د. خالد السلطاني
قد يشي العنوان الذي اخترناه للمقال التحية، في تسعينية المعمار العراقي المعروف الدكتور محمد مكيه، قد يشي الى نوع من المفارقة، مفارقة تفصح بفعلها الاجرائي مدى الضرر الكبير الذي الحقه النظام التوتاليتاري البائد بالعراق، وبالثقافة العراقية، وبالمثقفيين العراقيين؛ اذ كيف يمكن لنا ان نتصور بان معمارا قديرا ومهما في قامة ” محمد مكيه “، لم يكن بمقدوره لسنين، لعقود من السنين، العمل في وطنه وزيارة بلده؟
كيف يمكن للمرء ان يتصور بان مثقفا يمتلك حضوراً مميزا في المشهد الثقافي العالمي يمكن ان يستقبل “تسعينيته ” (اكرر “تسعينـيته!”) في بلد غريب، وبعيد المدى عن وطنه؟؛ ومثال “مكيه” يماثل عديدين من مثقفي العراق المبدعين والمهمين، الذين حرموا من زيارة بلدهم والمشاركة في تطويره والعمل في اعماره بسبب نزوة غير مبررة اطلاقاً من افاقي الدروب الخلفية ولصوصها: القتلة الاميين،الذين نصيوا انفسهم، بغفلة من الزمن، حكاماً للعراق على مدى عقود!
ولد “محمد صالح مكيه” عام 1914 في بغداد، بمحلة “صبابيغ الال”، المحلة البغدادية الاصيلة، التى اعتبرها الشخصية الوطنية والثقافية عبد اللطيف الشواف، في كتابه ” شخصيات نافذة ” من المحلات القليلة الباقية التى رجح اصل سكانها، بانهم اسلاف “بغداد العباسية”، ذلك لانها مع تخومها ظلت، لقرون عديدة، بمنأى عن هموم وامال وتبجحات سكنة “جديد حسن باشا” – مقر الولاة في بغداد العثمانية، كما انها لم تطلها نوبات الغضب المتعددة التى كان ينزلها الولاة / الحكام باستمرار على تلك المحلات القريبة من مكان سكناهم وعملهم، العاجة بمناخات الدسائس والمؤامرات والمكائد التى لا تنقطع!
انهى “محمد مكيه” تعليمه المعماري في انكلترة، في “ليفربول” مدينة المعاريين العراقيين الرواد، اللذين تأهل اكثريتهم في مدرستها المعمارية وحصلوا منها على شهادات التخرج المهنية، امثال احمد مختار ابراهيم، وحازم نامق، وجعفر علاوي، وعبد الله احسان كامل، ومدحت على مظلوم وغيرهم؛ كما انهى “مكيه” دراسته العليا (الدكتوراه) من “كينغس كولوج Kings College ” في كمبريدج عام 1946.
تنطوي السيرة المهنية للمبدع، ايا كان ابداعه، على سلسلة من حلقات متصلة، حلقات تشكلها تنويعات التجريب التى يمارسها المبدع، والمفضية الى نوع من الارساءات الاسلوبية الناضجة، التى بمقدورها ان تفتح طرقا غير سالكة، تكون مهمتها تكريس الجديد وغير المألوف في الخطاب الابداعي الثقافي. بمعنى اخر ثمة استمرارية في العمل الابداعي، استمرارية منسابه هي في الاخير ماهي الا شكل المقاربة الذاتية التى تطبع انتاج المبدع بطابع خاص. من هنا، تبدو لا موضوعية النزعة التحقيبـية الصارمة وخطلها في العملية النقدية التى يلجأ اليها كثير من النقاد لرصد منجز هذا المبدع او ذاك؛ ذلك التحقيب الذي يكرس انفصام الناتج الابداعي من مرحلة بعينها عن بقية المراحل الاخرى في سيرة المبدع الثقافي.
على ان بعضاً من انواع النقد المعاصر يلجأ الى توظيف اليات التحقيب من اجل ارساء قيم نقدية، هدفها اضاءة المنجز الابداعي بموضوعية عاليه ومن دون التمترس وراء قطيعة حقبة زمنية وغربتها عن الاخرى، سعياً لادراك مهام وخصوصية تلك الحقب، والكشف عن روابط تأثيراتها الواحدة في الاخرى. وهذا هو ما نسعى الى اسقاطه على محاولتنا في التعاطي مع سيرة “محمد مكيه” المعمارية.
