في العشرينيات من القرن الماضي(المحفى العراقي الجديد) محاولة لتأسيس مجمع علمي عراقي

رفائيل بطي
١ – كيف تألف المحفى
في السنة الماضية لما أعدت وزارة المعارف ميزانية سنتها المالية الجديدة (١٩٢٦ – ١٩٢٧) فكرت في مشروع المجمع اللغوي فوضعت له اعتمادا في الميزانية وذلك بعناية وزير المعارف وهمة مدير المعارف العام ساطع بك الحصري فصدقه مجلس الوزراء واقره (مجلس الأمة) في اجتماعه الأول الاعتيادي.
وفي ٢٨ أيلول ١٩٢٦ وجه وزير المعارف كتابا إلى الأستاذ معروف الرصافي والأب انستاس ماري الكرملي هذا حرفه:
لقد قررنا تأليف مجمع لغوي وفقا للتعليمات المربوطة وانتخبناكما عضوين لهذا المجمع لما نعهده فيكما من التضلع في اللغة ونرجو أن تجتمعا لانتخاب بقية الأعضاء نظرا للمادة الخامسة من التعليمات المذكورة ونتمنى لكما وللجميع النجاح.
وزير المعارف عبد الحسين
وتلخص التعليمات (بأن اللجنة تتألف في وزارة المعارف من ثمانية أعضاء برئاسة مفتش التدريسات العربية (وهو اليوم الأستاذ معروف الرصافي) وأن وزارة المعارف تنتخب عضوين فقط وتترك لهما حق انتخاب الثالث وحينما يتم هذا الانتخاب يجتمع هؤلاء الثلاثة وينتخبون الرابع ثم يجتمع الأربعة فينتخبون الخامس وهلم جرا إلى أن يكمل العدد المطلوب. ويجب أن يكون الأعضاء مضطلعين باللغة العربية علاوة على حذقهم إحدى اللغات الأوربية ويستثنى من ذلك ربع الأعضاء إذ يشترط في هؤلاء التمكن من اللغة العربية فقط.
واجتمع في اليوم (٢٩ أيلول ١٩٢٦) الأستاذ معروف الرصافي والأب انستاس ماري الكرملي في وزارة المعارف وانتخبا الأستاذ طه الراوي عضوا ثالثا واجتمع الثلاثة فانتخبوا الأستاذ عز الدين علم الدين عضوا رابعا وبعد يومين اجتمع الأربعة وانتخبوا الدكتور أمين المعلوف عضوا خامسا واجتمع الخمسة فانتخبوا أمين بك كسباني عضوا سادسا لكنه اعتذر عن القبول فانتخبوا الأستاذ توفيق السويدي عضوا سادسا والستة انتخبوا الأستاذ عبد اللطيف الفلاحي عضوا سابعا ولما كان في أوربة توقف انتخاب الثامن لكنهم رشحوا رستم بك حيدر للعضوية فلما حضر الأستاذ عبد اللطيف الفلاحي تم انتخاب رستم بك حيدر وبه تم عدد الأعضاء الثمانية.
٢ – أعضاؤه وشخصياتهم العلمية
معروف الرصافي
الأب انستاس ماري الكرملي
طه الراوي
عز الدين علم الدين أستاذ علوم الطبيعة في دار المعلمين ودار المعلمين العليا في بغداد –
الدكتور أمين المعلوف مدير الأمور الطبية في الجيش العراقي –
توفيق السويدي
.عبد اللطيف الفلاحي نائب الحلة في المجلس النيابي العراقي.
رستم حيدر كتوم (سكرتير) جلالة الملك فيصل الأول الخاص ورئيس الديوان الملكي.
