نغوغي واثيونغو: لاتعمل الجماليّات في فراغٍ مجتمعيٍّ، والمفهوم الجماليُّ للحياة هو نتاجٌ للحياة ذاتها…

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
نغوغي وا ثيونغو كاتب كيني بارز يكتب في حقول الرواية والقصة القصيرة والمقالة، وتتناول أعماله مساحة واسعة من الاشتغالات تمتد من النقد الاجتماعي والانثروبولوجيا الثقافية و حتى أدب الأطفال. اعتاد واثيونغو على الكتابة باللغة الإنكليزية ولكنه أحجم عنها في مرحلة ما من تطوره الثقافي وانبرى للكتابة بلغة (Gikuyu) المحلية.
ولد واثيونغو في قرية من قرى كينيا عام 1938 أكمل دراسته وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية من كلية محلية في العاصمة الأوغندية كمبالا، وحصل خلال فترة تعليمه الجامعية أن عُرِضت مسرحية له بعنوان “الناسك الأسود The Black Hermit” عام 1962. نشر واثيونغو روايته الأولى “لا تنتحب يا طفلي Weep Not, Child” عام 1964 عندما كان يكمل دراسته الجامعية العالية في جامعة ليدز البريطانية وكانت الرواية الأولى التي تنشَرُ بالانكليزية لكاتب من شرق أفريقيا، ثم نشرت روايته الثانية “النهر الذي بيننا The River Between” التي يحكي فيها عن تمرد قبائل الماوماو، وقد وصفت الرواية بأنها حكاية رومانسية حزينة للعنف الذي ساد في تلك الأصقاع الأفريقية النائية، اعتمِدَت هذه الرواية ضمن مناهج الدراسة الثانوية في كينيا. جاءت رواية “حبة قمح A Grain of Wheat” لتؤشر تعلق واثيونغو بالماركسية الفانونوية (نسبة الى فرانز فانون)، وبعد نشر هذه الرواية تخلى واثيونغو عن كل من اللغة الإنكليزية والديانة المسيحية وعن اسم (جيمس) الذي ألحِقَ به عند العماد معتبرا هذه كلها رموزا كولونيالية. واعتمد منذ ذلك الحين اسم (نغوغي وا ثيونغو) وابتدأ يكتب بلغة الكيكويو واللغة السواحلية. كان العمل المسرحي الذي كتبه واثيونغو (سأتزوج عندما أرغب) وقدَم عام 1977 رسالة سياسية واضحة دفعت نائب الرئيس الكيني آنذاك (دانييل أراب موي) الى سجن واثيونغو في سجن يخضع لحراسة مشددة وقيود صارمة ما دفع واثيونغو إلى الكتابة داخل السجن على ورق التواليت!!. بعد اطلاق سراحه من السجن تم فصل واثيونغو من عمله كأستاذ في جامعة نايروبي و كان للمضايقات الوقحة التي تعرضت لها عائلته بسبب نقده الحاد للحكومة الديكتاتورية أثر بارز في خروجه مع عائلته الى المنفى ولم يعودوا الى كينيا إلا عقب 22 عاماً و بعد أن تمت إزاحة (أراب موي) عن السلطة.

