شاكر حسن آل سعيد
1- في الوقت الذي تكشف فيه الحضارة العالمية الراهنة عن مصيرها العلمي و الإنساني من خلال وجودها (الفعلي): وجودها المتجاوز للطبيعة الإنسانية والعمل الفني يجهد للوصول إلى الحقيقة.. . الحقيقة التي كانت على الدوام تفلت من إطار الواقع المادي، أو المشخص، وفي شتى العصور و الأوطان.
فمنذ أن وعى الفنان في بلادنا دوره النسبي للتفتح في صميم الحضارة المعاصرة وهو يتلمس طريقة بخطى ثابتة للكشف عن وجوده بصدق و أخلاص. ومنذ بداية العقد السادس لهذا القرن وفناننا يحاول ربط حاضرة بماضية من خلال التقاليد، والوسائل الفنية والممارسة بضوء المذاهب الفنية الحديثة وبعد أن رفع شعاره الشعبي ولتعميق مفهومه الذوقي الخاص من خلال المفهوم الذوقي العام يجد ألان نفسه متحفزا نحو منطلقه للبدء في مسيرتهمتأملا للوصول.
2- لقد كانت المفاهيم والمعطيات الأولى تحدو بالفنان إلى التمسك بنظرته الشخصية والنسبية في ممارسة تجعل من العمل الفني مجالا (للخلق والتكوين)،] خلق الشخصية الفذة لحضارتنا و(توحيد جهود المثقف ورجل الشارع) وكان كل ذلك استجابة طبيعية للوضع النفسي المتخلف أو المتجاوز على السواء. إذ أن اعتقاد الفنان بقيمته الشخصية أو النسبية للتعبير، وهو اعتقاد يعتمد على اعتبار أن تفرد الفنان بعملية الإبداع الفني دونما عوامل أخرى، كمادة للعمل الفني ووسائل التعبير والظروف البيولوجية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية للفنان وغيرها.. يقوده حتما إلى بناء حقيقة وجوده الفني على أسس إنسانية واقعية أو مادية، كظاهرة دفاعية أو متسلطة على السواء. وسيكون نتيجة ذلك اتخاذ الإنسان إن لم تكن المادة، أساسا للإنجاز والتقييم الفنيين وهذا من شأنه أن يصور العمل الفني على انه خلق يعطي الإنسان دور (العنصر الايجابي) كأي تكوين علمي المنهج. وسيكون من شأن ذلك على الصعيد الفني، منطقيا، اهتمام الفنان (بالتقنية) أو (الموضوع) أي الاهتمام بوسائل التعبير أكثر من تثبيته بل التعرية عن الوجود الحقيقي له.
3- ويريد الفنان ألان اتخاذ وجهة نظر جديدة إنسانية حقه تمنحه وجوده كظاهرة (حياتية كونية) أكثر منها ظاهرة (إنسانية _إنسانية). بل تجعل منه الوسيلة لظهور الحقيقة من خلاله، أكثر من أن يجعل هو، أي الإنسان، من العمل الفني وسيلة لإظهار ذاته.. . لشخصه.
إن الفنان الحق، وهو خير من سيضطلع بدوره هذا، ومن دون أن يفقد ارتباطه بوجوده الموضوعي سيقترح إعادة النظر إلى العمل الفني على انه مادة قابلة للتأمل، والكشف عن الحقيقة بشتى إبعادها. والفن ألتأملي بهذا المعنى هو(قول) لا يفترض من العالم الخارجي إلا كونه عالما مخلوقا أي (سبق أن تم تكوينه) ودور الإنسان فيه، والفنان إنسان ضمنا، هو أبداء الرأي بواسطة جميع طاقاته. أنه شهادة على جمال المكون وجلاله] الجلال زائداً الجمال يساوي الكمال[. وهو أيضاً إقرار بحقيقة كائنة هي حقيقة] قيل للشيء كن فكان.[ أو حقيقة كائنة كينونة تامة بمعناها المادي والروحي نفيها لوحدها فحسب تتجلى إرادة الخالق عز وجل، في حين أن دور المتأمل وتجليه يقتضي (شهوده) هو وليس وجودي أو وجودك.] قيل للشيء كن فكان، وقيل للاشيء كن فلم يكن وهكذا يكون معنى هذه النظرة محاولة لوعي العالم الموضوعي خارجياً كان أم داخلياً على أنه مجال لظهور الحقيقة كما هي. دون أن يكون محملاً فوق طاقته. ومثقلاً بمفهوم معين طارئ، ومتحيزاً إلى الجانب الإنساني. ومن هنا فالعمل الفني هو: وإذا كان التأمل الفني في أساسه، أيضاً وصف للشعور المجرد، المنطوي على رغبة فناء في الحقيقة، ووصول آني] من معنى الآن في الفكر الإسلامي[فقد ينطوي عليه أي عمل فني، بغض النظر عن شخصيته أو أسلوبه، بل بالنظر إلى نقطة انطلاقه بالذات.
أن التأمل من جانب المشاهد هو (شهود) للحقيقة من خلال الكون، وبضمنه العمل الفني.. هو موقف سلبي يصبح ايجابياً. في حين أنه من جانب الفنان (تعرف) على الحقيقة الكونية عبر العمل الفني.] أي العمل الفني ثم الكون[.. . فهو شهود إيجابي] موقف إيجابي ينتهي إلى السلبي[. ففي التعرف لا يكتفي الفنان بأن يكون شاهداً فحسب، بل سيصبح (شاهداً مدانا). ذلك أنه سيتدخل بغتة في العالم الحارجي وكأنه عنصر من عناصر الطبيعة، وفي الوقت المناسب ليشهدها بنفسه، ويلمسها بكل كيانه فيكون جزء منها (أي يتحد وإياها 10 ض) كما يتدخل العابد في مراسيم طقوسه الدينية، أثناء عبادته. والفن بهذا المعنى الأخير هو ضرب من العبادة(لأن أي فنان صادق في فنه لا يختلف عن أي متعبد صادق في عبادته).
