غيابنا من الحديقة إلى المكتبة وعبثت ماشاء لها العبث.
تساءلت حينها: هل شاءت الفئران نقض مفهوم توماس مان عن الجمال الذي عدّه الهدف الأسمى للعيش؟ أم تراها انتقدت وحشية الحضارات التي تقتل البشر لتداري انهيارها؟ لا أحد يعلم كيف تفكر فئران المكتبات ولا نعلم كيف تختار مذاقات الكتب- تحت جحيم القصف – بهذه الدقة التي تشكك في عشوائية اختيارها..
وبقيت حادثة قضم الفئران لهذين الكتابين مثار تندر الأصدقاء وهم يرون الكتابين المنهوشين وقد ضاعت ملامح كثير من شخصيات الروايتين وتحولتا إلى عملين مختلفين يمكن أن يكونا مشروعين لكتابين مغايرين لاعلاقة لهما بالروايتين الاصليتين، حدث ذلك بمحض مصادفة عشوائية حكمتها ذائقة الفئران (المثقفة) التي أثبتت لنا أنها تحسن اختيار الأعمال المهمة.
2
صدّر هيرمان هيسّه روايته الكبيرة بقصيدة حملت عنوان (الكريات الزجاجية):
(وتبدأ في وجداني لعبةُ أفكار، اهتممت بها منذ سنين، اسمُها “لعبة الكريات الزجاجية ” هيكلها الموسيقى، وأساسها التأم).
بنى هيرمان هيسه روايته العظيمة بناء سيمفونيا في قلعة كاستاليا قل نظيره في الأدب المعاصر، ويمكن أن نعدها كتابا في الفلسفة وتاريخ الثقافة والتاريخ والحكمة وأولا وقبل كل شيء هي كتاب عن عظمة الموسيقى والعصر الكلاسيكي برمته، تناول فيه الكاتب ثقافة العصر بالنقد الدقيق والتقييم، و شرع في كتابتها قبل صعود النازية 1931 وأنهاها 1942، ولم تنشر في المانيا إلا سنة 1946.
يقول على لسان إحدى شخصياته في رواية الكريات الزجاجية:
(لو أخذنا الاستعداد المطمئن للموت، كما في أعمال باخ، فإننا نجد فيها دائمًا العناد والشجاعة أمام الموت، ونجد فيها الفروسية، ونغمة مِن ضحك فوق مستوى البشر، وإشراقًا خالدًا لا يموت. هذا ما ينبغي أن ينبض في لعبنا بالكريات، وينبض في حياتنا كلِّها، وينبض في ما نفعل وفي ما نعاني).
3
تنعى رواية (الموت في البندقية) لتوماس مان عصراً كاملاً موشكا على الغروب وتقدم لعهد أوروبي جديد هو عصر الآلة الذي طبع الحياة المعاصرة بلمسته المعدنية الباردة سواء في الفن والأدب والفكر والاقتصاد والسياسة، وناقش توماس مان مفهوم الفن والجمال وعبادة بعض المثقفين البطِرين لهما، بطله (آشنباخ) الذي يعاني من عقم إبداعي شل قدرته على التأليف الموسيقي، يبدو اختياره للعيش في مدينة (البندقية)التي ضربها الطاعون، تجسيدا حيا لطبقة اوروبية كاملة متهاوية كانت تعتبر الجمال قيمة مقدسة لايمكن المساومة عليها، وسط عالم يتداعى بأفكاره ومفاهيمه، وعندئذ يتحول الموت إلى حل وحيد حين تتغلب الآيروسية على نزعات الروح وانسحارها بالجمال الفاني الذي يكابد البشر من أجل تخليده وبقائه..
يقول توماس مان على لسان بطلته روزالي وهي تخاطب ابنتها في رواية(المخدوعة) في تمجيده الفلسفي للموت: (لا تنعتي الطبيعة بالخداع والقسوة. سأذهب الآن رغماً عني بعيداً عنكم وعن الحياة وربيعها. ولكن كيف سيكون الربيع بلا الموت؟ إن الموت سبب عظيم للحياة!).
لقد بعثت لنا الفئران برسالة ساخرة من حيرتنا أمام الموت ومحاولة فلسفته وتفسيره واختصرت لنا الفكرة: أن نتقبل الحياة والموت ونتمتع بالجمال والوجود دون هوس لتحليل معضلة الموت أو البحث عن مضاداته في فكرة الخلود والشباب الخالد التي استعصت على بطل الروايةعندما جف نبع الابداع لديه بهيمنة عصر الصناعة والآلة وشيوع النزعات العدمية بعد الحرب العالمية الأولى..

اقرأ ايضا

زيارة إلى توماس مان

عمر أبو سمرةلا أُنكِر شُعوري بالرهبة وأنا أتلصّص بحذرٍ على مكتبة توماس مان (1875 – …