صلاح حسن
السبب المهم الذي جعل الغناء الريفي ينحسر كل هذه الفترة البعيدة حتى بداية القرن العشرين هو انعدام وسائل الإعلام وعدم توفر المدارس الموسيقية في كل أنحاء العراق وعدم اكتشاف تقنيات التسجيل. أما في العقد الثاني من القرن العشرين و بسبب توفر وسائل الإعلام المسموعة ومن ثم المرئية استطاع الغناء الريفي في العراق أن يحقق بعض الانتشار. رغم ذلك ظل الغناء الريفي يعاني من التغييب منذ منتصف الخمسينيات لأسباب سياسية، قياسا إلى المقام العراقي و الموسيقى الغربية التي دخلت العراق مع الاحتلال البريطاني في العشرينات وأخذت حيزاً كبير في الإعلام و التعليم والمهرجانات والمحافل الموسيقية الدولية. وبسبب الهجرة من الريف إلى المدينة منتصف الأربعينات عرف الغناء الجنوبي الانتشار وانحسر دور الألوان الأخرى. في منتصف الستينات والسبعينات ظهر مطربون وملحنون وشعراء يستندون إلى ارث الغناء الجنوبي مثل سعدون جابر، حسين نعمة و فاضل عواد، ياس خضر، فؤاد سالم، قحطان العطار، رياض احمد، حميد منصور استطاعوا أن يثبتوا إمكاناتهم وأن يأخذوا مكانهم الصحيح. في هذه الفترة ظهر العصر الذهبي للأغنية العرقية حيث اعتمدت على قصيدة عميقة تحمل هموم الجنوب وحكمته، قصيدة بعيدة عن ترف المدينة أصبحت لها مقدمة موسيقية طويلة ولوازم تتخلل الأغنية. مساحات الصوت الريفي أوسع من غيره بسبب التكوين الجغرافي وتعدد المقامات والإيقاعات. فالمقارنة البسيطة بين أغنية (يا طيور الطايرة) وبين أغنية (طالعة من بين أبوها) يجعلنا ندرك أن الأولى تحتوي على أربعة مقامات و ثلاثة إيقاعات، أما الثانية فهي ذات إيقاع ومقام واحد كما يشير إلى ذلك احمد مختار في واحد من بحوثه.
من ارض الحضارات مدينة الناصرية (ذي قار) ومدينة العمارة (ميسان) حيث توفرت كل الظروف البيئية و الطبيعية ظهرت أصوات جميلة مثل (جخير سلطان) التي وجدت شركة (بيضفون) صعوبة كبيرة في البحث عنه وإحضاره للتسجيل لأنه كان يعيش في قرية نائية. جاءت به إلى بغداد وكان قد ابتكر أسلوبا في الغناء الريفي رغم انه يغني بالفطرة و لا يعرف على أية نغمة أو مقام يغني.
و من أبرز الأسماء التي اشتهرت من الناصرية ناصر حكيم الذي اشتهر بصوته العالي الجهور وكان شاعراً وملحناً وله أغان مهمة في الغناء الريفي. حضيري بو عزيز, مسعود العمارتلي والمطرب الريفي الكبير داخل حسن. وقد عاش هؤلاء في الفترة الزمنية نفسها وكان داخل حسن الأكثر قبولاً من قبل شركة بيضفون بسبب خامة صوته النادرة التي تمتلك ترددات صوتية توحي بأنها أكثر من صوت في آن واحد مما يصطلح عليه في العراق (البحة) أو التطويح حيثحصل على حيز جيد في مجال التسجيل. ثم تسارعت إليه الشركات لأنه يمتاز بحنجرة غريبة إضافة إلى إحساسه العالي بالجملة الموسيقية والشعر الذي يغنيه رغم انه كان رجلاً أميا لكن مطرباً ذكياً بالفطرة. وفي عام 1948 شارك داخل حسن في التظاهرة التي تندد بتقسيم فلسطين حيث رفعه الجمهور ليغني أغنيته المشهورة (أنا العربي تعرفوني) واثر ذلك فصل من دار الإذاعة. لكن بعد ثلاثة أشهر يتوسط له محبو غنائه ويخرج من السجن ويعاد إلى دار الإذاعة. يمتاز داخل حسن بقدرته على اختيار شعر يدخل إلى القلوب بسلاسة كما يمتاز بذاكرة فهو يجيد غناء كل الأطوار الريفية وبأداء متقن غنى طور الشطري والمستطيل و المخالف والعياش حجاز والحياوي. أما طور المحمداوي فلم يغنيه بكثرة لأنه كان من اختصاص مدينة العمارة أمثال مسعود العمارتلي وسلمان المنكوب و فرج وهاب.
