إيريك ديفيس
تقديم وترجمة: حسين كركوش
أججت انتخابات عام 1954 ما كان موجودا من توترات داخل النخبة السياسة الحاكمة. فالحرية النسبية التي جرت في أجوائها تلك الانتخابات كانت، إلى حد بعيد، نتيجة للكراهية التي كان يكنها الوصي على العرش عبد الآلة، إزاء نوري السعيد، بسبب سيطرة الأخير، عن طريق حزبه (حزب الاتحاد الدستوري)، على البرلمان. وكان الوصي عبد الآله على قناعة بأنه لا يستطيع زيادة عدد الأعضاء المستقلين داخل البرلمان الجديد، وبالتالي إبعاد سيطرة أعضاء الحزب الدستوري، إلا عندما يستغل فرصة وجود نوري السعيد خارج الحكومة، وتواجده في الخارج. لكن نتيجة تلك الانتخابات لم تكن فقط نتيجة للمشاحنة الشخصية بين عبد الإله ونوري السعيد، وإنما كانت، أيضا، نتيجة لخلافاتهما السياسية، بشأن هل يقيم العراق وحدة مع سوريا. ورغم أن نوري السعيد كان قد حذر، من مكان تواجده في لندن، عبد الإله، بأن حزبه الدستوري يجب أن يضمن بين أثنين وسبعين وثمانين مقعد داخل البرلمان، إذا أريد ضمان استقرار سياسي جدي في البلاد، إلا أن الوصي على العرش تجاهل تلك النصيحة.
لقد سمحت الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران 1954، والتي ترافقت مع ليونة أبدتها الدولة إزاء سير العملية الانتخابية، لأحزاب المعارضة أن تشكل الجبهة الوطنية، وأن تفوز بعشر مقاعد (52). والأمر الذي أثار، فعلا، أعصاب نوري السعيد وأعصاب النخبة السياسية التقليدية، هو، تلك الحيوية التي طبعت الحملة الانتخابية التي نفذتها الجبهة الوطنية، وكذلك حقيقة أن المقاعد التي فازت بها الجبهة، إنما كانت في أهم مدينتين عراقيتين هما، بغداد والموصل. وأكثر من هذا، فأن حزب نوري السعيد فقد أكثريته البرلمانية.
لكن البرلمان الجديد لم يعقد سوى جلسة واحدة، في تموز 1954، حيث تم حله بعد ذلك. وعندما جرت انتخابات أخرى في شهر آب، ظهر برلمان جديد، أصبحت فيه السيطرة، مرة أخرى، لحزب نوري السعيد.
إن الأداء الباهر الذي أظهرته الجبهة الوطنية في المناطق الحضرية، حيث تقل فرص الدولة في التلاعب بنتائج الانتخابات، أنتج مفارقة، تمثلت في اضطرار عبد الإله على الموافقة على حل البرلمان الجديد،والهروع إلى نوري السعيد، لتكليفه بتشكيل حكومة جديدة، وهو أمر دائما ما اعتاد النظام الملكي على اللجوء إليه، في الماضي، لمواجهة
أزمات مماثلة. لقد قاد التلاعب المفضوح بالانتخابات الجديدة إلى نزع كل ما تبقى من شرعية كان يتمتع بها النظام البرلماني، وخصوصا بعد ما لجأت الحكومة، خلال الحملة الانتخابية التي جرت في حزيران، إلى اعتقال عدد من مرشحي الجبهة الوطنية، الذين لم يطلق سراحهم إلا بعد انتهاء الانتخابات.
لقد أظهرت انتخابات 1954 بأنه إذا توفرت شروط ملائمة، فأن بإمكان الناس ذي العقلية المنفتحة (المتنورين)، أن يفوزوا، بطريقة ديمقراطية. و الأكثر أهمية من هذا، هو أن القوى التي تشكلت منها الجبهة الانتخابية الوطنية كانت تضم أحزاب سياسية، لكل منها ذات مصالح وأهداف مختلفة. فقد ضمت تلك الجبهة الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، ومنظمة أنصار السلام التي يديرها الشيوعيون.