ومرة اخرى، ينبغي التأكيد بان تناول فعل التحقيـبات، التى سنشير اليها، مرده الحرص على تركيز الاهتمام في مساحة زمنية محددة بعينها، والاشتغال على انجازاتها، توطئة للالمام بتأثيراتها المستقبلية في صيرورة مبدعها و “بيوغرافويته” المهنية.
يمكن رصد مرحلتين اساسيتين في نتاج “محمد مكيه” المعماري؛ المرحلة الاولى، تبدأ منذ انهماكه في العمل المهني بالعراق، غُب وصوله اليه، في نهاية الاربعينات، وحتى بداية الستينات، اي الى ميقات تصميم “جامع الخلفاء” عام 1963؛ والتى عندها تبدأ المرحلة الثانية في مسيرة المعمار المهنية؛ اي باختصار شديد، ثمة حقبتـان رئيسيتـان في سيرورة المعمار: قبل جامع الخلفاء وبعده. بالطبع هناك مراحل اخرى شهدتها مسيرة المصمم، لكن مرجعية تلك المراحل الاسلوبية كانت دائما تستقي حضورها
التكويني من خصوصية تينيك المرحلتين، اللتان الفتا لحمة خط المسارالمهني للمعمار. وقد تبدو طبيعة التصاميم المعمولة في كلتا الحقبتين متباينة، بل ومتضادة شكلاً الواحدة للاخرى، بيد اننا نلمح فيهما توق المعمار وسعيه وراء ما ندعوه “بالجديد المحافظ” والحرص على تفخيـم هذا المنجز وتعظيمـه؛ وهما سمتان طبعتا اسلوب تعاطي المعمار مع الفعل التصميمي، بطابع مميّـز.
عمل “مكيه” في حقبته الاولى على تبجيل مفردات التصميم السائد في المشهد البنائي المحلي، والسعي الى الارتقاء بها الى مصاف اللغة الاحترافية المهنية؛ وهو ما عكسته طبيعة تصاميمه ابان تلك الفترة من ولع واضح بالتعاطي مع خصوصية المادة الانشائية التقليدية بالعراق وهي: الاجر- الطابوق. وتبدو هذه المادة حاضرة في نسيج الاعمال التصميمية التى نفذها المعمار في نهاية الاربعينات والخمسينات، كما تبدو وكأنها تكتسي شكلاً جديداً، نابعا بالاساس من اسلوبية الحدث التصميمي الجديد، والمناط بتلك المادة لاظهاره. في عمارة بعض البيوت السكنية كدار “فاضل الجمالي” في الاعظمية و”دارة الاميرات” في المنصور، او في مبنى “المستوصف العام” على ساحة السباع (1949) ببغداد وغيرها من المباني، نتلمس حرص المعمار على ايصال عمل مادة الطابوق لمستويات مهنية عالية وجديدة، لم تعتادها الممارسة البنائية المحلية، لكن اشكال مفرداتها التصميمية تظل اسيرة مرجعيتها التقليدية المحافظة.
في بعض المباني التى صممها “محمد مكيه” في تلك الفترة، يمنح المعمار اهمية خاصة الى بعض المفردات التكوينية ليجعل منها، ومن شأن المبالغة في المقياس والقياس، حدثا تصميماً اساسياً؛ ففي فندق “ريجنت بالاس” بشارع الرشيد، في بغداد (1954)، وكذلك في تصاميم دور سكنية عديدة، يستثمر المصمم مفردة “السلم” ذي الوظيفة المتواضعة ليجعل منه نقطة جذب تصميمية، بعد ان يسدي علية هالة من التضخيم والتوسيع الكبيرين.
