محمد عبد الرحيم
“إن الزهرة حين تنمو في أرض بعينها فإنها تتشرب بروح تلك الأرض، إذا انتُزعتْ ووُضعتْ في مكان آخر فإنها قد تستطيع أن تنمو، لكن لن يكون لها أبداً العطر نفسه”. هكذا قال المخرج الإيراني الراحل منذ أيام عباس كياروستامي (حزيران/يونيو 1940 ــ تموز/يوليو 2016)، الذي أصبحت أعمال السينمائية تمثل إضافة حقيقية إلى الفن السينمائي والفن عموماً على مستوى الرؤية والأسلوب. لم يترك كياروستامي إيران كما العديد من السينمائيين، بعد وصول الحكم الإسلامي إليها، بل ظل يعمل وفق هذا المناخ، واستطاع أن يخلق لغة سينمائية أشبه بالشعر، تقف أمام نظام حُكم ينظر في ريبة إلى مثل هذا الفن. ومن هنا أصبحت هذه اللغة في الإيحاء والإيجاز هي ملاذ الرجل، بل وأرضاً صلبة ينطلق منها إلى مناقشة موضوعات غاية في الصعوبة. لعبة التجريد هذه هي ما ميزت أعمال الرجل، ليس تجريداً غامضاً، بل العمل من خلال الإيجاز والاقتصاد، وصولاً إلى فلسفات أو البحث عن المعاني الكبرى التي تشغل الإنسان في أي مكان.. الحياة والموت، الحب، العلاقات الإنسانية، الفرد ومشكلاته. ورغم طبيعة المجتمع الإيراني إلا أن الرجل حاول خلق مساحة فنية تعتمد موضوعات إنسانية، بحيث تسع جميع الأجناس في أي مكان في العالم. هذه لمحة سريعة عن عالم الرجل بمناسبة رحيله، فمعظم أعماله تستحق أكثر من دراسة مفصلة.
الحياة والموت
من الموت نعرف قيمة الحياة، هكذا أدرك كياروستامي المعنى، وحاول تأصيله عبر عدة أفلام، أشهرها ثلاثية “كوكر” هذا الزلزال الذي ضرب شمال إيران والذي راح ضحيته أكثر من خمسين ألف مواطن إيراني عام 1990. فيقول.. “ذهبت إلى كوكر بعد ثلاثة أيام من الزلزال، 50 ألف شخص كانوا قد توفوا تحت الأنقاض، كنت حزيناً ومكتئباً، ولكن ما لفت نظري أكثر هو قدرة الناس على مواصلة حياتهم، الزلزال حدث في الخامسة صباحاً، أي شخص من هؤلاء الأحياء كان يمكن أن يكون نائماً ويموت أيضاً، كان هناك امتنان عند كل منهم لبقائه حياً”. من هنا أدرك الرجل المعنى، وهذا ما جعله يتفهم ويستشعر كلمات “عمر الخيام”.. “حين زرت منكوبي الزلزال في إيران منذ أعوام، رأيت تناقضا واضحاً وهائلاً بين الموت والحياة لم أره بهذا القرب من قبل.
فهمت حينها فلسفة الخيام بشكل أفضل. تنص فلسفته على أنك لكي تُقدر الحياة يجب أن تقترب من الموت أكثر، وأنا حينها لم أر الموت، بقدر ما اكتشفت الحياة.
” طعم الكرز”
هذا الفيلم الفائز بسعفة مهرجان كان عام 1997، ويتحدث ــ داخل إيران ــ عن رجل يحاول الانتحار! رجل في سيارته يجوب البلاد يحاول الانتحار، ويبحث عن شخص يقوم بدفنه بعد موته. هكذا تبدو الحكاية، ولكن مشكلة الفرد لم تكن الأساس، فقط ظلالاً لحكايات ومشكلات أكبر، كالشاب العائد إلى قريته من إجازة التجنيد، والرجل الذي يباغت البطل بأن الموتى لا يتذوقون طعم الكرز! سبب من أبسط أسباب التعلق بالحياة، كما الحياة نفسها، بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، لا يهم معرفة النهاية، فهل انتحر الرجل بالفعل، أم نفي عن مخيلته الفكرة. وأين تقع المسافة ما بين حرمة الروح والجسد، يريد أن ينتحر، ويخشى على جسده، ويريد التأكد من ان أحداً سيواريه الثرى.