  • منذُ أن بدأتَ الكتابة بلغة (غيكويو)، هل إستشعرتَ مرّة تغيّراً في توجّهات القرّاء غير المعتادين على استبدال سوق الكتاب الإنكليزيّ التقليديّ الواسع الإنتشار بآخر أصغر و أكثر محليّة و أقلّ انتشاراً بما لا تجوز معه أيّة مقارنةٍ؟
  • عندما شرحتُ موقفي تجاه كلٍّ من الإنكليزيّة و اللغات الإفريقيّة على صفحات كتابي تفكيك استعمار العقل Decolonizing the mind) عام 1986) قوبلتُ في بداية الأمر بسخريّة مريرة و عدوانيّة متعجرفة من قبل بعض الأوساط، لكنّي أرى اليوم انزياحاً في التوجّه، و ربّما لم تلقَ آرائي حتّى اليوم قدراً معقولاً من القبول لكنّها باتت في الأقلّ تلقى اهتماماً أكبر و نقاشاتٍ جادّة، و أستطيعُ القول بثقة أنّ كتابي ذاك هو في رأس قائمة مساهماتي الفكريّة حتّى اليوم.
  • أذكرُ في روايتك (النهر الذي بيننا) الكرب العظيم الذي عاناه البطل واياكي و هو يرى نفسه مُجبراً على الاختيار بين زوجته المسيحيّة و المرأة غير المسيحيّة التي تنتمي لمجتمعه المحلّي، و ظلّت هذه الثيمة طاغيةً في كلّ أعمالك: أن يظلّ المرء مخلصاً لمجتمعه المحليّ و يظلّ وفيّاً و ملتزماً بتقاليده الرّاسخة. هل جابهت في يومٍ ما – ككاتبٍ – أمراً مثل هذا الذي تحكي عنه في أعمالك و بما استوجب إنفصالك عن جماعتك المحليّة؟
  • نعم حصل بالطبع، فأنا – كأيّ كاتب آخر – ينبغي لي أن أنفصل بما يكفي عمّا أكتبُ عنه لكي أرى الأمور بشكلٍ أكثر دقّة و وضوحاً، و لكنّ هذا الانفصال ذاته نوعٌ من الحالة التي تقود إلى زيادة لحمة الارتباط الأوّليّ: ينبغي لكلّ كاتبٍ – أو فنّانٍ – أن يسبح في النّهر و لكن ينبغي له بذات الوقت أن يجلس على ضفة النهر لكي يرى الماء يجري أمام ناظريه!! أرى نفسي نتاجاً لمجتمعٍ ما و أحبّ دوماً أن أساهم بشئٍ ما يشاركُ في الارتقاء بذلك المجتمع.
  • ألا ترى في فكرة كون الكاتب (بعيداً) أو (لامنتمياً) بالنسبة لمجتمعه فكرة غريبة و غير مفهومة حيث تسودُ الرؤية القائلة بأنّ الكاتب ينبغي له أن يتبنّى رؤى إنعزاليّة و تسكنه على الدوام مفاهيم متشائمة بشأن دوره في مجتمعه؟
    (أن تكون بعيداً لكي ترى بطريقة أكثر وضوحاً) مفهومٌ يتقاطعُ تماماً مع النزعة التشاؤميّة، و بهذا المعنى فإنّ كون الكاتب بعيداً عن مجتمعه ليس بالضرورة مفهوماً غربيّاً، و لطالما إحتوت خزانة حكايات الشّعوب على رواياتٍ الأنبياء الذين توجّب عليهم الانسحاب إلى البريّة أو المكوث في الجبال ليعملوا هناك كوسطاء مخلّصين لمجتمعاتهم. هؤلاء هم (الراؤون Seers) في المجتمع، و الكاتب راءٍ في مجتمعه و ينطوي على خصوصيّة فريدة للغاية. إنّ تأسيس الحياة البشريّة على قاعدةٍ إنعزاليّة لهو تأكيد للرؤية الهوبسيّة للحياة (نسبةً إلى الفيلسوف ثوماس هوبس، المترجمة) و أرى في هذه الرؤية أمراً برجوازيّاً أكثر من كونه عنصريّاً.
  • هل يمكن لجماليّات العمل الأدبيّ – التي هي أمرٌ محمودٌ و مرغوب فيه على الدوام – أن تجعل الكاتب على تماسٍ مع عالمه؟ هل أنّ ” الجّميل ” في الأ-دب يمكن أن يُعيد إرتباط المرء بمجتمعه عوضاً عن دفعه بعيداً عنه؟
  • لاتعملُ الجماليّات في فراغٍ مجتمعيٍّ، و المفهوم الجماليُّ للحياة هو نتاجٌ للحياة ذاتها التي يعملُ المفهوم الجماليُّ على عكس صورتها لاحقاً. الزهرة الفائقة الجمال مثلاُ هي نتاجُ البيئة التي أنتجتها على الرغم من أنّ الزهرة بذاتها هي مؤشّرٌ عظيم الأهمّيّة لهويّة مجموعة النباتات التي تنتمي لها الزهرة أو حتّى للنبتة المفردة التي نشأت عنها. إنّ الزهرة، ذلك التكوين المعقّد، تحتوي على البذور التي تضمن إستمراريّة النبتة و بذا ستغدو الزهرة بعد حينٍ ماضياً في ذات الوقت الذي تخلق فيه جيلاً مستقبليّاً جديداً من الأزهار.