ويظل مبنى “بلدية الحـلة” والمصمم من قبل “محمد مكيه” عام 1951، من اجمل واهم مباني تلك الحقبة. لا ينطوي الحل التكوينى للمبنى على لغة معمارية حداثية، كما ان اسلوب معالجة تنظبم الفضاءات فيه تبدو كلاسيكية، بل ومحافظة نوعا ما: ثمة رواق مكشوف لطارمة امامية يستند سقفها المستوي على مساند آجرية، وهذا الرواق يحمي ويظلل فضاءات الغرف الادارية الواقعة بجنبه، وما عدا بعض التوفيقات في الحلول الانشائية، فان عمارة مجمع المبنى تـكاد.. ان تكون عادية،… تكاد؛ بيد انها ليست كذلك!
والسبب يرجع الى “برج” الساعة الضخم والشاهق؛ الذي ينقل مكانة عمارة المبنى العادية..الى مستوى فوق العادي، الى منسوب مميـّز واستثـنائـي مقارنة الى طبيعية البئية المبنية المحيطة.
يرتفع “البرج” ذو المسقط المربع، عالياً فوق كتلة المبنى المتكونة اساساً من طابقين، وتتوج نهايته باربع ساعات كبيرة. وتذكرنا هيئة المبنى غير العادية باهمية المغزى الوظيفي الذي تضطلع به هذه المؤسسة، كونها تمثل نواة الحكم المحلي لاهالي المدينة الفراتية وسكانها المتطلعيين، وقتذاك الى مستقبل اقتصادي وثقافي واجتماعي افضل!
ان اهمية عنصر البرج الشكلية تطغي بوضوح على مجموع مفردات التكوين الاخرى، ليس لانه اعلى ارتفاعا من بقية كتل المجمع، ولكن ايضا، بسبب اسلوب المعالجات شبة المصمتة لواجهاته التى اكتسبت جراءها، تلك الواجهات قوة تعبيرية واضحة وكذلك ايضاً جراء شبكة الخطوط الافقية والعمودية المرسومة على تلك الواجهات، فضلا على وجود الساعات الكبيرة الرنانة في قمته. وتتصادى الحلول التصميمية الى وضفها المعمار في مبناه هذا، مع الاساليب التكوينية التى اقترنت بمحاولات المعمار الهولندي المعروف “وليم دودوك (1884-1971) W. Dudok” واشتغاله كثيراً على ثيمات تعبيرية التلاعب الحّر في الكتل الهندسية البسيطة واشكال الانزياحات النشطة، واللاتماثلية القوية، والمعالجات المقتضبة للسطوح.
بالنسبة الى مدينة “الحلـة”، وقتذاك، لم يكن الحل المعماري لمبنى البلدية وحده يشكل امرا مثيراً، بقدر ماكان ايضاً، حضور العمـارة وجلالها في نسيج البيئة المبنية المحيطة، كانا لا يقلان حماسة واثارة!
صمم “محمد مكيه” مبان عديدة، مختلفة الاغراض والوظائف على امتداد زمن الحقبة الثانية من نشاطه التصميمي، وانطوت لغة العمارة المصممة على اكتشافات هامة عززت من معجمه التكويني واهلته لان يكون واحدا من اشهر المعماريين الاقليميين في عموم منطقة الشرق الاوسط. وتعد بعض تصاميمه في هذه الفترة بمثابة معالم اكيدة على ما عرف ” بالتيار الاقليمي الجديد ” التيار الذي يطمح ان يكون انجازه المعماري متماهياً مع الذاكرة الجمعية لمفهوم ” العمران” في اوساط اقليمية معينة، متكئاً على لغة تصميمية مشبعة برموز ومفردات الناتج البنائي لمنطقة محددة بعينها؛ ويمكن لمتتبع انجاز ” محمد مكيه ” ان يتعرف بسهولة عن مورد المفردات التصميمية ومصدرها، وان يلمح ببساطة مسار الاضافات التكوينية المقننة التى طرأت على ” ريبرتواره ” repertoire التصميمي في هذه الحقبة، وهي مفردات واضافات ما فتأت تستدعي عتاصر المنجزالمعماري اياه الذي تّم تحقيقه سابقاً في مشروع تصميم ” مسجد الخلفاء ” في منطقة سوق الغزل ببغـداد عام 1963.
