في ذكرى رحيل شيخ المعماريين العراقيين محمد مكية

معتز عناد غزوان
لم يخطر ببال الدكتور محمد مكية أن يعود إلى بلده العراق الحبيب وعاصمة الإبداع والحضارة بغداد يوماً ما، بل كان حلماً يراوده بين الحين والآخر، حتى تحقق بالفعل في 27 نيسان عام 2005 وعلى قاعة قسم الهندسة المعمارية في كلية الهندسة بجامعة بغداد، وكنا قد علمنا بطريقة الصدفة أن الدكتور مكية في بغداد، فأسرعنا يحدونا الشغف والإعجاب والاشتياق إلى لقاء هذا العالم الكبير وشيخ العمارة العراقية، وتم اللقاء بالفعل.
فقد شاءت الأقدار أن يبتعد العديد من علماء ومثقفي العراق بعيداً عن ارض الوطن ليمارسوا حريتهم وابتكاراتهم الرائدة كل في ميدان عمله، بعد حصار المثقف والعالم والأديب والمثقف الحر، هكذا غادرنا الأحبة والطيبون، ولم نكن نتوقع يوماً أن نلتقي احد هؤلاء البارعين ومنهم الأستاذ الدكتور محمد مكية المعماري الأول في العراق، بل ومؤسس القسم المعماري في كلية الهندسة بجامعة بغداد عام 1959م. نعم إنها لفرصة ذهبية يتشرف العراقيون بلقاء هذا العلم الكبير من إعلامنا المبدعين والذين ظلت بصمات عملهم الإبداعي شاخصةً إلى يومنا هذا.
تحدث العديد من المفكرين عن الدكتور محمد مكية ودوره الكبير في فن المعمار والتراث، إذ وصفه محمد أركون (أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي في جامعة السوربون بباريس) ((أن محمد مكية قد نفخ حياة جديدة في العمارة الإسلامية بدمج تراثها الغني بأفضل ما في الثقافة والتكنولوجية الحديثة))، وقال شارل كورّيا المهندس والمخطط المعماري ((أن محمد مكية مهندس معماري ذا أهمية عظيمة في العالم الإسلامي وعمله يثير منافذ ذات اهتمام حيوي للمحترفين))، أما السير هيو كاسون الرئيس السابق لأكاديمية الفنون الملكية في إنكلترا ((أن أعمال محمد مكية تستحق أن تثير اهتمام أوسع في العالم الإسلامي)).
ويمكن اعتبار مكية من رواد عملية الإحياء المعاصرة للعمارة الإسلامية، وهو ذو منحى وظيفي وبنفس الوقت عضوي اذ يعتبر إن لكل مشكلة عمرانية أو عمارية حلاً وكذلك تأثره بالحداثيين في عمارة القرن العشرين، وهو في سجيته رومانسي باحث عن الجمال، وواقعي ومتواضع ومخلص لفنه وعمله.
يقول المعمار والباحث الدكتور خالد السلطاني في معرض حديثه عن تجربة مكية ((يمكن رصد مرحلتين اساسيتين في نتاج محمد مكية المعماري، المرحلة الاولى تبدأ منذ انهماكه في العمل المهني في العراق في نهاية الاربعينيات وحتى بداية الستينيات من القرن الماضي، أي الى ميقات تصميم جامع الخلفاء عام 1963م، والتي عندها تبدأ المرحلة الثانية في مسيرته المهنية، أي باختصار شديد ثمة حقبتان رئيستان في سيرورة المعمار قبل جامع الخلفاء وبعده، وبالطبع هناك مراحل اخرى شهدتها مسيرة المصمم، لكن مرجعية تلك المراحل الاسلوبية كانت دائما تستقي حضورها التكويني من خصوصية هاتين المرحلتين)). اما الباحث والفيلسوف الدكتور حسين الهنداوي فقد حاور مكية في فصول ومحطات معرفية عدة، منها بغداد وتراثها العمراني المتميز، اذ يبين لنا وجهة نظر مكية في عمارة المدن التراثية الحضارية اذ يقول ((ان ما يحصل في بغداد والمدن العربية والاسلامية الاخرى اليوم من فوضى وتوسعات عشوائية وهي في غمرة تطورها ونموها السريع يؤديان حتما الى مسخ لتاريخها العمراني والحضاري وتدمير لتواصله مستقبلاً، بينما الأولى بالمعماريين ان يكونوا رسل ثقافة مجتمعاتهم وتاريخ حواضرها لدى المستقبل)).