٣ – منهج المحفى في العمل
وضع المحفى الجديد بمشاورة وزارة المعارف منهجا لعمله دعاه (تعليمات لجنة الاصطلاحات العلمية في وزارة المعارف) يلخص في ما يأتي:
١ – تنظر اللجنة في الاصطلاحات العلمية والأدبية وكل ما يجد ويحدث من الكلمات في اللغة وخاصة في الاصطلاحات التي تستعمل في المدارس والكتب المدرسية وبالجملة تسعى إلى كل ما يؤدي إلى إصلاح اللغة وتوسيعها وإنهاضها إلى مستوى لغات العلم والأدب في العصر الحاضر وتنظر في الكتب المدرسية وغيرها مما يعرض عليها وتبدي رأيها فيها من وجهة اللغة والاصطلاحات العلمية.
٢ – تجتمع اللجنة مرة في الأسبوع.
٣ – تستشير اللجنة في المسائل المهمة أو المصطلحات الجديدة التي تضعها المجامع العلمية في مصر وسورية ليحيطوا بها علما ويبدوا فيها رأيا وبعد تلقي آرائهم تعيد نظرها فيها ثم تقرر قرارها النهائي.
٤ – إذا خلا كرسي في اللجنة، فاللجنة هي التي تنتخب له العضو الجديد.
٤ – خطته العلمية في وضع الكلمات
واختط هذا المحفى خطة علمية جعلها أساسا لعمله في وضع الكلمات أو المصطلحات العلمية هذا نصها:
تعتبر اللجنة المواد الآتية قواعد ودساتير تتبعها فيما تضعه وتقرره من المصطلحات العلمية والكلمات اللغوية:
١ – إن الاشتقاق قياسي في اللغة قياسا مطلقا في أسماء المعاني التي هي عرضة لطروء التغير على معانيها. ومقيدا بمسيس الحاجة في الجوامد.
٢ – إن وضع الكلمات الحديثة في اللغة يجري أما على طريقة الاشتقاق وأما على طريقة التعريب ولا مانع من الجمع بينهما كما في مسرة وتلفون ويرجع إلى النحت عند الحاجة.
٣ – لا يذهب إلى الاشتقاق في وضع كلمة حديثة إلاَّ إذا لم يعثر في اللغة على ما تؤدي معناها بخلاف التعريب فإنه يجوز تعريب كلمة أعجمية مع وجود اسم لها في العربية كما هو الشأن في اكثر المعربات الموجودة في اللغة.
٤ – يشترط في الكلمات التي تختار من كتب اللغة ليعبر بها عما حدث وتجدد أن تكون مأنوسة غير نافرة وإلاَّ وجب تركها والذهاب إلى طريقة الاشتقاق أو التعريب.
٥ – يرجح الشائع المشهور من المولد والدخيل على الوحشي المهجور من الكلمات الكائنة في معاجم اللغة.
٦ – لا يشترط في المعرب رده إلى وزن من أوزان الكلمات العربية ولكن يستحسن ذلك أن أمكن كما يستحسن تغييره بما يجعله قريبا من اللهجة العربية كما في شهنشاه المغيرة من شاهانشاه.
٧ – اللغة إنما تتقرر باستعمال العامة اكثر من وضع الخاصة لكن هذا فيما عدا المصطلحات العلمية أما في المصطلحات العلمية فالأمر بالعكس.
٥ – آراء بعض رجاله في الاشتقاق والتعريب
أرى تتمة للبحث أن أورد هنا آراء لبعض رجال المحفى العراقي في الاشتقاق والتعريب ليعرف منها المطالعون المنحى الذي ينحوه في عمله العلمي الشاق:
يقول الأستاذ معروف الرصافي في مقدمة كتابه المخطوط (الآلة والأداة) الذي أشرنا إليه في صدر هذا المقال:
الاشتقاق في أسماء الأحداث ضروري لابد منه ولا يجوز أن يكون عدم السماع حجة في منع قياسه واطراده من وجوه:
(أحدها) أن عدم السماع لا يستلزم عدم الوقوع إذ يجوز أن يكون قد وقع وأن العرب قد نطقت به ولكنه فات الرواة فلم تروه ولم تنقله لأن نقلة اللغة اكثر ما يعتمدون في نقلها على الشعر ومن الجائز في الكلمة المحكوم فيها بعدم السماع أنها لم تقع في الشعر بل وقعت في النثر الذي لم تضبطه الرواة ولم تنقل منه ولا عشر معشار فعلى القائل بالمنع أن يثبت لنا عدم الوقوع وإلاَّ فدليله مدفوع وكلامه غير مسموع.
