العمارة… النص المرئي: رؤى في الشكل والمعنى والوظيفة

جاسم عاصي
يعرّف الفنان المعماري الدكتور محمد مكية فن العمارة كونه وليد الخصوصية الروحية والظروف البيئية، التي تميّز طبيعة ما. وهو من جهة أخرى معبّر عن فكر وشعور يخصان الحياة الروحية، أي الفكرية والدينية وليس فقط الجوانب المادية (كتاب حسين الهنداوي الموسوم “محمد مكية والعمران المعاصر”) الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2013) وبهذا نرى أن العمارة كبعد جمالي ذات تشعب في المعاني التي تطرحها، لا باعتبارات كونها مكاناً وملاذاً لاستقرار الإنسان، بقدر ما توحي في كونها حاملة للبنى الجمالية. فالخصوصية الروحية تعني علاقة الذات بالمادة والشكل ــ العمارة ــ كونها تستجيب للذات وتُنتج عنها وإليها. كما أن بناها الفكرية تعني علاقتها بما تنتجه الشعوب من ملحقات مكمّلة للحياة ناتجة عن تصورات موضوعية.
وكل هذا يتبلور في الملائمة والتوافق الروحي والحسي الوجداني للإنسان. ومن هذا تزداد الصور التي تشتق من أجل تأسيس العمارة. ولعل وظيفتها على صدر مثل هذه الصور ـ التصورات ـ المرتبطة بالفكر الإنساني. من هذا كان محمد مكية، ممن سعوا إلى محاكاة التراث أو تكييفه شكليا، وبث حياة جديدة فيه، وإعادة تشكيله وظيفيا وجماليا. وهذا ما عناه بالبعد الروحي في تشكيل العمارة، فالعمارة بهذا مكان، وأمر الاهتمام بها وفق هذه الاعتبارات، يعني وكما ذكر المعماري مرارا من أن هذا الاهتمام متأتي من حماية ذاكرة المكان والدعوة إلى الحفاظ على (سومرية الوطن)، معتبرا من الخطأ الكبير التضحية بالنكهة التراثية العريقة لبعض المدن العراقية، كإزالة البيوت البغدادية القديمة، من أجل مشاريع قد تؤدي إلى طمس الذاكرة الحضارية العراقية. واندثارها الكامل، لأنها بالنتيجة لا تجد لها مجالا في ذاكرة الأجيال القادمة. وهذا التصوّر الحريص على المكان وخصوصياته، يعني في ما يعنيه العمل على استلهام التراث العمراني الخاص بالشرق الإسلامي، لاستلهامه تقنيا والتشبّع بقيّمه الروحية والجمالية.
وعلى سبيل المثال أهمية توظيف الخط الكوفي في البنايات العامة واستثماره معماريا وابتكار التصاميم الحروفية المتعددة والتعامل مع الإيقاع اللوني المجرد بحركاته التناسبية المختلفة، أي أن المعماري في هذا التوظيف معني بالإنسان، أي التثبت من القيّم والأفكار والحياة الروحية والعلاقات الاجتماعية وما يشكّل مكوّنات الوجود الخاص بالبشر، ثم المكان أي مسرح الحركة وتفاعل هذه المكوّنات والزمان، أي الأخذ بنظر الاعتبار الحُقَب الخاصة وما يطرأ عليها من تجدد وتبدل متمخضين من تغيرات المكان. وبهذا تكون العمارة حاملة لخصائصها العامة والخاصة. فهي من جهة متأثر بالتقنية، ومن جهة أخرى محافظة على صورته المتطورة. فالمعماري لا يعمل بمعزل عن كل التطورات التي تطرأ على فن العمارة في العالم، لكنه يعمل في حدود كون عامل التطور في الجانب الآخر، يعني محاول كشف خفايا العمارة المحلية ـ التراثية ـ والتثبّت من أسرارها وخصائصها الجمالية والاجتماعية. بمعنى النظر إليها على أنها بنية فكرية ترتبط مباشرة بالعقل المنتِج لها، إذا ما نظرنا إلى الدول الأوروبية، وكيفية تطور العمارة في مجتمعاتها، فقد جاء ذلك من استلهام كل التراث القديم لديهم، وتكييفه وفق متطلبات العصر. لأن العمارة جزء من حضارة الشعوب، فهي استلهام لقيمها الروحية والمادية. فالحضارة في رأي مكية نمط روحي وحياة شاملة على أصعدة التفكير والتقييم الذوقي والحاجات والهموم الكبرى، فقد قاد الاحتكاك والتقارب بين مختلف أجزاء الإنسانية، العديد من المفكرين إلى تحقيق الوحدة الحضارية الفعلية، دون أن تفقد إحداها خصوصيتها.
