نغوغي واثيونغو: مناضل ضد الاستعمار الثقافي

بول مخلوف
وُلد عام 1938 في كينيا وحمَل اسم جايمس نغونغي. كانت الأسماء آنذاك تُمنح كما تُفرض الخرائط. سيغيّر اسمه لاحقاً بعدما ارتأى أنّ اسمه مشحونٌ بدلالةٍ استعمارية، فقرر استبداله بآخر يأخذ “الأصالة” الثقافية في الحسبان. هكذا سيتخلى عن جايمس نغونغي ليغدو نغوغي واثيونغو؛ اسم مستقى من تراث قومه الكيكويو.
هذا الانفكاك عن إرث المستعمِر كان المسعى الأساسي عند نغونغو واثيونغو طوال حياته التي انتهت قبل أيام بعدما غيّبه الموت عن عمرٍ ناهز الـ87 عاماً.
الأديب والمثقف الكيني الذي كان مرشحاً لجائزة “نوبل” لسنوات عدّة من دون أن ينالها، يُعَد واحداً من أكثر الأصوات جهوريةً في قضايا الاستعمار الثقافي، ورائداً في الأدب الأفريقي “الملتزم”.
كل شيءٍ أيديولوجيّ عند نغوغي واثيونغو. حتى عندما كان لا يزال محتفظاً باسمه، أي جايمس نغونغي، فقد كان من موقعه الأيديولوجي يُخضِع الإرث الاستعماري في أدبه للكشف والتعرية.
هذا ما نجده في أعماله الروائية الأولى التي كتبها باللغة الإنكليزية (“لا تبكِ يا صغيري”/1967، و”النهر الفاصل”/ 1965، و”حقنة من القمح”/ 1967) التي حملت اسمه الأوّل، جايمس.
لكنّ عام 1970 ستكون سنة التغيّرات الكبرى. لم يكن تغيير الاسم ذاك العام بمنزلة “تطهير” رمزي من وطأة المستعمِر بقدر ما كان قطيعةً ثقافية؛ موقفاً سياسياً حاداً أتى من ذاتٍ باتت تتماهى حدّ الامّحاء مع موضوعها الأدبي. التخلي عن جايمس اقترن بالانفصال عن لغته، أي الإنكليزية، وعن الجمهور “العارِف” كذلك. هناك قطيعة مع أيديولوجيا قابلها التصاق بأيديولوجيا معاكسة.
هكذا، عاد نغوغي واثيونغو وارتمى في حضن لغته الأم، الكيكويو، كاتباً فيها جلّ أعماله الذي حرص أنّ تقرأها الطبقة المسحوقة من أبناء مجتمعه. من هنا تبرز مكانته كناقد ثقافي، وصاحب نظرية نقدية (ما بعد الكولونيالية) وليس فقط روائياً لامعاً.
كتابه الشهير “تفكيك عقل المستعمَر” (1986) هو تحطيم للقوى المستعمِرة التي أخذت حداثتها مرجعاً، وزرعت أيديولوجيتها في الأذهان عبر اللغة… اللغة التي يتداولها المثقفون في البلدان المستعمَرة وهؤلاء الذين يريدون التمثّل بالمستعمِر. لقد حرص واثيونغو بشدة على صون اللغة. نظر إليها لا كأداة تواصلٍ إنما كوعاء يحوي الفكر. اللغة تنطوي على ثقافة ناطقها وعلى رؤيته تجاه العالم. إنّ الاستعمار، كما رأى، يدخل من باب اللغة، و”يبدأ الاستعمار حين يجبر الطفل الأفريقي على القراءة والكتابة بلغة لا ينتمي إليها”.
لذلك، آمن واثيونغو بأنّ الكتابة بلغته الأمّ هي فعل مقاومة وليست خياراً. الكتابة في هذه الحالة ممارسة ثورية باعتبارها تحريراً لوعي المستعمَر، واستعادة “الذات” (المستعمَرة) التي سلبت في الحيّز الواقعي. إنها أيضاً إعادة صياغة معنى خاص، مغاير عن المعنى الذي يحتكره المستعمِر ويعمّمه بحجّةِ أنه “متحضرِ”.
التحرر وفقاً لهذا الطرح يبدأ من “الاعتراف الذاتي” لا “الدولي”، وهذا يتطلّب تفكيك الوعي المُستعمَر، بإعادته إلى لغته الأصلية وحثّه على استعمالها، لأنّ التحرر يعني “أن ترى نفسك بلغتك، وتحلم بلغتك، وتقاوم بلغتك”. يتشكّل الوعي لدى المستعمَر في تشرّبه لقيم ومعايير المستعمِر، أو ببساطة في “اعتناقه” للغة المستعمِر.
لم يتساهل واثيونغو مع الأدباء الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنكليزية، بل وجّه لهم نقداً مقذعاً. بما أنّ اللغة هي جوهر الثقافة، فبمجرد رفض هؤلاء للغتهم الأمّ معناه رفضهم لهويتهم.
بالنسبة إلى واثيونغو، يفرض هؤلاء الكتّاب رؤيةً مشوّهة عن المستعمَر، ويعززون شعور “الخزي” الذي يكنّه المستعمَرون تجاه لغتهم وبالتالي حيال أنفسهم.
كما يسهمون في تمزيق الثقة بالثقافة واللغة المحليتين، وبذلك يطمسون إرثاً ثقافيّاً ونضالياً قديماً. كتب في “تفكيك عقل المستعمَر”: “لكي يتحرّر الجسد، يجب أن يتحرّر اللسان.
ولكي يتحرّر اللسان، يجب أن يتحرّر الخيال. والخيال لا يتحرّر إلا حين يُكتب بلغته الأم”. توفّي نغوغي واثيونغو تاركاً لنا عدداً من المؤلفات الأدبية والنظرية، وقد ترك لنا أيضاً وصية بالغة الأهمية: تحرير الإنسان يبدأ من تحرير اللسان.
· الاخبار اللبنانية

اقرأ ايضا

نغوجي وا ثيونغو يودع عالمنا المضطرب بعد أن خذلته نوبل

علي حسينعن 87 عاما رحل، أمس الأربعاء، الكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو، صاحب الملحمة الروائية …