د.عماد عبدالسلام رؤوف
عاش المشرق العربي إبَّان إعادة الحكم العثماني المباشر إليه في الثُّلث الأول من القرن التاسع عشر، منعطفًا مهمًّا في تاريخ تطوره السياسي والحضاري العام، تمثَّل بزوال حكوماته المحلية شبه المستقلة عن الإدارة العثمانية المركزية، ومن ثَمَّ ضياع آخر أمل بالاستقلال، ونتيجة لانفتاح البلاد على التجارة الرأسمالية الأوربية، قضِي على إمكانات تطورها الاقتصادي المستقل، ومهد الطريق لهيمنة اقتصادية أجنبية متزايدة، سرعان ما اتخذت بعدًا سياسيًّا ملحوظًا، واقترنت بجملة من الظواهر الاجتماعية المعقدة.
ومن ناحية أخرى شهد المشرق العربي قيام دولة محمد علي في مصر، بما تمثِّله من روح عصرية جديدة، ووصول الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي إلى بلاد الشام، وإحرازه الانتصارات السريعة على القوات العثمانية؛ ليضم هذه البلاد إلى مصر في دولة واحدة، كما كانتا في معظم حِقَب التاريخ، ومن الطبيعي أن تؤدي تلك المتغيرات الجديدة إلى بعث الأمل لدى الفئات العراقية المعارضة لإعادة الحكم العثماني المباشر، للتخلص من السيطرة العثمانية، وهكذا فقد شهِدت مدن العراق قيام انتفاضات شعبية متعددة، عبرت في واقع الأمر عن رفض السكان عودة السيطرة المباشرة على مدنهم، بما تعنيه من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة، وقد بلغ من عنف هذه الانتفاضات وامتدادها، أنها كادت- في بعض اللحظات – أن تقضي على الوجود العثماني نفسه، أو أن تحرجه إلى حد كبير، كما تدل مجرياتها على اختصاصها بقيادات ذات تجربة وبأس، وحسن تقدير للمواقف السياسية عهد ذاك، ففي بغداد شبت الثورة في الجانب الشرقي في 27 ذي الحجة 1247 (آخر أيار 1832م) بزعامة مفتي المدينة عبدالغني آل جميل.
وتشير التقارير إلى أن نصف أهل بغداد كانوا في ثورة على واليها رضا باشا اللاظ ـ(1247-1258هـ / 1831 – 1842م)[2]، ولم يتم القضاء على الثورة إلا بعد قصف مراكزها بالمدفعية، والتنكيل بالثوَّار، وحرْق دُورهم[3]، ولم تكد الثورة أن تنتهي حتى نشَبت ثورة أخرى في الجانب الغربي من بغداد، قامت بها عشيرة عقيل النجدية التي سبق وأن اتَّفق زعمائها مع القيادة المصرية في الشام، ونجح رضا في القضاء على الثورة بعد استعمال مدفعيته مرة أخرى.
وفي البصرة شكل الثوار قيادة جديدة تحت زعامة عزير آغا متسلم المدينة السابق، وحاول الأخير إزاحة علي رضا باشا عن حكم بغداد بالقوة، إلا أن محاولته لم تنجح بسبب الأوضاع الدولية.
تدل الشائعات التي انتشرت بين الناس في تلك الآونة على مدى ضَعف السلطات العثمانية، وحراجة موقف علي رضا، فقد أُشيع أنه اعتصم بقلعة بغداد، وأنه فرَّ من المدينة، وأنه لقِي مصرعه، وأن أهل بغداد عزلوا الوالي الذي نصبته الدولة العثمانية عليهم، وعينوا مكانه واليًا من بينهم؛ إبرازًا لميلهم إلى مصر، ولم تقتصر الثورة على المدن الرئيسية فحسب، وإنما امتدت إلى ما سواها من المدن والقصبات، فأظهر متسلم (عانه) طاعته للحكومة المصرية، وأعلنت (هيت) انضمامها إلى جانب مصر، فزاد ذلك من حراجة الموقف العثماني في بغداد، حتى قيل: إن “كل البلاد الواقعة بين بغداد وحلب منتظرون قدوم العساكر المصرية المنصورين”. وأكد التقرير الذي رفعه قنصل إنكلترا في بغداد “أن هذه الولاية هي الآن في أشد حالات البؤس والضيق تحت حكم علي باشا، وأنظار الشعب العربي متجهة في المحبة نحو إبراهيم.