فالتجاوز على حضارة ما يُعد محاولة لفرض نمط خاص لا تهمه الخصوصية الذاتية. ولعل الكاتب التشيكي ميال كندورا على صواب حين يرى أن التراث الثقافي لشعب ما؛ هو ذاكرة هذا الشعب. وبهذا فإن محاولة تفريغ أمة من تراثها الثقافي، هو تفريغها من أصالتها في رأي مكية. وبالتالي التعدي على بنيتها الفكرية والجمالية من خلال تشويه مكانها، أي التجاوز على بنية عمارتها، كما يحدث الآن في محو ذاكرة المكان وإلغائه وتغليف البنيات بألوان ورقائق صارخة، لا تمت إلى البنية المحلية والتراثية بصلة، وبهذا تم إلغاء الذاكرة. وفي هذا يؤكد مكية ضرورة الاهتمام في الأحياء الشعبية، خاصة البغدادية منها بقوله: إن التراث الشعبي والأحياء الشعبية البغدادية، المتشابكة بأزقتها وما تمتاز به، فهي تحملنا على ضرورة رعاية بعض المعالم كمجموعة وسط المدينة، فهي جزء من جمال المدينة الجديدة. وهذا مرتبط مباشرة بإحساس الإنسان ببيئته.
ولعل المكان ـ البيت والمؤسسة المتمثلة في العمارة ـ تعني لديه قيّما روحية تنطوي على وظائف اجتماعية، وإن لم يدرك الإنسان هذا مباشرة، لكن تكيّفه معها يعني قبوله سيكولوجيا بما يعيشه، وما تغيير معالم المكان سوى إحداث اضطراب في البنية العامة له. فالفنان المعماري محمد مكية، كان قد استلهم في أعماله المعمارية الروح الإسلامية، ومنها روح التوحيد، أي خلق ظواهر وخصائص معمارية تدعو إلى الوحدة، بمعنى تستنهض روح الألفة مع المكان، وبالتالي يسري ذلك إلى العلاقات الإنسانية. ولعل مكية بهذا الجُهد استلهم الفكرة الفلسفية التي تقوم عليها العمارة لأنه يعتبرها ـ أي العمارة ـ أي عمارة ابتداء من البيت والمؤسسة والمسجد وما يليها عبارة عن بنيات فكرية، وبهذا فهي بحاجة إلى بني فلسفية، لأنها تحاول تشييد ما يؤسس لعلاقات إنسانية في المجتمع. فالمكان خالق للقيم والاعتبارات الأخلاقية، ومشيّد للقيّم الجمالية، لأنه مرتبط أيضا بالرؤى المترتبة عن هذه التصورات. ولعل الخوف من الغزو الفكري المتجسّد في ترحيل العمارة وإحلالها بديلا للعمارة العربية الإسلامية؛ يرى مكية أن هذا لا يعني انقطاعنا عن مجمل التطورات في العالم، لكن شريطة أن نُدرك أهمية المحلي، لأنه نابع من حاجاتنا وتركيبتنا النفسية، وبالتالي بتاريخنا وبنيتنا الاجتماعية.
وفي هذا الخصوص علينا ونحن نتداول ما توصل إليه الغرب في العمارة أن نطور ثقافتنا الخاصة وننظر نظرة نقدية لكل مكوّننا الثقافي. ويؤكد أيضا على مفهوم ثقافتنا الحقيقية، وكأنه يستظهر الأخرى الدخيلة. في هذا لا خوف على انفتاحنا على الثقافات الأخرى، والاستفادة من معارفها ومعطياتها، فيما نتحلى بالعقل الثقافي النقدي. وهذا يعني بطبيعة الحال تأصيل عمارتنا وتأثيث مكاننا بما توحي به قيّمنا الروحية والمادية.

اقرأ ايضا

في ذكرى رحيل شيخ المعماريين العراقيين محمد مكية

معتز عناد غزوانلم يخطر ببال الدكتور محمد مكية أن يعود إلى بلده العراق الحبيب وعاصمة …