TEN
في هذا العمل أيضاً يستعرض كياروستامي مشكلات المجتمع الإيراني، من خلال سائقة تاكسي، وعبر رحلات النساء معها نتعرف هذا العالم، بدون أي افتعال.. المهجورة من حبيبها، التي تتنازل عن زينتها طواعية ــ تقص شعرها تماماً ــ وكأنها تتنسك بعدما هجرها، وقد فقدت الكثير من وزنها، ودخلت بالفعل في إغواء المأساة ــ أشبه بحالة من حالات رولان بارت في كتابه “خطاب في العشق” ــ والمرأة التي تذهب إلى المقام لتوفي بنذر قديم. السائقة المنفصلة عن زوجها، التي تتبادل طفلها معه في زيارات رسمية حسب قوانين الطلاق، تسير في الشارع بعربتها، ولا نعرف أيا من الحكايات تتقاطع معها، ولا أيا من النساء لديها ما ترويه. حالة فتاة الليل من أفضل الحالات التي قابلتها المرأة، التي لديها من الدروس الحياتية الأعمق، بأن تعترض سائقة التاكسي على مهنة المرأة، وبعد الحوار معها ــ الفيلم عبارة عن حوار طويل متداخل ومتشعب ــ تحاول المرأة استبقاء فتاة الليل أكثر، كلماتها الحقيقية أضاءت لها الحياة، رغم الوقوف طويلاً في شارع ماطر ليلاً، بجوار مصباح وحيد، والمقارنة بأن كلا منهما مثل الأخرى في ظل قوانين كهذه.. فبينما فتاة الليل امرأة بالأجرة، فالزوجة امرأة بالتمليك. هكذا يتعامل الرجل، وهكذا يوافق المجتمع ويمنحة أساليبه للحفاظ على هذه الحالة.
تمجيد الحياة
رغم الحالة العامة لموضوعات كياروستامي، بخلاف أسلوب التجريد والإيجاز في اللغة السينمائية، والاعتماد على الحوار في بعض الأفلام، أو الإيقاع الهادئ جداً، والمزج الواعي ما بين الأسلوب الوثائقي والروائي، فالممثلون وهم يحكون حكاياتهم أمام الكاميرا، وكأنه حدث عادي غير مُرتّب أو مصنوع. ورغم الموضوعات الشائكة التي يعالجها الرجل بأفلامه، إلا أن الواقع الحياتي من خلال رؤيته لا يبتعد عما نحياه ونصادفه بالفعل. لا يبحث من خلال أفق غامض، أو تهويمات فنيــــة، توجد فلسفة، بدون الشعور بحالة التفلسف.
هذه إحدى أهم سمات عباس كياروستامي، الذي كتب السينايو والشعر، لتصبح أفلامه بحق قصيدة طويلة متواصلة، مهما تعددت وجهات النظر التي يرى من خلالها الفن والحياة.
الجوائز
في عام 1993، حصل على جائزة “فرانسوا تروفو” في مهرجان “جيفوني” في إيطاليا، عن مجمل أعماله، وفي العام نفسه حصل على جائزة مدينة “ريميني” في إيطاليا.
في 1995 حصل على جائزة “بيير باولو بازوليني”، من مؤسسة “بازوليني” في روما، في عام 1996، حصل على جائزة مخرج العام من دليل “فاريتي” للأفلام العالمية، كما كرّمته وزارة الثقافة الفرنسية.
في عام 1997 فاز فيلمه “طعم الكرز” بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. كذلك حصل على عدد من الجوائز الخاصة عن مجمل أعماله، من مهرجان إسطنبول، وبانوراما السينما الأوروبية في اليونان، ومهرجان أفلام الشرق الأوسط في فرنسا.
وفي عام 1999 فاز فيلم “ستحملنا الريح” بجائزة الدب الفضي في مهرجان البندقية الإيطالي.
في استفتاء أجرته مجلة “Film Comment” الأمريكية، تم اختياره كأفضل مخرج في التسعينيات. وفي استفتاء آخر أجرته “سينماتيك أونتاريو” في كندا عام 2000 تم اختياره كأكثر المخرجين بروزاً في الفترة نفسها. حل في عام 2000، في المركز السادس، حسب تصنيف صحيفة “الغارديان” الإنكليزية لأفضل عشرة مخرجين معاصرين. في 2003، حصل على جائزة “كونراد وولف”.
وفي 2005، نظم معهد الفيلم البريطاني مهرجاناً لأعماله، إضافة إلى إدارته لإحدى الورش بعنوان “عباس كياروستامي – رؤى الفنان”. كما منحه مهرجان “لوكارنو” جائزة خاصة. في عام 2006، اختير في استفتاء للنقاد، أجرته صحيفة “الغارديان”، كأفضل مخرج غير أمريكي، فضلاً عن حصوله على جائزة “هنري لانجلوا”.
· عن القدس العربي
اقرأ ايضا
إخوة يوسف كما رواها توماس مان
ترجمة / أحمد فاضلأي شخص يحب القراءة ولديه طموحات أدبية ما أن يقرأ للكاتب الألماني …