د. رافع أحمد الفَلَاحي
ولد الكاتبُ والصُّحفيُّ الرائدُ (إبراهيم حلمي العُمَر) في محلة سوق الجديد في بغدادَ بجانب الكرخ عام (1890م)، وليست هناك مصادرُ دقيقة (توافرت للباحث) توثِّق نشأته، لكنه كحال غالبية أطفال تلك المحلة البغدادية القديمة، دخل (الكتاتيبَ) المنتشرةَ آنذاك، فتعلَّم فيها القراءةَ والكتابةَ منذ وقت مبكر من طفولته، فغرزت في نفسه حبَّ القراءة والاهتمامَ بمطالعة الكثير من الكتب والروايات والقصص الأدبية التي توفَّرت له، ما جعله يُتقن اللغةَ العربيةَ بشكل جيد؛ فنَمَت مداركُهُ وملكةُ فن الكتابة والتعبير لديه، الأمر الذي جعله يطمح أن يكون كاتبًا يُسطِّر أفكارَهُ في مقالات وبحوث تكون في متناول القراء، كحال من كان يقرأُ لهم.
وحين توفَّرت له فرصةُ وضع قدمه على طريق تحقيق طموحه ككاتب، تمسَّك بـها بكل قوة على الرغم من كونه مازال طالبًا في المدرسة الإعدادية ولم يكن قد تجاوز الثامنةَ عشر من عمره، إذ وافق على عرضٍ تقدَّم به صديقُهُ (سليمان الدخيل) بالعمل معه على تحرير جريدة (الرياض) وهي: ((جريدة سياسية عربية نشرت أبحاثًا قيمةً عن الجزيرة العربية و(إمارات خليج البصرة ((.
لقد جاء الإعلان عن الدستور العثماني عام (1908م)، الذي أطلق الحريات، مشجِّعًا لبعض الأشخاص على إصدار الصُّحف والمجلات، وكان أحدُهم من (أهل نجد) ممن يعيشون في محلة السوق الجديد في بغداد/ الكرخ يُدعى (الشيخ جار الله الدخيل) أراد أن يصدر صحيفةً تعضُد نفوذَه؛ فأصدر جريدةَ (الرياض) وعهد بتحريرها إلى ابن أخيه الشاب (سليمان الدخيل) وكانت له اتصالات وعلاقات مع الطبقة البغدادية المثقَّفة ممن يهوون السياسةَ ويتعاطون الأدب، ومن بينهم صديقُهُ المقرَّب (إبراهيم حلمي العُمَر) الذي يعرف حقيقةَ مواهبه وقدراته الأدبية والثقافية على معاونته في تحرير تلك الصحيفة، فبدأ العملَ فيها عام (1910م)، ثم ما لبث أن تركها بعد عامين ليُصدر وحدَه جريدةً باسم (الحياة) في الوقت الذي كان يكتب في صحف مصرية كــ(المقتطف والمؤيد) فتكشَّفت للجميع مواهبُ ذلك الشاب في كتابة المقالات وإدارة الصحف بكل براعة، مما جعل السياسيَّ المعروفَ (مزاحم الباچه چي) يعهد إليه بتحرير صحيفة (النهضة) التي أصدرها في (3/10/1913م)، وكانت صحيفةً قوميةً تُطالب بحقوق العرب وبضرورة التمسُّك بـهويتهم، فاستهوى (إبراهيم حلمي العُمَر) العملُ فيها كثيرًا؛ لأنها تُعبِّر عن القِيَم والمباديء التي يؤمن بـها ويحب أن يكتب مقالاته في المحتوى الذي تدعو له، إلا أن السلطاتِ العثمانيةَ لم ترُقْ لها لهجةُ صحيفة (النهضة) فعطَّلتها وبدأت بمطاردة صاحبها ومُحرِّرها، الأمر الذي جعل الباچه چي والعُمَر يهربان إلى البصرة لاجئَيْن لدى طالب النقيب، لكنَّ السلطات العثمانية استطاعت القبضَ على إبراهيم حلمي العُمَر ونَفَتْهُ إلى (تبليس) عاصمة جورجيا، حيث لم يمكث فيها طويلًا إذ فر منها إلى بلاد الشام .
كانت الفترةُ التي عاش فيها (إبراهيم حلمي العُمَر) في الشام، من الفترات العصيبة في حياته، حيث كانت سوريا آنذاك تحت حكم (جمال باشا) الذي كاد يفتك به بعد أن ورد اسمُهُ في قوائم المحكوم عليهم بالإعدام، لكنه نجا من حملة الإعدامات تلك بعد أن توسَّط له جماعةٌ من وجوه الشام من بينهم (محـمد كُرد علي) ([15]) بالشفاعة عند جمال باشا.
