هان كانغ والتماهي مع الطبيعة

كه يلان محمد
لم يتوانَ الإنسان في صناعة الأكلات وأضاف كثيراً إلى قائمة وجباته المفضلة ومع تصاعد موجات العولمة زادَ الإهتمام بأصناف الطعام كأنَّ الجميع أصبحوا مقتنعين بنصيحة سيدوري في ملحمة كلكامش حيثُ تنصحُ إمرأة الحانة المهووس بالخلود بأن يملأَ بطنهُ بما لذَّ وطاب أما الخلود فهو حظوة الآلهة فقط.لكن الجديد في عصر الوجبات السريعة هو هاجس الجسد والصحة والشيخوخة المبكرة والتلوث البيئي الأمر الذي حدا بأشخاص في أنحاء العالم إلى التفكير في البديل وبالتالي وقع الإختيار على المأكولات النباتية وانتشرت المحلات الخاصة بهذا النوع من الأطعمة كما تطبعُ الكتبُ التي تدورُ حول فوائد التحول إلى النباتي وبدورها إختارت الكاتبة الكورية “هان كانغ” معالجة هذا التحول في روايتها المعنونة ب(النباتية) إذ تسردُ سلوكيات بطلتها “يونغ هيه” بعدما تمتنعُ عن أكل اللحوم إذ تتبدلُ طبائعها وتصرفاتها مع زوجها ويشعرُ الأخيرُ بالإحراج من موقف “يونغ هيه” عندما ترافقه إلى المطعمُ لحضور دعوة مدير العمل فتبدو النباتية بالنسبة إلى المدعوين شخصية غريبة لاينتهي الأمرُ عند هذا الحد إنما يتدخلُ الأهل لإثناء الإبنة عن قرارها غير أنَّ النباتية تمضي في ممارسة حياتها كما تستهوي ولاترعوي عن مغامرتها.بالطبع إنَّ إنصراف يونغ هيه إلى المسلك النباتي في مأكلها يؤثر على شخصيتها وهذا مايستغربه زوجها إذ لاتستوعب تصرفات يونغ يه حيث يتفاجأُ عندما يراها تجمع اللحم في أكياس القمامة ولايفهمُ المشهد واصفاً إياها بالمجنونة إذ لايريدُ أن يتأخر عن موعد العمل يخرجُ مهرولاً ولاتغادرهُ صورة زوجته مستعيداً ماسمعه منها.
بنية الحلم
تعتمدُ الرواية على بنية الحلم ويكونُ الدافعُ وراء ماتقومُ به يونغ هيه تكديس اللحوم في الأكياس هو الحلم لذا فما أن يسألها زورجها عن السر لهذا التصرف الغريب حتى تقول أنَّها رأت الحلمَ ومن ثَّم ينقطعُ خطَ السرد مشهدُ مكونُ من عناصر مختلفة يخدمُ الملمحُ العجائبي في الرواية إذ يكون المتلقي حيال مايتناثر في مساحة محددة من الصور المكثفة والكلمات الوامضة ولاتقعُ على مايناظرها سوى في الأحلام ومايشدُ الإنتباه أنَّ الضمائر المستخدمة لرواية الحلم تحيلك إلى شخصية يونغ هيه وتجد الأخيرة يديها الملطختين بالدم وما تأكله لايذكرها إلا بطعم الدم وذلك يكونُ حلقةً أولى من سلسلة المشاهد المتضمنة في شريط السرد. عليه فإنَّ العلاقة بين يونغ هيه وزوجها تتخذُ مساراً إنفعالياً فبرأي الأخير أنَّ تصرفات المرأة وشكلها وملبسها لم يعد طبيعياً ومايزيدهُ حنقاً هو الشعور بالضمور العاطفي ورفضها لمُتطلباته الجسدية قبل الإنتقال إلى حيثيات موقف العائلة لاسيما الوالد حول قرار الشخصية النباتية يندسُ مقطعُ منحوت من أجواء الحلم في طيات السرد إذ تجدُ الراوية نفسها في أطوار مختلفة مرة تريدُ قتل القطة القابعة في محل الملابس ويقع نظرها على حمامة في الشارع مرة أخرى تحاول إصطيادها تمر بجانب محل الجزارة وتتقززُ ومن ثمُ تتحسسُ يدها وأظافرها قائلة لا أثق سوى بثدي لأنها لاتقتلُ شيئاً بخلاف اليد والرجل والنظرة واللسان وهذا ماينمُ عن التوق للمرحلة التي سادت فيها الأمومة والبساطة في التاريخ البشري.يسردُ الزوجُ جانباً من حياة العائلة ويهتمُ في هذا المفصل بشقيقة الكبرى ليونغ هيه وهي تشتغل في محل مستحضرات التجميل وتمكنت من شراء شقة من إيراد العمل.