إن أي تحليل مفصل لانتخابات 1954 من شأنه أن يقودنا إلى عدد من الاستنتاجات المهمة، فيما يخص الوضع السياسي العراقي، قبل قيام الثورة.
الإستناج الأول هو،بالرغم من استمرار السياسية التسلطية منذ الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي عام 1936 ( ما عدا فترة قصيرة لحكومة توفيق السويدي عام 1946)، وحالما تم تحدي القمع عام 1954، فأن الفئات السكانية الحضرية الناشطة سياسيا كانت قادرة، بسرعة، على تنظيم حملة سياسية، والالتزام بنشاطات وبخطاب سياسي متطور جدا.
الاستنتاج الثاني هو، أن أحزاب المعارضة كانت قادرة على تنظيم حملة انتخابية فعالة والحصول على مقاعد في مناطق إستراتيجية داخل أهم المناطق الحضرية في العراق.
الاستنتاج الثالث يكمن في أن الجبهة الانتخابية الوطنية ضمت في صفوفها القوى الوطنية والقوى القومية الوحدوية العروبوية. وكلا الطرفين أظهرا تضامنا فيما بينهما، بالرغم من الجهود التي بذلها الوحدويون العرب، سواء داخل النخبة السياسية أو من خارجها، لتخريب الجبهة.
إن هذه الحقائق لا تدحض فقط القول بأن عراق ما قبل ثورة تموز كان خاليا من أي عملية سياسية ديمقراطية، وإنما تشير، أيضا، إلى نمو أسس المجتمع المدني داخل أوساط الطبقة الوسطى الحضرية. إن انتخابات 1954 كانت دحضا للفكرة التي روج لها حكم قاسم، ومن بعده، نظاما حزب البعث على وجه الخصوص، والقائلة بأن الخراب والفوضى اللتين سببتهما السيطرة الاستعمارية، تحتمان بالضرورة قيام أنظمة عسكرية و/ أو حكم الحزب الواحد، لحماية الشعب.
وإذا كانت النتائج التي تمخضت عنها تلك الانتخابات، مؤثرة بهذا القدر الكبير، فأن ذلك بسب أن السلطات حاولت، بكل ما تملك من قوة، أن تقمع النشاط الانتخابي للجبهة الوطنية، وهو نشاط حظى بدعم واسع، ليس فقط في بغداد والموصل، ولكن، أيضا، في مدن أخرى، مثل النجف والحلة وداخل المنطقة الكردية، كمدينة السليمانية. وكانت مشاركة الجماهير بأعداد كبيرة وبمعنويات عالية في المسيرات التي كانت تقيمها الجبهة، قد جعلت تلك الانتخابات تصبح، ليست واحدة من الانتخابات التي جرت في أجواء حرة غير مسبوقة، وإنما، حولتها، أيضا، إلى واحدة من أكثر الانتخابات حيوية في تاريخ العراق الحديث. وكان شائعا في أيام تلك الانتخابات مشاهدة الأعلام المرفوعة على أسطح المنازل، دعما لمرشحي الجبهة الوطنية، ورؤية السيارات وهي تجوب الشوارع وتطلق من مكبرات الصوت، نداءات تحث المواطنين على التصويت لصالح مرشحي الجبهة الوطنية. إما مناصرو النظام الملكي فقد كان الرعب الشديد يتملكهم وهم يسمعون تلك الهتافات المنادية بإلغاء الإقطاع وتوزيع الأرض على الفلاحين.
وفيما يخص الصحف الموالية للنظام الملكي، فأنها هاجمت الجبهة الوطنية، بسبب ما اعتبرته إهمال الجبهة للقضايا العربية. وحتى تدعم وجهة نظرها، فان تلك الصحف أشارت إلى أن برنامج الجبهة الوطنية يخلو من أي أشارة لتحرير فلسطين. ولكن السبب الخفي لذاك الهجوم يكمن في أن مرشحي الجبهة الوطنية كانوا من الوطنيين العراقويين ( يتكونون، بشكل رئيسي، من شيعة وأقليات أخرى)، وبالتالي فهم، وفقا لتك الجهات المهاجمة، ليسوا وطنيين عراقيين حقيقيين. إن هذه النقطة الأخيرة تؤكد كيف أن النخبة السياسية الحاكمة وقتذاك ( مثلما فعل، بعد ذلك، حزب البعث) لجأت بسرعة، إلى إثارة النعرة الطائفية كوسيلة لإحداث انقسامات داخل المعارضة السياسية.
