أم كلثوم… الزمن في ثانية

هيثم أبوزيد
لم يتعرض صوت عربي لاختبار الزمن بقدر ما تعرض له صوت أم كلثوم؛ فمنذ ظهورها في مدن دلتا النيل وقراها، أخذت بألباب الناس، وحقّقت شهرة كبيرة في محافظات الوجه البحري، من دون راديو ولا أسطوانات ولا ميكروفون ولا تخت موسيقي، وإنما بالغناء المباشر في الأفراح والمناسبات الدينية. وحين انتقلت من قريتها للاستقرار في القاهرة عام 1923، لم يكن مجتمع الفن والفكر والثقافة بحاجة إلى وقت طويل حتى يدرك أنه أمام موهبة خارقة، وصوت معجز، وأداء هو من آيات الفن الرفيع. تربعت أم كلثوم على عرش الطرب خمسين عاماً في حياتها، وخمسين أخرى بعد رحيلها، وكانت الأعوام الـ100 كافية لإثبات أن الزمن لا يجود بمثل صوتها، وأن عالم الغناء لن يعرف مثل سطوتها وهيمنتها. انقضى نصف قرن مذ خرج الناس بالملايين لوداعها، لكن خلال العقود الخمسة، لم يحلم مطرب، ولا مطربة، أن يقترب من مكانها أو مكانتها، فجميعهم يتنافسون عند سفح الجبل الذي استراحت هي على قمته. كان صوتها سرّها، وسرّ نفوذها إلى قلوب العرب. لم تُخفِ أم كلثوم سرّها يوماً، فقد باحت به في كل محفل من محافلها العظمى التي كان ينتظرها العرب جميعاً.
لم تحظ امرأة عربية بالاهتمام الصحافي والإعلامي قدر ما حظيت أم كلثوم، فقد كُتبت عنها آلاف المقالات، وصدرت حول سيرتها عشرات الكتب، وبثت الإذاعات والتلفزات العربية عنها مئات البرامج والمقابلات، لكن تسعة أعشار “الكلام” عن سيدة الغناء لم يكن فنياً، وأكثر الكتب التي حملت اسمها كانت ترصد كل شيء في حياتها، إلا صوتها وغناءها وعبقرية أدائها. بقيت الاستثناءات في هذا الميدان شحيحة ونادرة، ودائماً كان الميزان مختلاً، ببُخلٍ مع “الفني” وإسراف عند “الشخصي”. وفي كل عام، مع الاحتفال بذكرى ميلادها أو رحيلها، تستمع الجماهير إلى برامج تلفزيونية، أو تقرأ موضوعات صحافية، قد تكون جذابة في مادتها، لكنها لا تجيب للأجيال الجديدة عن السؤال الكبير: لماذا حازت أم كلثوم هذه المكانة الكبرى في بلاد العرب؟ ولم كان لها هذا الأثر العميق والممتد والمتجاوز الخلافات الفكرية والسياسية؟ ثم كيف استطاعت أن تبقى بكل هذا الحضور رغم كر اليالي والأيام نصف قرن بعد رحيلها؟
امتلكت أم كلثوم صوتاً لم يعرف العرب له نظيراً، وتلك الحقيقة لا تدرك بمقياس المساحة، الذي يبدو أنه أوسع المقاييس انتشاراً وأحبها عند مقارني الأصوات. نعم، امتد صوت أم كلثوم على مساحة ديوانين، أو “أوكتافين”. وفي شبابها، كانت قادرة على الإتيان بجواب الجواب لدرجة السيكاه، أي أن مدى صوتها كان يتجاوز الديوانين أحياناً. لكن أخريات من المطربات، بل وآخرين من المطربين، امتلكوا نفس المدى الصوتي، من دون أن يكون أحد منهم قادراً على مجاراة أداء أم كلثوم أو امتلاك تأثيرها وسطوتها. ولعل الناقد الموسيقي الراحل كمال النجمي كان أفضل من تعرّض لهذه المسألة حين كتب: “إن المساحة التي يشغلها صوت أم كلثوم هي مساحة من الأزهار والثمار والمياه الصافية والأنسام والظلال، بعكس المساحة التي تشغلها بعض الأصوات الضخمة، فهي مساحة من الرمال أو المياه الضحلة والنباتات العقيمة”.