وفي ذات الوقت يشير إلى زوجها الفنان الذي يكتسبُ دوراً أساسياً مع مضي السرد علماً بأنَّ مايذكره الساردُ عن الفنان يظهره في شكل شخصية سلبية غير فعالة لكن ينفردُ الفنان مع النباتية بالمشهد وهذا التواصل بين الإثنين يبدأُ من اللحظة التى يسمعُ من زوجته صاحبة المحل بأنَّ البقعة المنغولية قد بقيت بين ردفي أختها الصغيرة حتى بلغت العشرين من عمرها.إذ يتخيل وردة زرقاء تنفتحُ في جسد أنثى مع أنه لم ير جسد شقيقة زوجته عارياً غير أن هذا لايحولُ دون أن يشرع برسمها ويضع نقطة زرقاء في هيئة زهرة والغريب أنَّ ماهو صنيعه يثيره.وعندما تنزف هونغ إثر محاولة الإنتحار ينقلها الفنان إلى المستشفى مستنكراً قسوة الوالد مع إبنته ولايتطلبُ إدراك الحساسية بين الفنان وجونغ كثيراً من التمعن غير أنَّ ماهو متسترُ بالنسبة لكليهما هو إعجاب كل واحد منهما بزوجة الآخر.
مشروع سريالي
الموضوع الذي يفكر فيه الفنان لايقع إلا في صنف الأعمال السريالية ومايزخمُ خياليه على هذا المستوى ويجنحُ به نحو تحقيق مايريد هو البقعة المنغولية المرسومة على جسد يونغ مايعني أنَّ الفكرة تحتاجُ إلى مايرفدها لتتحول إلى الأثر وبذلك تتعددُ وظائف الجسد من الإثارة والتواصل إضافة إلى الكشف وهذا يعود بك إلى رأي بول أوستر يعتقد صاحب “حكاية الشتاء” بأن مايبحث عنه المرءُ في العالم قد لايصادفه إلا في جسد المرأة.لايقتنعُ زوج الشقيقة الكبرى بالعرض المسرحي الذي يشاهده ويتطلع لإنجاز عمل أكثر عمقاً وأشد سحراً.بعدما ينتهي الخلاف بين يونغ وزجها إلى الإنفصال التام وتمضي مدةً في المصحة تفضلُ الإبتعاد عن الأهل ولايتواصل معها غير الشقيقة الكبرى ولايبهتُ الإحساس بجسد يونغ لدى الفنان إذ يستعيدُ تفاصيل اليوم الذي اجتمع فيه أفراد العائلة حيث قطعت الشقيقة الصغيرة معصمها لأنَّ والدها خرق خصوصيتها والأهم في هذا الإطار هو التواصل بين الفنان ويونغ إذ تستجيبُ الأخيرة لرغبة زورج شقيقتها الكبرى برسم صور الورود على جسدها ومن ثم تصويرها في وضعيات مختلفة فيما يخبرها عن إنتهاء العمل وتبدأُ يونغ بلملمة نفسها تلوحُ صورة الزوج جونغ في ذهن الفنان متخيلا ماعملها بجسد يونغ عاداً إلتفاف جسدها بجسد ذلك الشخص أمراً مهيناً.تتوغلُ الكاتبة في الجانب الإيروسي وذلك مايتبينُ أكثر حين يشرعُ الفنانُ في تصوير جسد شقيقة زوجته متلحماً بجسد صديقه “ج” متتبعاً خلجات الكائنين ومن الطبيعي أن تحظى البؤرة المنغولية بإهتمام المصور.واللافتُ أنَّ يونغ ترفض محاولة زوج شقيقتها الكبرى عندما يجذبها نحوه وبنظر الفنان أنَّ مرد الرفض هو احترام يونغ لشقيقتها إلا أن تنجلي حقيقة الأمر ويدرك بأنَّ ما يعطي القيمة لتلك العلاقة هي شكل الجسد الملون بالورود إذاً تتخذُ العلاقة بين الفنان وزوجته منحى متوتراً عندما تداهمُ الشقيقة الكبرى الإستوديو حيث يصدمها المشهد الذي يجمع بين زوجها ويونغ وما منها إلا أن تصل بخدمات الطواريء متهمةً زوجها بالتورط في مخادعة الشقيقة الصغيرة وعقلها لم يتعاف وفي ختام هذه الوحدة تتموضع عدسة السرد موقع الفنان الذي همَّ بالقاء نفسه من الشقة غير أن منظر جسد يونغ يبهره وبهذا تتأجل لحظة الموت يرصدُ القسم الأخير من الرواية وقائع حياة يونغ في المصحة وهروبها الى الغابة ومحاكاتها للأشجار كما تستعيدُ الشقيقة الصغرى نتفاً من ذكريات الطفولة والعنف الأسرى المتمثل في سلوكيات الأب الذي شارك في حرب فيتنام.يُذكر أنَّ إفتتان بالجسد والطبيعة والتحول ثيمات يترابطُ في حاضنتها مفاصل النص كما أنَّ معجمَ الطبيعة ومايسمي بأنثبرولوجيا الأطعمة يدعم تجربة الكتابة لدى صاحبة “الكتاب الأبيض”.

اقرأ ايضا

إخوة يوسف كما رواها توماس مان

ترجمة / أحمد فاضلأي شخص يحب القراءة ولديه طموحات أدبية ما أن يقرأ للكاتب الألماني …