الأمر الثاني هو، أنه لأمر مهم أن نلاحظ أن حزب الاستقلال كان قد أنضم للجبهة الوطنية الانتخابية، بالرغم من سيطرة القوى الوطنية العراقوية عليها، ورفض الانسحاب، حتى وهو يتعرض إلى هجمات تطعن في مصداقية مواقفه القومية العربية. وعلى ضوء ما عرف من مواقف حزب الاستقلال الداعمة بقوة لقضية الوحدة العربية، فأن موقفه إزاء الجبهة الوطنية يكشف بأن التزامه الرئيسي كان، بالأحرى، منصبا على إجراء إصلاحات ديمقراطية. وباختصار، فأن ما أظهرته انتخابات 1954 هو، أن بإمكان القوى المختلفة ايدولوجيا أن تتعاون، حتى وهي تواجه ظروف ضاغطة.
لقد شجع النجاح الانتخابي الذي حققته الجبهة الوطنية على القيام بمحاولات أخرى في ميدان النشاط السياسي المشترك. وكان الموقف الوطني المعارض لقيام حلف بغداد عام 1955 حافزا مهما لقيام جبهة وطنية جديدة. وعندما حدث الغزو الثلاثي لمصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بعد إقدام مصر على تأميم قناة السويس عام 1955، فأن ذلك الغزو كان بمثابة الحافز لإنضاج فكرة العمل السياسي المشترك لدى القوى السياسية العراقية. وبعد الانتفاضات المسلحة التي شهدتها مدينة النجف، التي تعتبر مهد الثورة، وكذلك في مدينة الحي، وما صاحب ذلك من تظاهرات في أنحاء العراق، دعما لمصر، والتي فشلت كلها في إحداث أي تغيير في السياسة المتبعة، فأن فكرة القيام بنشاط سياسي مشترك بين القوى الوطنية العراقية، بدأت تفرض نفسها بإلحاح. وكان لإحجام الجيش عن قمع تمرد مدينتي النجف والحي، أثرا حسنا لدى الأحزاب السياسية المعارضة، واعتبرته تطورا إيجابيا. وتبعا لذلك، أقيمت على الفور اتصالات بين الجبهة الوطنية وبين العناصر المعارضة داخل الجيش.
وهنا، مرة أخرى، لعب كامل الجادرجي دورا مركزيا في معارضة نوري السعيد والنخبة السياسية الحاكمة، وذلك للمعطيات التالية:
أولا، إن وجود الحزب الوطني الديمقراطي، كحزب سياسي مجاز قانونيا، أعطاه إمكانية قيادة العمل الجبهوي. إما بالنسبة لحزب الاستقلال فقد كان، بسبب ضعفه، غير مؤهل للقيام بدور قيادي. وفي ما يخص الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث، فقد كانا ما يزالان وقتذاك غير مجازين قانونيا.
ثانيا، أوضح الجادرجي، وبطريقة لا تقبل الشك، بأن الحزب الوطني الديمقراطي سيشارك في جبهة وطنية، لكن شرط أن تقاد بطريقة جماعية حقيقية. وفي الواقع، فأن إلحاح الجادرجي على وجوب رفض أي محاولة يقوم بها حزب واحد من أجل إخضاع الجبهة لتحقيق مصالحه الخاصة هو، بمثابة رسالة موجهة للشيوعيين، الذين كانوا قد انتقدوا، في بداية الأمر، جهوده لتشكيل جبهة وطنية.
ثالثا، أكد الجادرجي على ضرورة أن تضم الجبهة أكثر عدد من الأحزاب، وأن لا تقتصر العضوية فيها على أحزاب اليسار فقط.
موقع ( ايلاف)
اقرأ ايضا
تمثال الملك الاول بين الفن والسياسة
صادق الطائيلم تكن بغداد العثمانية تعرف النصب والتماثيل، لأنها ببساطة لم تكن تعرف الشوارع والساحات …