ويشير المعمار الدكتور علي ثويني في حديثه عن الدكتور محمد مكية ((يعتبر مكية بجدارة أحد الرواد القلائل في العالم الإسلامي، الذين شقوا طريقهم بثبات وانتهج لنفسه خطاً في العمارة التي تأخذ من التراث منهلها وتشرئب إلى الحداثة والمعاصرة. وقد اهتم بالجانب المديني للمعلم المعماري، ولاسيما بثابت الجغرافية، أو المكان وما لموقعه والعوامل المناخية والبيئية من تأثير، وكذلك الحال إلى الزمان الذي يسري إلى الجوانب لاجتماعية المرتبطة بصلب التراث الإسلامي. كما يعد الدكتور محمد مكية من أوائل المعماريين الذين عرفت أعمالهم ليس على مستوى العراق فحسب بل تعدى ذلك ليشمل المعمار العربي ولاسيما عمارة الجوامع كالجامع الكبير في الكويت وجامع السلطان قابوس في سلطنة عمان إلى عمارة البوابات الضخمة كما هي في تصميمه لبوابة مدينة عيسى في دولة البحرين)).
وإذ يطل علينا شيخ المعماريين الدكتور محمد مكية متكئاً على عصاه بعد كفاح مع الغربة دام لعقود مضت، انه الفذ الرائع الذي اطل بعقده التسعين شاباً متألقاً بثوب الشباب والحيوية والابتسامة الرقيقة والتواضع الجم إنها فعلاً أخلاق العلماء. قدمه رئيس القسم المعماري آنذاك وتحدث عن دور الدكتور مكية في تأسيس القسم فضلاً عن الإطراء الجميل لعميد كلية الهندسة الذي أثنى هو الآخر على دور الدكتور مكية في تأسيسه لفن المعمار وهندسته. بعدها تحدث الأستاذ الدكتور محمد مكية عن تاريخ هذا القسم (القسم المعماري) وجهوده الفردية في تأسيسه لأول مرة في العراق، كان ذلك عام 1959م، ودعا مكية إلى الإلمام الكامل بالتراث ولاسيما التراث المعماري البغدادي، وتكلم عن تجربته في تصميم جامع الخلفاء ببغداد، فضلاً عن توكيده التراث المعماري القديم والإسلامي للعراق، وتحدث الدكتور مكية عن علاقته الحميمة بالفنانين التشكيليين كفرج عبو ومحمد غني حكمت وفائق حسن وجواد سليم الذي تعرف عليه عام 1936م في باريس، كما كانت تربط الدكتور مكية علاقة حميمة مع جواد سليم وزوجته لورنا سليم. وتقديراً من الدكتور مكية فقد قرر أن يمنح الطلبة الأوائل في الهندسة المعمارية جائزةً باسم ((جائزة الأستاذ الدكتور محمد مكية)) لاعتزازه وتشجيعه لبناء وطنه الحبيب.
تحدث الدكتور محمد مكية عن نهر دجلة وما أدهشه عندما شاهد النهر بعد الغربة فقال ((الآن أحس انه أصبح بعيدا عني… مثلا الكاورية والترتيب والنهر, حبنا للنهر وجمالية النهر وكثافة النهر لا يجوز أن يكون الشارع والبناء مواز للنهر وهذا كل شيء, أن الشوارع بالنسبة لي، المدينة القديمة يجب أن احتضنها وتحتضنني و واخرج منها شرايين خضراء وتمتد إلى عدة مدن, تمتد الامتداد الطبيعي، لكن هنا نرى الكارثة)).