ولم يكتفِ محـمد كُرد بإنقاذ إبراهيم حلمي العُمَر من الإعدام، بل أوجد له عملًا في جريدة (الشرق) الصادرة في دمشق، وما لبث (العُمَر) أن أصدر صحيفةً باسم (لسان العرب) في عام 1918 في دمشق، عقب دخول الجيش العربي إلى سوريا بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، فتعاون معه في تحرير تلك الصحيفة عددٌ من الكُتَّاب السوريين، لكنه ترك دمشقَ وعاد إلى بغدادَ مع صحيفته (لسان العرب) واستمر في كتابة المقالات الافتتاحية للصحيفة بلسانٍ وطنيٍّ وأسلوبٍ بارعٍ عزَّ نظيرُهُ في صحف العراق آنذاك، وكان يدعو فيها إلى نـهوض العراق وازدهاره واستقلاله مرُكِّزًا على ضرورة قيام العراقيين بالتعبير الصريح والمباشر، بحرية عن آرائهم وأفكارهم فيما يتعلَّق بحياتـهم وحياة بلدهم، مما أثار حفيظةَ سلطات الاحتلال البريطاني التي لمست خطورةَ مقالاته في تأجيج الرأي العام العراقي ضدها، لذلك بدأت بالتضييق عليه، فاضطر إلى إيقاف إصدار صحيفته (لسان العرب).
لكن لم تفتُرْ عزيمته عن إصدار صحيفة أخرى باسم (المفيد) بدت منذ أول عدد صادر لها في (11/4/1922م) إلا أنـها لا تختلف عن (لسان العرب) وقد تكون أشدَّ منها تصميمًا على الدعوة إلى حرية الرأي والفكر والتعبير، وتحفيز العراقيين للعمل على التخلُّص من الاستعمار البريطاني ونيل حريتهم وحرية بلدهم العراق، وكانت جريدةُ (المفيد) وطنيةً قدَّمت خدماتٍ جليلةً للحركة الوطنية، فاكتسبت سمعةً طيبةً وشعبيةً واسعةً من جمهور يترقَّب مقالات الصُّحفي العراقي إبراهيم حلمي العُمَر، الذي كان يكتب ثلاثَ مقالات في اليوم الواحد، في ثلاث صحف وبأسلوب مختلف، ينُمُّ عن قابليته المدهشة على الكتابة، وجميعها تتَّفق في وطنيتها وعِراقيتها.
وفي عام (1926م)، كتب إبراهيم حلمي العُمَر في جريدته (المفيد) مقالةً سياسيةً نقديةً تحت عنوان (سوق النِّخاسة في جنيف) تعرَّض فيها إلى طبيعة التآمر البريطاني على قضية استقلال العراق والمحاولات الدولية لدعم المحتل البريطاني في مسعاه هذا، بعيدًا عن شعار حقِّ الشعوب في تقرير مصيرها الذي تتَّخذه عصبةُ الأُمم شعارًا من شعاراتـها الأساسية، وبعيدًا عن احترام إرادة الشعوب والدول التي يدعيها الغرب.
كان مقال إبراهيم حلمي العُمَر يتحدَّث عن (المستقبل المظلم) الذي يلُفُّ العراقَ نتيجةَ استمرار الاحتلال البريطاني له وتماهي بعض الطبقة السياسية مع هذا الاحتلال، قائلًا عنها: ((.. قد أضاعوا المنطقَ، ونخشى أن يكونوا أضاعوا معه كلَّ شيء حتى المقدَّسات الوطنية بل حتى الارتباط بأمجاد التاريخ، والمستقبلُ كشَّافٌ، لأن سوادَ الليل لا يدوم، فلابد من فجر ينبثق في هذه الديار الظامئة إلى حريتها واستقلالها)) فاهتزَّت لهذا المقال الدوائرُ السياسيةُ ومن اعتبر المقالَ يتقصَّدُه، وفي مقدِّمتهم الحكومةُ البريطانية، فأصدر المندوبُ السامي البريطاني قرارًا بتعطيل الصحيفة والقبض على صاحبها إبراهيم حلمي العُمَر، فاضطر إلى الاختفاء عن الأنظار.
كانت الصِّحافة عند إبراهيم حلمي العُمَر وعند الذين يؤمنون بحرية الرأي والتعبير، وسيلةً مهمَّةً من وسائل الشعب للتعبير عن مطامحه واهتماماته وحريته في نقل مختلف المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، فما تنشره الصِّحافةُ من مقالات يمكن أن يعكس آراءَ الناس ومشكلاتـهم واتجاهاتـهم وسلبيات واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لذلك حرص إبراهيم حلمي العُمَر أن لا تتوقَّف جهودُهُ كمثقَّف عراقي عند حدود الانتماء لهذا الطرف أو ذاك، أو السقوط في دوَّامة الانقسامات بقدر مابرز في كتاباته من اتِّجاه واضح نحو القراءة الواعية لسير الأحداث، والمجاهرة بكشف التناقضات السائدة التي عبَّرت عنها سياسات حزب الاتحاد والترقي بعد عام (1908م)، فكان مصيرَهُ التهديدُ والتقريعُ وحتى الاعتداء عليه بالضرب من قبل الوالي جاويد بك، الذي عدَّه مشاغبًا ومحرِّضًا ضد حكم العثمانيين، ومن ثَـمَّ تـمَّ نفيُهُ إلى مدينة تبليس في جورجيا.