والتأمل في أساسه (سلبية مطلقة). أي ضد الأيجابية المطلقة (والتضحية ضد الطغيان). لآم المتدخل ليس عنصراً أساسياً قبل التدخل] والتدخل هنا بمعنى التعرف الفني، [ ولآن السلبية المطلقة هي رؤية المعمول له وليس رؤية الأعمال. لقد كان يشهد عن كثب جمال المكون وجلاله فلم يشعر بكل ذلك شعوراً تاماً إذ هو في معزل عن فعله التام وبمجرد لمسة واحدة لسبابته تتحول (ب) السلبية المطلقة إلى (إيجابية نسبية)، لا من خلال إحساسه المستمر بالموضوع الذي هو بين يديه] أي العالم الخارجي المغلق التام[ بل من خلال عالم أكثر منه عالماً خارجياً. وسيتم التحول حينما يتجاوب وإياه كفان به، وذلك في محاولة للاتحاد به.. . والتلاشي من خلاله. فالطريق (إلى جمال المكون وجلاله هو اتحاد الفنان بالكون نفسه 1 0ض). وهكذا ستكون ممارسة العمل الفني – وأي عمل فني تأملي – وأي عمل فني تأملي – ضربا من (المستحيل): أي (محاولة) تحقيق الوجود الحقيقي للتناقض بصورة غير متناقضة. فأحدنا كمتناقض لا يسعه ألا أن يعيش تجربة موضوعة من جديد كما يعيش الممثل دوره، وبدون أن يتقمصه، وأن استحالته تنبثق من تناقضه الأساسي ما بين بعاد عالمه بالذات والقيم الشاملة المعبر عنها.
على أن جمالية التأمل تعتمد على أساسين:
الأساس الأول هو أن العمل الفني ألتأملي] وصف للعالم وإيضاح للعلاقة ما بين الذات (أي الفنان) والموضوع أي العمل الفني) [. وهو وصف لا يتم دون أن يتخذ له معنى (معراج) أي حركة صعود (من الذاتي نحو المحلي ومن المحلي نحو العالمي فالكوني) كما يتخذ له معنى (تحول عكسي) أو سقوط: من الإنسان نحو الحيواني فالنباتي فالجرثومي. وما بين كل من المعراج والسقوط.. . مابين حركة صعود وحركة هبوط سيتم الوصف غير المنحاز للعالم الخارجي عبر العالم الباطني. سيتمكن الفنان من كشفه، وذلك من خلال (مقاماته – الحالية) أو معراجه (الذاتي- الكوني) الروحي وضمناً معراجه الحجيري. وذلك بعد مسيرته (المادية – الإنسانية).
أما الأساس الثاني فهو أن العمل الفني ألتأملي إبداع شخصي وإنكار يحول دون ملاء السطح التصويري بالعلامات أنه يعترف مقدماً بكمال أية لوحة فنية دون أنجاز. وعلى ذلك فالتدخل في خصوصيتها بواسطة الفعل سيظهر بصورة ديمومية وبدلالة المنهج المقارن عودة الفنان و(تعرفه) على تفاهة المخلوق إزاء الخالق.. .. على لا شخصيته هو من خلال إنجازه الخاص. وهذا التعرف على اللا – شخصية يتم ضمن مسار أفقي يبدأ من ذات الفنان نحو الآخرين ((من كونه شخصاً معيناً إلى كونه عضواً في مجتمع. بل من كونه موطناً إلى كونه إنساناً ما في العالم. ثم من كونه.
إنساناً إلى كونه (عالماً) هو أكثر إنسانية من الإنسان. وقابلية التعبير عما يصلح أن يكون (قيمة) وليس وسيلة تعبيرية أو إيضاحية فحسب. بل في أن يتجاهل الإحساس والوعي داخل ذاتية بل أن يتجاهل الإحساس والوعي وأقل ذاتية هو بالفن العقلي (المثالي) ولا بالمادي، ولكنه الفن الفن القبلي (الشعوري)، والذي يعبر ظاهرة عن باطنه، وباطنه عن ظاهره. أنه فن أقل عقلانية من أن يتجاهل الإحساس والوعي وأقل ذاتية من أن يتجاهل العواطف والإحساس. فهو في صميم الحالة ((سرد إنساني بحت ولكنه يهدف إلى اللا – إنساني. ألا أنه شجب للتقاليد، وإبداع مجاني ينزع نحو (الشكل اللا – شكلي) والتجريدي.
ألانه فن القصد؟
ولكنه مع ذلك ورغم كل شيء ((توحيد للخالق المكون من خلال الشكل الفني. وتحقق هذا الشكل بواسطة الإخلاص في العمل)).
والآن
فأن جمهورنا الفني والفنانين مدعوون إلى إدراك معنى الفن كتأمل وليس كخلق. فبذلك وحده يمكننا أن نحقق إنسانيتنا الحق.. . إنسانيتنا كظاهرة حياتية وكونية. وأن نتكاتف في أظهار الحقيقة عبر ذواتنا. وليس في أظهار إنسانيتنا على حساب الحقيقة عبر الفن.
- نشر هذا البيان لأول مرة في الملحق الأدبي لصحيفة الجمهورية 23 حزيران 1966 ملحق رقم 42 للعدد 880.