أما الفنان حضيري بوعزيز فهو لا يقل شأناً عن زملائه، كان خياطاً في سوق الشيوخ يقضي نهاره بالغناء حتى مل منه أستاذه وأبعده عن الدكان فركب ناصية الفن التي أوصلته إلى الشهرة وله حكايات طريفة من خلال الأغاني التي ألفها ولحنها وقام بأدائها. لكنه اشتهر بأداء (الصبّي) والصبّي من نغمة النهاوند ويقرأ بالابوذية و ينسب هذا الطور الى (الصابئة) فسمي باسمهم.
مدينة العمارة
مسعود العمارتلي هو من سكان مدينة (ميسان) العمارة وأسلوبه في الغناء يعتمد على أطوار اشتهرت بها العمارة وطبقة صوته عالية جدا حيث تقول المصادر المحكية ان مسعود العمارتلي امرأة وليس رجلاً. امرأة كانت تعمل في بيت احد شيوخ مدينة ميسان نبغت منذ طفولتها بالغناء وكان لها صوت جميل وهي تحفظ الأطوار الريفية المتداولة في ذلك الوقت وتؤديها أداء متقناً وبسبب التقاليد حرمت من الغناء. ولأنها عشقت الغناء وبسبب ميلها الرجالي وصوتها المتميز الذي دعا الجميع الى تشجيعها أصبحت مسعود العمارتلي وارتدت ملابس الرجال وصار لها اسطوانات عديدة تحتوي على اغلب الأطوار الريفية وأغان تعد من صلب التراث الريفي واكتشف أمر العمارتلي بعد ان حقق شهرة كبيرة. لأهل العمارة مطربون كثيرون ولهم نغمة خاصة بهم تسمى طور (المحمداوي) فبالإضافة إلى سمته الخاصة فهو يعتمد على نغمة الصبا ممتزجة بنغمة اللامي. وله سبعة أوجه فكل عشيرة تقرأه بشكل يختلف عن العشيرة الأخرى بالإضافة الى طور (الصبّي).
عبد الأمير الطويرجاوي مطرب استطاع أن يجمع بين والغناء الريفي و المقام البغدادي حين ترك مدينته القريبة من محافظة كربلاء و اتجه الى بغداد، و قد نال أسلوبه استحسان الريف والمدينة.
أدخلت آلة الكمان والعود وصارت مستخدمة في الغناء الريفي الجنوبي العراقي في العشرينات و الثلاثينات أما في الخمسينات من القرن العشرين فقد نبغ موسيقيون كان لهم الأثر الكبير على كل المطربين وعلى مدرسة الغناء الريفي ككل. من هؤلاء الفنان فالح حسن عازف كمان مبدع عرف عنه إلمامه بكافة أطوار غناء الابوذية وخاصة التي ترتكز منها على مقامي البيات والصبا مثل طور المحمداوي والغافلي والمستطيل وغيرها. وللفنان فالح حسن اثر كبير في ديمومة وتطور الغناء الريفي لعدة أسباب لعل من أبرزها: –
- قيادته للفرقة الموسيقية المصاحبة للمطرب الريفي وهو المتعلم الموسيقي الوحيد بينهم.
2.توجيه المطرب أثناء الغناء ووضعه على مسار الطور وبخاصة للمطربين قليلي الخبرة.
3.ابتدع أسلوب التوثيق في الأغنية الريفية العراقية حيث كان بصوته العذب يوثق في مقدمة التسجيل لتاريخ ومكان التسجيل إضافة إلى اسم المطرب والملحن والشاعر وكذلك الحضور.
4.ابتدع أسلوب إدخال مقطوعة موسيقية لأغنية سائدة أثناء تأدية المطرب وذلك لإراحته وكذلك لينقل المستمع من أجواء الشجن إلى أجواء الطرب. - تدريب وتوجيه العازفين الشباب.
- كان نجمًا متألقا في العديد من البرامج واللقاءات التلفزيونية.
بقي أن نعرف بأن الفنان فالح حسن إضافة إلى موهبته الفطرية فقد درس أصول العزف على آلة الكمان في معهد الأمل ببغداد.
عن صفحة (مجلة الشعر العربي) من بحث (خصوصية الغناء الريفي العراقي وخصوبته)