كان إبراهيم حلمي العُمَر، يجد الصِّحافةَ الحُرةَ أداةً لكشف الحقائق أمام الجميع وبما يجعل كلَّ مواطن مطَّلعًا على ما يحدث قدر الإمكان، وأنَّ نشرَ الحقائق من قِبَل الصُّحف يُسهم بشكل كبير في تثقيف وتنوير الرأي العام، كما أن الصُّحفَ وسيلةٌ مهمةٌ من وسائل الشعب في التعبير عن رؤيته وأهدافه ومطالبه، وبالرجوع إلى المقالات التي كان الصحفي إبراهيم حلمي العُمَر ينشرها في العديد من الصحف العراقية والعربية، نجد فيها الكثيرَ من الكلام في الدعوة إلى الحياة الحُرة الكريمة والمطالبة بحقوق الشعب، وإقامة المؤسسات المنبثقة عن إرادة الأمة، ومستقبل نظام الحكم في العراق، كان تركيزه دائمًا ينصبُّ على استقلال العراق استقلالًا تامًا وتشكيل حكومة عراقية منبثقة من إرادة الشعب، وإن (الاستقلال يؤخذ ولا يعطى) وهو نفس عنوان مقال نشره عام (1922م) صديقُهُ وزميلُهُ في العمل، الصُّحفيُّ عبد الغفور البدري صاحبُ جريدة الاستقلال.
وقد جاء في وقت كان الرأيُ العامُ العراقيُّ يُطالب بالاستقلال الناجز ويُنادي بضرورة رفع يد المندوب السامي (بيرسي كوكس) من التحكُّم في سياسة الدولة الداخلية والخارجية.
وعلى الرغم من شغفه وحُبِّه للكتابة في الصُّحف، إلا أن الصُّحفيَّ والكاتبَ إبراهيم حلمي العُمَر، اضطر لترك الصحافة عام (1926م) بعد أن أوقفت السلطاتُ الحكوميةُ جريدتَه (المفيد) إثر مقاله المنشور في جريدته بتاريخ (14/1/1926م)، والذي أثار فيه غضبَ سلطات الاحتلال البريطاني ودائرةَ المندوب السامي، فكان هذا المقالُ آخرَ عهده بالصِّحافة العراقية، إذ ترك المهنةَ مرغمًا وانتقل للعمل في بداية عام (1927م) موظَّفًا حكوميًا في ديوان مجلس الوزراء، وقد ساعده في الحصول على هذه الوظيفة صديقه (ياسين الهاشمي) الذي ما أن تسلَّم رئاسةَ الوزراء عام (1935م) حتى عيَّنه مديرًا للدعاية والنشر، لكنه لم يستمرَّ في منصبه هذا بعد استقالة (ياسين الهاشمي) من الوزارة وتكليف (حكمت سليمان) رئيسًا للوزراء عام (1936م)، الذي عيَّن (حسين جميل) مكانه مديرًا للدعاية والنشر.
وفي شباط عام (1939م) عُيِّن إبراهيم حلمي العُمَر، مديرًا للإذاعة العراقية، والتي كان قد عمل فيها سابقًا يوم افتتاحها في 30 حزيران/يونيو عام (1936م)، حيث قدَّم أولَ نشرة إخبارية كاملة في ذلك اليوم، على الرغم من أنه لم يكن مذيعًا، ولم يستمرَّ في عمله مديرًا للإذاعة أكثر من عامين وثلاثة أشهر، فقد فُصِل من عمله عام (1941م) لتأييده المطلق لحركة رشيد عالي الكيلاني وصدر أمرٌ باعتقاله، فاضطر إلى الفرار.
وفي 12كانون الثاني/ يناير عام (1942م) وعلى إثر عملية جراحية، توفي الكاتبُ الصُّحفيُّ الرائد إبراهيم حلمي العُمَر عن عُمْر يناهز (52) عامًا، ولم يكن يملك مايكفي حتى لدفنه، فتكَّفَّل السياسيُّ ورئيسُ الوزراء الأسبق (جميل المدفعي) بمصاريف دفنه، لقد كان (العُمَر) سخيَّـاً لا يهتمُّ لجمع المال، حتى أن سيارته الخاصة التي اشتراها من السياسي ورئيس الوزراء الأسبق (علي جودت الأيوبي) تبرَّع بـها لأحد المجاهدين في فلسطين مساهمةً منه في نُصرة القضية الفلسطينية.
من مبحث نشره مركز الامة للدراسات والتطوير.
اقرأ ايضا
طرائف من حياة الدكتور فاضل الجمالي
سرور ميرزا محمودفي 17 ايلول 1953 شكل الدكتور فاضل الجمالي وزارته الاولى ثم اعاد تشكيلها …