  • قرأتُ مرّة عن إنطباعات ماركس بخصوص نمط الحياة التشاركيّة التي تحياها قبائل هنود (الإيروكواس *)، و رأى ماركس أنّ ذلك النمط من الحياة غير ملائمٍ لطريقة الحياة الأوربيّة لأنّ الأرض و الموارد كانت توزّع على أعضاء الإيروكواس بالتساوي المطلق، و قد أطلق ماركس على هذا النمط من الحياة (النمط البدائيّ للحياة التشاركيّة) رغم أنّها كانت تحمل بعض سمات نظريّاته هو و التي كتب عنها كثيراً. ليس في قدرتي إلّا أن أندهش لحجم سوء الفهم بين أوربا / الولايات المتحدة مجتمعين و بين العالم الثالث فيما يخصّ مفردة (جماعة Community). هلّا شاركتنا رؤيتك بشأن هذه الجزئيّة؟
  • لا أظنُّ أنّ ثمّة عالمٌ ثالث متجانسٌ في مقابل نزعة يورو – أمريكيّة متجانسة، و طالما كان ثمّة طبقات في المجتمع – ايّ مجتمعٍ – فإنّ هذه الطبقيّة خليقة بنشوء صراعاتٍ بشأن الرؤى المتباينة التي ترى بها هذه الطبقات العالم، و في عالمٍ مقسّمٍ إلى أقلّية من الأمم التي تتحكّمُ بالأكثريّة من الأمم لا أرى سبيلاً لتجاوز الحالة الصراعيّة بين تلك الأمم.
  • لطالما أكّدت في أحاديثك أنّ الجماعات المهمّشة يمكنها إعادة إكتشاف ثقافاتها من خلال لغاتها الأصليّة لا تلك المفروضة عليها من القوى الكولونياليّة، و يبدو أنّ هذا الفعل ينطوي على إزاحةٍ للمركز بعيداً عن القلب الإنكليزيّ أو الغربيّ و بإتّجاه أن يكون ذلك القلب في أحد الهوامش. أ لا ترى أنّ تلك المقاربة تحملُ في طيّاتها خطر تهشيم فكرة الإمكانيّة المبدئيّة في تهجين الثقافات و الهويّات؟
  • تحدّث (إيمي سيزار **) بطريقة مشرقة عن التلاقح الثقافيّ و عدّه الأوكسجين المغذّي للثقافات، و لكنّ ذلك التلاقح يختلف جوهريّاً عن تمرير الثقافة بإتجاه واحد و لوقت قصير فحسب و هو ما يمكن عدّه أوّل أوكسيد الكاربون القاتل للثقافة!!. تتأسّس فكرة التبادل الثقافيّ على المساواة الثقافيّة و تستهويني فكرة رقص المراكز الثقافيّة مع بعضها بحيث تكون جميعها على مسافة واحدة من المركز الإنسانيّ، و أقصد بفكرتي تلك أن تقع المراكز جميعها على محيط دائريّ يتّسمُ بالعدالة و المساواة و عندها تساهمُ المراكز جميعها في تغذية المركز الإنسانيّ و تتغذّى هي منه في الوقت ذاته.
  • كيف ترى المشاكل الخاصّة بتعريف موضوعة الهويّة الذاتيّة في الولايات المتّحدة؟ و ما ترى في قناعة الكثيرين بوجود شرخٍ محتّم بين ثقافة الجّماعات الإثنيّة من جهة و بين ثقافة الولايات المتّحدة من جهة أخرى؟ و هل ترى في الهويّة الذاتيّة إشكاليّة تضافُ إلى سلسلة الإشكاليّات المعقّدة – مثل الّلغة و الإتّصال – السائدة في الولايات المتّحدة؟
  • أرى في الولايات المتّحدة مشهداً مدهشاً للغاية: فالمرء يرى كلّ الأديان، و كلّ الثقافات، و كلّ اللغات، و كلّ الإثنيّات، و لكن ثمّة إتّجاه لحشر ذلك المشهد تحت يافطة (وعاء الصّهر الأعظم) (إشارة إلى الولايات المتّحدة، المترجمة). إنّ تعايش كلّ تلك الهويّات معاً و إنبثاق الهويّة الأمريكيّة الجامعة ينبغي أن ينظر له كعنصر قوّة لا ضعفٍ، و هذا هو بالضبط ما ينبغي أن تصدّره أمريكا إلى العالم عوضاً عن القنابل.
  • الايروكواس Iroquois: تسمية لرابطة قبائل من الأمريكييّن القدماء والتي إتحدت في منطقة البحيرات العظمى، و تشكّلت من خمس قبائل هي الموهوك، أونايدا، أنونداجا، كيجا، وسينيكا، و قد إتحدت هذه القبائل في القرن الثاني عشر وأسّست كونفدرالية، ثمّ إنضمت اليهم قبيلة سادسة سنة 1720 وهي قبيلة توسكارورا. تعتبر رابطة الإيروكواس واحدة من أقوى التأثيرات التي شكّلت مفهوم الديمقراطية الليبراليّة الحديثة، و كان موقع كونفدراليّة الإيروكواس قائماً حيث تقع اليوم مدينة سيراكيوز Syracuse بولاية نيويورك الأمريكيّة. (المترجمة).
    **إيمي سيزار (Aimé Césaire): شاعر وكاتب وسياسي أسود من المارتينيك ولد في 26 حزيران (يونيو) 1913 بباس بوانت بالمارتنيك و توفي في 17 نيسان (أبريل) 2008 بعد صراع طويل مع مرض القلب. يعتبر إيمي سيزير أحد أبرز وجوه تيار ” الزنوجة ” في الشعر الفرنكوفوني ورمزا للحركة المناهضة للهيمنة الكولونياليّة (المترجمة).
    · عن كتاب فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة

اقرأ ايضا

رحيل نغوجي واثيونغو الذي حرَّر اللغة من سلاسل الاستعمار

ندى حطيطفي الثامن والعشرين من مايو (أيار) 2025. أسدل الستار على حياة أحد أعظم رموز …