كياروستامي: أنا مخرج بالصدفة والرسم حلمي

نزار الفراوي
كان يحلم بأن يكون رساما، لكن سلسلة مصادفات تعاقبت جعلت الفنان عباس كياروستامي مخرجا محترفا وأشهر عباقرة السينما الإيرانية ومعلما مرجعيا في محافل الفن السابع عبر العالم.
“ليس تواضعا بل هي الحقيقة”، يقول عباس كياروستامي الذي قدّم محاضرة سينمائية في إطار الدورة الـ15 لمهرجان مراكش السينمائي الدولي. “لم يكن حلمي الإخراج بل الرسم، غير أني وجدت نفسي رساما فاشلا وتوالت مجموعة من المصادفات جعلتني مخرجا محترفا”.
ينقب المعلم الكبير في ذاكرته البعيدة فلا يجد مؤشرات أو إرهاصات دالة تبشر بميلاد المخرج في شخصيته، حيث عاش ما عاشه إخوته وأقرانه، وكان شغفه مبكرا بالسينما، شأن الكثيرين من فتيان تلك المرحلة، لكنه يخمن أنه ربما تميز عنهم بصفة “الفضول الشديد” التي يرى أنها عنصر مهم في مهنة الوقوف خلف الكاميرا، بل تكاد تكون شرطا جوهريا لنجاحها.
في محاضرة “ماستر كلاس” التي اعتاد تقديمها كبار المخرجين العالميين ضمن فعاليات مهرجان مراكش منذ 2004، وبحضور حشد من النقاد والسينمائيين والإعلاميين من ضيوف التظاهرة، قال عباس إنه بدأ مساره الفني رسام غرافيك، وأنجز تصميمات إعلانات الأفلام (أفيشات)، واشتغل في الإعلانات، حيث تعلم توظيف الكاميرا ليجد نفسه مطلا على هذا العالم الجديد: الإخراج.
عمل مفتوح
يطيب لرائد السينما الإيرانية أن يردد بأنه ينجز أفلاما “غير مكتملة”، ذلك أنه ضد الرؤية الأحادية الناجزة، التي تقدم منتجا قابلا للاستهلاك، ويرى أن المشاهد شريك في صناعة الفيلم وحياته بعد الخروج إلى العرض.
فالجمهور -بالنسبة لكياروستامي- يرصد غالبا أشياء قد لا يكون واعيا بها أو قاصدا إنجازها، إنه يؤول ويحذف ويضيف ويسائل رسائل الفيلم ومواقف الشخصيات، وهنا يشدد على أنه لا يحبذ فرض قراءة وحيدة للعمل السينمائي.
يقرّ عباس كياروستامي بأنه من الوارد أن تتشابه في أفلامه حالات ومواقف، وتتكرر مشاهد وتصورات في التأليف والإخراج بشكل غير واع لديه، لكنه معني أكثر بإنجاز أفلام جديدة مستقلة عن سابقاتها وعن أعمال الآخرين، لولا أن “التنوع اختيار لكن التشابه واقع لا يرتفع”.
يورد لهذا الأمر تشبيها: “بعد فراق مأساوي، يبحث العاشق عن حبيب مختلف كليا عن سابقه الذي خيب أمله، ومع الوقت يكتشف أن هذا الحبيب يماثل إلى حد بعيد ذلك الشخص الذي كان يبحث عن بديل له”.
الشعرية المطاردة
حضور الشعر والرمز في تشكيل الصورة السينمائية، كما في نسج الحوار وانسجام العناصر من موسيقى ومشاهد ومواقف الشخصيات، سمة بارزة في أعمال هذا الفنان، لكن كياروستامي ينبه إلى أن تحقق مستوى الشعرية والرمزية لا يرتبط عنده بعمل مقصود لذاته، وبوعي سابق.
شعرية السينما أمر لا يمكن التحكم فيه في نظره، كل ما هناك أن الفنان مدعو إلى اقتناص تلك الشذرات الشعرية المنفلتة. ويقارن الفنان الإيراني بين الفن السابع وكرة القدم؛ ففي مباراة كرة القدم تكون لحظات التألق والأداء قليلة عموما على مدى التسعين دقيقة، وكذلك الشأن في الفيلم السينمائي.
مستويات حضور هذا الشاعرية تتفاوت باختلاف أعمال كياروستامي الذي لا يتردد في القول إنه لم يتمكن من الوصول لنفس الدرجة الشعرية في جميع أعماله، التي لا ترقى كلها إلى فيلم من قبيل “طعم الكرز”، الذي حاز عنه جائزة مهرجان كان.
هوية إنسانية
أما عن السينما والهوية، وجدلية العالمية والخصوصية، فيقلل كياروستامي من جدوى الانشغال بها ما دام يعتقد بأن جغرافية الفيلم هي العالم، وهويته يحددها الشرط الإنساني الذي يتماثل لدى البشر، وإن اختلفت الأوضاع والمظاهر.
ويوضح المخرج الكبير أنه لا يبدي اهتماما ذا شأن بمسألة الاختلافات الثقافية، فهو كمشاهد يجد نفسه بسهولة في إحدى شخصيات المخرج الياباني أوزو، كما قد يتقمص بسهولة شخصية راعي بقر في فيلم أميركي. بالنسبة له “الإعلام قد يمزق ويفرق بيننا، لكن فن السينما عامل توحيد للكائن البشري”.
يذكر عباس أنه يُتهم لدى بعض الأوساط في إيران بأنه تعرض للتغريب، في إشارة إلى بعض القضايا ووجهات النظر التي تحمل لمسات الغرب في أعماله، وكأنه حاول الرد عليهم بتصوير فيلم في اليابان. رده على تلك الاتهامات كان صريحا “قدماي راسختان في إيران، لكنه لا شيء يمنعني من التحليق بجناحي في الغرب والشرق على السواء”.
يرفض كياروستامي أن يوجه نصائح ووصفات للشباب الذين يصنعون سينما الغد، لكنه يطرح وصية للمخرجين الواعدين بضرورة البحث عن الإلهام في ما يحيط بهم، والمراقبة الدقيقة والذكية لتحولات الحياة، والإنصات لنبضاتها، فضلا عن تقاسم التجارب مع الآخرين.
· عن موقع الجزيرة

اقرأ ايضا

إخوة يوسف كما رواها توماس مان

ترجمة / أحمد فاضلأي شخص يحب القراءة ولديه طموحات أدبية ما أن يقرأ للكاتب الألماني …