إذاً، فإن صوت أم كلثوم كان بالغ الغنى، تتعدد إمكاناته، وتتنوع جمالياته، بما يمكنها من تأدية أي فكرة تخطر ببالها، حيث تستجيب أحبالها الصوتية استجابة فورية، لتملأ الغناء بتفاصيل مدهشة، بل معجزة، وقد كانت هذه التفاصيل من الكثرة والتنوع بحيث يصعب استعراضها كلها في وصلة واحدة مدتها ساعة أو أكثر قليلاً. إن التفاصيل الإعجازية في أداء أم كلثوم أشبه بأن تكون طبقات بعضها فوق بعض. يحتاج المستمع إلى إنصات طويل وتتبع دقيق كي يحصل منها قدراً معتبراً. كان محمد عبد الوهاب محقاً حين قال: “إن صوت أم كلثوم نادر، يتمتع بمزايا عديدة، تكفي كل مزية منها أن تجعل صاحبتها مطربة عظيمة، فكيف إذا اجتمعت كل هذه المزايا في صوت واحد؟”.
في المرتبة الأولى من هذه الإمكانات الاستثنائية، تأتي سرعة الذبذبات (Rate of vocal vibrations)، فامتلكت أم كلثوم في هذا الجانب معدلاً استثنائياً، مكنها من تنفيذ اهتزازات صوتية مذهلة وتوظيفها تطريبياً أو تعبيرياً. ومن الأمثلة الصارخة لهذه الجمالية، ما فعلته السيدة في لفظة “ضنين”، في إحدى وصلات أغنية “غلبت أصالح في روحي”، فقد قدمت خلال مد حرف الياء اهتزازاً صوتيا خارقاً. ومن دون الارتفاع إلى الدرجات الحادة التي هي من لوازم سرعة الاهتزاز، وحين بلغ هذا التصرف ذروته، لم يستطع الجمهور أن يضبط مشاعر الإعجاب والدهشة، فانفجر برد فعل صاخب من التصفيق والاستحسان. يصف فيكتور سحاب أداء سيدة الطرب في هذا المقطع بقوله: “إن كلمة ضنين تتحول إلى تغريد يستمر مدة 23 ثانية هي من أعظم ما يمكن أن تسمع أذن من غناء”.
وإذا كان الاهتزاز الشهير في لفظة “ضنين” محض تطريب، فإن مثالاً آخر شهيراً جاء في خدمة التعبير، وتصوير المعنى، وهو ذلك الاهتزاز السريع المعجز الذي تنفذه أم كلثوم عند أدائها لفظة “فرحان” في أغنية “دليلي احتار”، وتحديداً في عبارة “وقلبي من لقاك فرحان”. تغني أم كلثوم الكلمة بلحنها المجرد كما وضعه السنباطي، لكن عند الإعادة، تهز الألف في لفظة “فرحان”، بثلاثة أحرف موسيقية لا يتجاوز زمن أدائها ثانية واحدة، فتعطي للكلمة حالة من النشاط والحيوية والتقافز الناتج عن شدة الفرحة. وأيضاً، كان وقع هذا التصرف على الجمهور قوياً، لأن الأداء بهذا الأسلوب يضغط جماليات صوتية وتعبيرية هائلة في زمن قصير جداً، فتتحول به العبارة أو اللفظة إلى إكسير طربي شديد التركيز.
تملأ أم كلثوم غناءها بجماليات أدائية تفتن المستمع المنصت المنتبه. ومن هذه الجماليات، قدرتها الفائقة على خفض صوتها إلى قرار عميق يصعب -إن لم يكن يستحيل- على الأصوات النسائية، ومنها أيضاً القدرة الفائقة على أداء الجوابات الحادة بصوت عريض، بل وتزيين هذه الجوابات بالاهتزاز والزخرفة، ومنها أيضاً “العُرب” الصوتية، التي تكون أوضح ما تكون مع إعادة نفس العبارة، ومنها كذلك تجريح الصوت، بمعنى إظهار بحة قوية جداً كالتي فعلتها في موال “برضاك يا خالقي”، أو الاهتزاز الصوتي المصحوب بإخراج قدر كبير من الهواء ليشبه التنهد، كما فعلت دائماً في لفظة “حائر” في “الأطلال” رغم تقدم سنها.
وأم كلثوم، هي أستاذة القفلة الحراقة المحكمة المطربة، وهي في أداء القفلة تعادل كبار الشيوخ المجودين، وقد انتفعت في هذا الجانب بتربيتها الإنشادية وبيئتها القرآنية، لا جدال في ذلك، لكن عشرات المطربين والمطربات غيرها تلقوا تربية دينية أو حفظوا قدراً من القرآن في الكتاتيب. إذاً، فإن قفلاتها القوية المطربة لم تكن لتأتي بهذا العنفوان إلا من خلال عنصرين: الأول، صوت قوي مطواع قادر، والثاني، ثقة هائلة بالنفس، وجرأة لا تعرف التردد أو الخوف.