(ثانيها)إننا أن سلمنا في كلمة من المشتقات أنها غير مسموعة وغير واقعة أيضاً اكتفينا في جواز استعمالها بسماع نظائرها المطردة المعينة فإن العرب أن لم تقل (حاب) من حب فقد قالت ساب من سب وعاد من عد وراد من رد إلى غير ذلك من الكلمات التي جرت في كلامهم على وجه الاطراد فمنعنا استعمال (حاب) بحجة عدم السماع تحكم في اللسان وتهكم بسماع نظائرها المطردة ورمي اللغة بالجمود.
(ثالثها) أن الاشتقاق أصل في أسماء الأحداث لكونه أمرا ضروريا بسبب ما يقع في معانيها من التبدل والتغير كما ذكرنا آنفا.. وإذا كان الاشتقاق هو الأصل وقد تعارض عندنا في بعض المشتقات دليلان أحدهما يقتضي المنع وهو عدم السماع والآخر يقتضي الجواز وهو القياس المطرد في نظائره وجب أن نرجع به إلى الأصل وأن نرجح دليل الجواز على دليل المنع لأن الأول مثبت للأصل والثاني ناف له.
فيجب علينا أن ننظر في هذه المسميات المستحدثة ولابد أن يكون لكل واحدة منها فعل تفعله لأنها لم تحدث عبثا فإن استطعنا أن نشتق لها من فعلها اسما فذاك وإلاَّ نظرنا فيها فإن كانت مما شاع على ألسن العامة استعملناها كما استعملتها العامة أو أجرينا فيها بعض التغيير أن رأينا فيها بعض النفور والحيود عن اللهجة العربية كما فعلت ذلك في كلمة (اوتوموبيل) فأني غيرتها إلى تومبيل كصوقرير وقد استعملتها في قصيدة فقلت:
بتومبيل جرى في الأرض منسرحا… كما جرى الماء من سفح الاهاضيب
ويجب أن لا نتحاشى عن استعمال ما تداولته ألسنة العوام من هذه الكلمات الحديثة الخ…
وقال الأب انستاس ماري الكرملي في اعتراضه على خطة المحفى الذي ذهب معظم أعضائه إلى قبول النحت في هذا العصر:
لا أرى حاجة إلى النحت لأن علماء العصر العباسي مع كل احتياجهم إلى ألفاظ جديدة لم ينحتوا كلمة واحدة علمية. هذا فضلا عن أن العرب لم تنحت إلاَّ الألفاظ التي يكثر ترددها على ألسنتهم فكان ذلك سببا للنحت أما التي لا يكثر ترددها على ألسنتهم كثيرا فلم يحلموا بنحتها. ومثلها عندنا الآن: ايش وليش وموشي (ما هو شيء) وشنو (أي أي شيء هو) إلى غيرها) وقال عز الدين علم الدين في كتابه المعرب (مبادئ الفيزياء) الجزء الأول ص ج):
لم أراع في الاصطلاح إلاَّ الأفضل مما اشتد إليه مسيس الحاجة ولو كانت الكلمة أعجمية الأصل إذا ما تعربت بنزولها على أحكام العربية فخفت على اللسان وعذبت بصقله إياها في البيان يدل على ذلك مثلا اسم الكتاب (مبادئ الفيزياء.
وقد عقد المحفى اجتماعه الأول في عمارة وزارة المعارف يوم الخميس الواقع في ٧ تشرين الأول ١٩٢٦ الساعة الرابعة ونصف بعد الظهر ثم تابع جلساته مرة في الأسبوع على ما عهد إليه فتعهد به.
مجلة ( لغة العرب) لسنة 1927

اقرأ ايضا

تمثال الملك الاول بين الفن والسياسة

صادق الطائيلم تكن بغداد العثمانية تعرف النصب والتماثيل، لأنها ببساطة لم تكن تعرف الشوارع والساحات …