فمنذ مبنى “الكلية التكنولوجية ” في باب المعظم ببغداد (1966) < والذي شغلته كلية التربية لاحقاً>، مرورا بمكتبة ديوان الاوقاف العامة(1967) ومبنى مصرف الرافدين في الكوفة (1968)؛ ومن ثم مبنى ” مسجد الكويت الكبير ” في مدينة الكويت (1976)، ومسجد الصديق في الدوحة (1978)، وكذلك التصميم المعد للجامعة العربية في تونس (1983)؛ وعشرات المشاريع الاخرى ذات الاغراض الوظيفية المتنوعة والمنفذة في العراق وفي بلدان الخليج المختلفة في السنين الاخيرة، نحس بان ثمة تفاصيل معمارية معينة او بالاحرى تنويعات على ثيمة تفاصيل معمارية بعينها، متواجدة وحاضرة في نسيج اللغة التكوينية لتلك التصاميم، وليس هناك صعوبة ما في ارجاع تلك التفاصيل الى منبعها الاصلي، الى ذلك المنجز المثير الذي تحقق في محلة ” سوق الغزل “!
والسؤال ما برح قائماً:
كيف تسنى للمعمار ان يحقق تلك ” الطفرة ” التصميمية، وان يظل، في ذات الوقت ولعقود، اميناً لمرجعيتها االتكوينية؟
والسؤال، هنا، اذن- سؤالان.
لكننا، ونحن في هذا المقام، لا يسعنا الان، الاجابة عن ذينيك السؤالين، ليس لانهما غير جديرا بالاجابة، ولكن طبيعة المقال، والنزعة الاختصارية له، وطبيعة المناسبة التى نحن بصددها، لا تبيح لنا الاستطراد في الاجابة.
وفي الاحوال كافة، فان ما تم انجازه في مسجد الخلفاء “، يعد حدثاً تصميمياً مهما، عكس ما كان يتوق اليه المعمار سابقاً من ولع كبير وعميق بالتفاصيل، ومن انتباهه الى ما يمكن ان تحتويه تلك التفاصيل من اسرار الالفة المكانية، المنشطة لانتاج ما يشبة ” الايقونة ” المختزنة في الذاكرة الجمعـية وتصوراتها عن ” العمارة ” و ” العمران “!
لا يطمح مخطط تصميم ” مسجد الخلفاء ” الى حل نفعي ومباشر لتجسيد مفردات المنهاج الداعية لتصميم فراغات ” مسجد ” باشتراطات محددة؛ فالمكان، وشواهد المكان، وموقع المكان، كلها امور غير عادية، لم يكن بمقدور المصمم تجاهلها او التغاضي عنها. فالمسجد المنوي تشيده يقع ضمن منطقة تاريخية مهمة في تاريخ الاسلام والخلافة الاسلامية، التى كانت بغداد يوما ما حاضرة لهـا، ثم ان وجود المأذنة التاريحية، في الموقع، والتى يعود تاريخها الى اواخرالقرن الثالث عشر (1279) واهميتها الاثارية وارتفاعها الشاهق (يصل ارتفاعها الى حوالي 35 مترا) وهيئتها المميزة واسلوب تزيناتها وطبيعة موادها وتراكيبها الانشائية، فضلاً عن ان الموقع ذاته شغلته يوما ما، مساجد بغدادية فسيحة ومهمة، لم يبق شاهدا منها الا مأذنة تنهض اليوم عاليةً في الموقع؛ كل ذلك كان حرياً بان يُـأخذ في نظر الاعتبارعند اعداد الفكرة التصميمية للمسجد. ولهذا فان القرار التصميمي لم يكن معنيا كثيرا بايجاد فراغات مناسبة للمصليين، وهي الوظيفة الاساسية لمبنى مسجد، بقد ما كان ينزع ذلك القرار الى حضور تجليات القراءة الحديثة لسجل التاريخ البنائي والعماري لتلك المنطقة؛ والتماهي تصميمياً مع عناصر ورموز مألوفة للذاكرة الجمعية ومعروفة لديـها. فالمعمار، هنا يستثمر الحدث التصميمي لاعادة انتاج ذلك الموروث الثر والنبيل الذي ما فتأ يثير همة وحماس البناة المحليين، ولهذا فان تنظيم الاحياز التصميمية لمسجد الخلفاء وتشكيل عناصرة المعمارية كانت معنية، في اعتقادنا، الى تكريس حضور الفضاء تكوينياً، الفضاء العاج بالنكهة التاريخية، وان لا تغلب العناصر المستحدثة شاهد الاجيال السابقة، وان لا تحاول ان تطمس منجزها التصميمي البارع! وبعبارة اخرى، يستبدل المعمار، المسكون بحضور الغياب، مراميه التصميمية في ابتداع فراغات جديدة، يستبدلها لجهة اقتصار الفعالية التصميمية وجعلها تعمل كخلفية بنائية background لـ “فكرة” متخيلة تكون مشاعة للجميع، في تصور ما يمكن ان يكون عليه “مسجد الخلفاء” جنبا الى جنب شاهده المادي المثير- المأذنة التاريخية العتيدة، ذات “الفورم” الجميل والتناسبات النبيلة.