كما قال أيضاً عندما زار جامعة بغداد واطلع على تخطيط الجامعة والطرق، إذ أشار إلى ((إن حقوق السيارة وحقوق الآلة يجب أن تأتي بعد حقوق الإنسان, حقوق الإنسان بالفضاء, حقوق الإنسان بالسماء, بالعام قبل الخاص, إن كلامي هذا عن الهوية أريده أن يثير لديكم تساؤلات)). وتحدث عن دور الثقافة المعمارية قائلاً ((إن تنشئة الثقافة المعمارية مهمة جدا لدعم الآخرين المجتمع والدولة بالأفكار, الذين لديهم نية، ولكن تنقصهم المعرفة التي يمكن أن تعطى لهم وتساعدهم بالثقافة. هناك شيء أريد أن أؤكده هنا هو العمل الجماعي, لقد دعيت قبل مدة لدبي, و أعطوني جائزة أيضاً, لكني هناك قلت لهم نحن معماريون عراقيون و كان هناك الكثير منهم ذهبوا لأجل العمل وقلت لهم اسسوا وكونوا المدرسة البغدادية، اليوم الحياة تتطلب العمل الجماعي لا مشروع ينهض منفردا حتى بين الاختصاصات لن ينفع أن تجلب مثلا أحسن مهندس إنشائي دون العمل الجماعي, هناك مدارس لديها خريجين متميزين وتمكنوا أن يكونوا كيانات مهمة بإدارة مضبوطة للاختصاصات وبعمل جماعي, فلا يعمل مهندس الطرق لوحده، أين أبراج السماء, أين المحلة البغدادية وسقوفها وسمائها وإطلالتها على النهر…. حب النهر… النخيل…. وما أدراك ما النخيل, كنا نتجول بين البساتين لنتحرك بين محلة وأخرى, إن الكثافة لا تخيفنا إنما البعثرة, وأنا الآن اسمع خطاب بناء 600000 وحدة سكنية في بغداد, وقال بلهجته البغدادية ((لخاطر الله أنقذوا الموروث، أعملوا ندوات هنا))، وعن النهر الذي يمثل قدسية وذكريات في حياته البغدادية، قال الدكتور محمد مكية ((بيتي لحسن الحظ على النهر, الآن اشعر انه أصبح بعيدا عني… مثلا الكاورية والترتيب والنهر, حبنا للنهر وجمالية النهر وكثافة النهر لا يجوز أن يكون الشارع والبناء مواز للنهر وهذا كل شيء, أنا الشوارع بالنسبة لي, المدينة القديمة يجب أن احتضنها وتحتضنني و واخرج منها شرايين خضراء وتمتد إلى عدة مدن, تمتد الامتداد الطبيعي, لكن هنا نرى الكارثة….)) .
وهنا يتساءل مكية كيف يكون التعامل مع دجلة؟ لقد قتلوا دجلة! فالشوارع موازية له بدل أن تكون عمودية…هذه دجلة… دجلة الخير… تغنى بها الشعر والأغنية ولكن الواقع شيء آخر… أنتم بغداديون.. أنتم المدرسة البغدادية.. المفروض أن تجعلوا بغداد (حالة دراسية), المفروض أن تجتمعوا أنتم و أساتذتكم وتدرسون قطاعات بغداد, خذوا باب المعظم, خذوا الباب الشرقي, خذوا مدينة الصدر… كيف نعالجها..؟ كيف نعالج شرايين بغداد..؟ كيف نفهم الشرايين الخضراء..؟ كيف نتعامل مع المدينة، كجسم كامل، كيف نتعامل مع دجلة, والتفكيك من أجل إعادة البناء, والتكنولوجيا الجديدة ومعطياتها, انتهى العمود والجسر الان الغيمة هي السقف. هذه المسائل التي تكاد تكون بديهية, ولكن بها فلسفة… من نحن…؟, فلسفتي في العمارة هو المقياس الإنساني (human scale), ما هو المقياس ألإنساني؟ الإنسان.., المكان.., الزمان الإنسان: يعني القيم الاجتماعية… القيم ألاعتبارية.. الخصوصية…, المكان: المسرح المكاني للحياة و الزمان: الحضور في الذاكرة…, هذا الثلاثي يكون شيء واحد هو المقياس ألإنساني.
وفي ختام اللقاء تجول الدكتور محمد مكية في أروقة القسم وكنا نسير خلفه بكل اعتزاز وفخر وكنت أحاول جاهداً الوصول إليه والتحدث معه، حتى استطعت بالفعل وعندما علم أنني ابن صديق قديم له واحد أعضاء جمعية الكوفة اندهش ومن حبه وشوقه لأيام العلم والثقافة والحب الأصيل احتضنته واحتضنني بكل حب وعيون دامعة، وسلمته كتباً للذكرى وقال لي انه عائد إلى بريطانيا ويريد أن أرسل له أي توثيق لزيارته التاريخية لبغداد، رحم الله شيخ المعماريين العراقيين الدكتور محمد مكية في ذكرى رحيله الخالدة، اذ رحل عن عمر يناهز القرن في العاصمة البريطانية لندن يوم التاسع عشر من تموز عام 2015م.

اقرأ ايضا

العمارة… النص المرئي: رؤى في الشكل والمعنى والوظيفة

جاسم عاصييعرّف الفنان المعماري الدكتور محمد مكية فن العمارة كونه وليد الخصوصية الروحية والظروف البيئية، …