ـو في الموصل كانت الأسرة الجليلية التي حكمت الموصل مدة قرن تقريبا، تتحيَّن الفُرَص لاسترجاع حكمها بعد أن أوْدَت السياسة العثمانية المركزية بحكم آخر ولاتها يحيى باشا الجليلي، وقد أقام الأخير في حلب متابعًا أخبار تقدم الجيش المصري، وهزائم العثمانيين إزاءه، ويظهر أن اتفاقًا قد جرى بين القيادة المصرية بوساطة حليفه الشيخ صفوك الفارس شيخ مشايخ شَمَّر الجَربا؛ إذ ما أن قارب إبراهيم باشا دخول حلب، حتى غادرها يحيى باشا متجهًا مع حليفه صفوك نحو الموصل، وكانت المدينة تعيش فترة قلقٍ واضطراب آنذاك بسبب عجز الدولة العثمانية عن حمايتها إزاء الأخطار المجاورة.
وتشير بعض الوثائق إلى أنه “استولى على الموصل بمساعدة بعض سكانها”[16]؛ مما دلَّ على وجود كتلة، أو حزب، مؤيدة له في الثورة على الدولة العثمانية، وإن هذا الحزب كان من القوة؛ بحيث لم يَبق بيد المتسلم المنصوب من قِبَل علي رضا إلا حيٌّ واحد فقط، وهو قريب من السقوط، وأن يحيى باشا أعلَن بصراحة أنه يحكم الموصل بامرٍمن دولة إبراهيم باشا لا بأمر الدولة العثمانية,
وإذ يذكر الوكيل السياسي البريطاني في بغداد الكولونيل تايلرTaylar، أنه كان في الموصل حزب قد أخذ جانب مصر، فمن الراجح أن يكون هذا الحزب هو الذي استند إليه يحيى باشا في فرْض سيطرته على المدينة، ولم يستطع العثمانيون القضاء على حكمه إلاّ بعد اتباعهم سياسة إشغال حليفه صفوك في نزاعات قبلية مستمرة، وبعزله تَمَّ القضاء على آخر الحكومات المحلية شبه المستقلة في العراق، وفرضهم الإدارة المباشرة عليه.
وكنا لا نعلم مصير هذا الحزب المؤيد لزعامة الجليليين، وللإدارة المصرية في الشام، بعد انتهاء حكم يحيى باشا الجليلي، حتى وقفنا على وثيقة مهمة تتضمن تقريرًا سريًّا بعث به أحد ضباط الجيش المصري إلى إبراهيم باشا في الشام سنة 1255هـ/1839م، تحدث في بعض فقراته عن انتفاضة كبيرة قام بها الموصليون في تلك السنة، وقد جاء في التقرير ما يأتي:
ـ”..جواب الشيخ الموما إليه (هو حُمود جَسّار) الأول بخصوص علي باشا (اللاظ)، فإنه بتاريخ 35 ص (صفر) 1255، قد وكل بغداد فريق باشا[21] وملا علي[22]، وهو توجه إلى الموصل بينه وبين بغداد مقدار اثني عشر يومًا، ومعه من العساكر مقدار سبعة آلاف من الجهادية وغيرهم، وكان وصوله في ثاني من ربيع الأول، وحصل بينه وبين أهل الموصل وقعة، فقَتَل من أعيانهم اثنين وسبعين شخصًا، وسيَّر من العلماء سبعة إلى نواحي البصرة من دون ذنبٍ، غير أنه يخبر على أنهم كاتبو سعادة أفندينا إبراهيم باشا، ومُبغضون إلينا…”.
فهذا النص يكشف على أن (الوقعة) المذكورة لم تكن – في حقيقة الأمر – إلاَّ انتفاضة شعبية عارمة، شارَك فيها عددٌ كبير من أعيان المدينة وزعمائها؛ لأنه ليس مألوفًا أن يُعدم هذا العدد الكبير منهم، ما لم تكن قد شمِلت المدينة بأسْرها، وباتت تهدِّد الوجود العثماني
هناك نفسه. وتدل معاقبة العلماء بنفْيهم إلى البصرة، على مشاركتهم الفعلية في حوادث الانتفاضة؛ إذ لولا تلك المشاركة وجدِّيتها، لما تعرَّضوا إلى النفي والتبعيد.
عن بحث: اضواء على انتفاضة الموصل المنسية سنة 1839.
اقرأ ايضا
الغناء الريفي في العراق.. إنتشار بعد إنحسار
صلاح حسن السبب المهم الذي جعل الغناء الريفي ينحسر كل هذه الفترة البعيدة حتى بداية …