يبقى هاجس التفصيل سيد التكوين في عمارة “مسجد الخلفاء”؛ التفصيل الذي يطمح لان يكون مكافئاً للمنظومة التزينية التى تكسو سطوح المأذنة المجاورة من جهة، ومن جهة اخرى يسعى التفصيل وراء تكريس هيئات العناصر المعمارية التراثية المألوفة وجعلهامفردات نشطة في صميم المعالجات التكوينية للمسجد، بيد ان المعمار، هنا، لاينساق وراء اغواء وجود العناصر التراثية ليعلن انتماء عمارته الى المكان، ذلك لان التفصيلات المستخدمة، عدا كون اشكالها هي نتاج فعالية تفسيرية، فانها تستثمر طاقات المادة الانشائية الحديثة المعمولة بها تلك الاشكال الى اقصى حد،وتنزع لان تتواءم مع امكاناتها التركيبية. ويبدو ان مزاوجة استخدام منظومة التزيينات القديمة مع الحلول الحديثة هو الذي يمنح “مسجد الخلفاء” ذلك الاحساس العالي بنظارة وحداثة القرارات المعمارية ومنطقيتها؛ وفي النتيجة، فنحن ازاء تمرين بصري ممتع، يزيده امتاعا كون العناصر البنائية التقليدية قد تم تأويلها لتتناسب مع مجرى استحقاقات لغة العمارة الحداثية. وهذا الامتزاج النبيـه الذي تحقق في “مسجد الخلفاء” عدّ حدثاُ تصميمياً مهماً، وطدّ تداعيات مبادئ وقيم تيار “الاقليمية الجديدة” الناشئ، وابان مقارباتها المميّزة في الخطاب المعماري العربي بصورة واضحة وجليّـة.
مرّ على مكتب “محمد مكيه” معماريون ومصممون عديديون، ساهموا كل حسب اجتهاده وعمله في تعزيز المقاربة المعمارية التى اتسم بها نشاط ” محمد مكيه ” الاستشاري. ان عملهم ومشاركتهم في انجاز تلك المشاريع ساهم، ايضاً، في تثبيت نهج العمارة الاقليمية في الخطاب المعماري العربي الحديث؛ وعدم الاشارة اليهم والى جهودهم سيقلل بالتأكيد من موضوعية الاحتفاء بتسعينية المعمار. ان عددهم لكثير! بيد ان ذكر بعضهم مثل جبرائيل خمو والمعمار داود، ومحمود العلي وعلي الموسوي وخالد الراوي ونوف علاوي، سيكون امرا مقبولاً في تأكيد فعل مساهمة الاخرين والاعلاء من شأن روحية العمل الجماعي الذي انتج ما انتج من مشاريع مهمة ومميزة خرجت من ” معـطف ” مكتب ” محمد مكيه “!