أرجع عبد الوهاب عظمة القفلة عند أم كلثوم إلى امتلاكها الذبذبات الطبيعية التي تمكنها من أداء القفلة، لكنه جعل تمكنها الصوتي الطبيعي غير المتصنع سبباً لجرأتها، وقارنها بغيرها من المطربين الذين يترددون عند أداء القفلة فيتسبب التردد في فشلهم، أو في نجاح قفلة واحدة من كل عشرة يؤدونها. يجزم موسيقار الأجيال أن امتلاك الموهبة الطبيعية لا يكتمل إلا بقدرة على التوظيف أدائياً، كما يجزم بأن أم كلثوم لم تفشل في قفلة واحدة طوال حياتها.
في كثير من مناطق غنائها، تبلغ أم كلثوم ذرى عالية من الإحساس بالكلمة، وفي تلك المناطق، تعيش حالة من الاستغراق الشعوري والأدائي لا يكاد يعرفه الغناء العربي مع غيرها.
وفي غنائها، توظف السيدة الخبيرة جماليات بعض القوالب الغنائية القديمة في قوالب أخرى أكثر حداثة، فتأخذ مثلاً ما يشبه “الهنك” في الأدوار، وهو تبادل للجملة بين المطرب والجوقة، فتجعله أم كلثوم بينها وبين عازفي فرقتها بآلاتهم مثل ما فعلت في وصلة لأغنية “أنا في انتظارك”، أو تحويل عبارة “المغنى حياة الروح” إلى جملة “هنك” تتبادلها مع فرقتها في محفل شهير لأغنية “غني لي شوي”. يبقى المثال الأبرز على انتداب جماليات الدور إلى قالب آخر توظيفها لفظة “آه” أثناء السير اللحني لكثير جداً من أغنياتها. من الأمثلة الواضحة على ذلك، آهاتها الشهيرة التي ثبتتها في أغنية “عودت عيني”، وتحديداً مع مقدمة الغصن الثالث “زرعت في ظل ودادي”، وكذلك الآهات التي تطلقها قبل أداء الغصن الثالث من أغنية “لسه فاكر”، أو تلك الآهات التي غردت بها عند إعادة المقدمة الموسيقية لأغنية “فكروني”، في محفل شهير بدار سينما قصر النيل.
لا ريب أن القدرة الصوتية والأدائية لأم كلثوم، وأيضاً نشأتها الدينية الإنشادية، أغرتها بأن تولي عناية كبيرة لفنون الارتجال، فبثت منه روائع خالدة في كثير من محافلها، رغم اختلاف القالب الغنائي الذي تضمنه ارتجالها. ولعل الأجيال الجديدة التي تميل إلى الأمثلة والتوضيحات المباشرة بحاجة إلى إشارة توجهها إلى ارتجال السيدة الشهير لبيت شوقي “حتى بلغت سماء لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم”، من قصيدة نهج البردة، في محفلها الاستثنائي في سينما دمشق عام 1955، أو الإشارة إلى وقفتها الارتجالية التاريخية مع عبارة “نظرة وكنت أحسبها سلام” على مسرح محمد الخامس بالعاصمة المغربية، وقد اقتربت من سن السبعين.
الأمثلة السابقة ليست إلا إشارات على طريق طويل، أو هي إرشادات توجيهية، قبل الخوض في بحر لجي يغشاه الطرب من فوقه ومن تحته. فعالم أم كلثوم كبير عميق ممتد، ولن يدرك أحد سر خلودها أمام اختبار الزمن إلا بالخوض في بحرها الكبير الهادر، والغوص إلى أعماقه لاستخراج لآلئ الفن، وآيات الغناء المعجز.
حين يحيي العرب هذه الأيام الذكرى الخمسين لرحيل السيدة الكبيرة وهي بكل هذا الحضور البالغ حد الطغيان، فإن ذلك يعني أن الملايين التي خرجت منذ نصف قرن خلف نعشها لم تودع منها إلا الجسد.. إن صوتها باق لا ينتهي، ففي مصر، سيبقى النيل، ويبقى الهرم، ويبقى صوت أم كلثوم.
· عن العربي الجديد

اقرأ ايضا

أم كلثوم… صفحات مجهولة من حياة أيقونة الطرب

أحمد الجمَّالحلقت كوكب الشرق أم كلثوم في فضاء الشدو والأنغام، وأثارت حياتها الخاصة فضول الكثيرين، …