لا يمكننا، ونحن بصدد الكلام عن سيرة ” محمد مكيه” ان نتغاضى عن دوره الفعال والاكيد في تأسيس مدرسة بغداد المعمارية الاولى قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة بغداد، فقد شغل المعمار منصب اول رئيس للقسم غُب تأسيسه عام 1959 ولحين خروجه من العراق في نهاية الستينات؛ وحاول مع زملائه المعماريين العراقيين وبالاشتراك مع تدريسيين من اوروبا الشرقية ان يكرسوا الاهتمامات المحلية والاقليمية في المناهج التدريسية للقسم، وان يعكسوا ذلك في استحداث مقررات جديدة تخص العمارة الاسلامية وشواهد البيئة المبنية. واذكر، شخصياً، عندما عينت في القسم المعماري في بداية السبعينات كان ثمة كلام كثير ودائم من منتسبي القسم وخريجيه عن ما قدمه محمد مكيه لتلك المدرسة من جهد واهتمام ورعاية؛ وقد ارسى “مكيه” تقليدا مثمرا وهادفا بضرورة مشاركة المعماريين العراقيين المؤهلين العاملين في الحقل المهني التدريس في القسم، وساهم كل من رفعة الجادرجي وقحطان المدفعي واحسان بربوتي وفؤاد عثمان بالاضافة الى عبد الله احسان كامل وهشام منير وناصر الاسدي وحازم التك اللذين كانوا ضمن الكادر الدائم، التدريس في القسم، وظل هذا التقليد معمولا به على الرغم من ان القسم تهيأ له نخبة من الاستاذه الاساسيين الذين الفوا في السبعينات ومنتصف الثمانينات كادرا مرموقا من التدريسيين عملت بجهد واناة كبيرين الى تكريس وانماء ارث ” محمد مكيه ” التعليمي وكان من بينهم بالاضافة الى كاتب هذه السطور، د. عمانوئيل ميخو ود. احسان فتحي ود. بهجت رشاد شاهين ود. ساهر القيسي وباسر عبد المجيد وهيثم خورشيد وجرجيس البناء ود. مثنى البياتي ود. عدنان السامرائي وطالب الطالب وبطرس خمو وشيرين شيرزاد وخالد الراوي وغيرهم من الاساتذة البارعين والمحبين الى مهنتهم، اللذين رفعوا عالياً من مكانة واسم القسم الذى ارساه يوما ما ” محمد مكيه ” الى مصاف المدارس المعمارية المهمة والمؤثرة في العملية التعليمية لعموم منطقة الشرق الاوسط!
وعندما نظمنا نحن: اساتذة القسم وخريجيه وطلابه عام 1984 حفلاً بمناسبة مرور ربع قرن على تأسيس القسم ن شعرنا بمدى الاغتباط والفخر لرؤية نتاج البذرة المباركة، السليمة التى زرعها يوما ما ” محمد مكيه “؛ وهي الان بمثابة شجرة وافرة من الطلاب النابهين والخريجين الاكفاء اللذين اثروا البيئة المبنية لوطنهم، والبلدان المجاورة باعمال تصميمية مميّزة؛ قبل ان تمتد ايادي الدكتاتورية البغيضة الى تلك المدرسة المجتهدة لتحيلها الى خراب، كما حالت جميع مؤسسات البلد الاخرى الى خراب وتدمير كاملين!
قد يبدوالاستشهاد بالمفارقة التى تكلمنا عنها في اول مقالنا سبباً اخرا للتذكير بعمق المأساة الانسانية التى اوجدها النظام الدكتاتوري البائد في العراق؛ فالمعمار الذي ظـلّ حريصاً ووفياً لانتماء عمارته الى مكانها، المكان الذي نشأ وترعرع وعمل فيه؛… هذا المعمار يستقبل تسعينيته في بلد غريب وبعيد!
فهل تلبي المؤسسات الوطنية في العهد الجديد دعوة المناسبة التى اثرناها، وتحتفي بتسعينية هذا المعمار المهم والمبدع في.. بلده؟
مناشدا، ايضاً، اصدقاء وطلاب ” محمد مكيه ” ان يجعلوا هذه المناسبة فرصة مواتية للتذكير باهمية منجز عمارة ” محمد مكيه “.. والتخفيف عن غربة المعمار!
اقرأ ايضا
في ذكرى رحيل شيخ المعماريين العراقيين محمد مكية
معتز عناد غزوانلم يخطر ببال الدكتور محمد مكية أن يعود إلى بلده العراق الحبيب وعاصمة …