د. نادية هناوي
بافتتاحية بدت صادمة لكنها أيضا رومانسية حالمة، يطالعنا ديوان الشاعر موفق محمد (سعدي الحلي في جنائنه)2015، وفيه يداوم الشاعر على انتهاج الميلودية – التي هي يونانية المنشأ وتعني الكلام حسب قواعد النغمة واللحن وصوت الاغنية – كملمح فني حقق لشعره اشتغالا قصديا فيه الأغنية الشعبية هي المحرك الفاعل والدينامي.
وأهم سمات هذه الميلودية النزعة الواقعية ذات الصبغة الجدلية التراجوكوميدية او الكوميوتراجيدية التي تدمج شفافية الضحك بقتامة البكاء وانتشائية الغناء بوجع الحزن لتتجلى لنا الضديات الصورية حيث الشرخ الذاتي يسايره حنق بروليتاري والإغماض الواعي يرافقه إفصاح لا واع مع اعتمال نفسي يتمخض عن محمولات التجربة الشعرية في شكل ارتهانات غايتها تعرية الواقع انجذابا لمخبوءاته وانهماما بتزويقاته وتشويشاته.
وما يسعى إليه الشاعر من وراء هذه التعرية للواقع إنما هو صنع أجواء تصادمية يتيحها أنموذج شعري طارئ يهرئ الأنموذج الجاهز ويثبت لا جدواه وعدم صلاحيته للاحتذاء وسط واقع يضج بالحروب والجوع والظلم والجشع والبشاعة وهذا الأنموذج الطارئ، وجده الشاعر متمثلا في سعدي الحلي وأغنياته التي اتخذها متعاليات نصية ما كان ليطوعها قناعا يختفي وراءه كما لم يجعلها معادلا موضوعيا يخاتل ذاته. ولعل من مسوغات هذه النمذجة أن الشاعر نفسه هو المنفي القابع والمطرود اللاجئ المكبوت حزنه، المفضوح فرحه. انه المغلوب المنتصر والغالب المهزوم وهو الضعيف بالقوة والقوي بالضعف.
وبهذه النمذجة أيضا تتوكد الواقعية الجدلية التي تمثلت في المتن الشعري عمودا فقريا تتمحور حوله النصوص. وبالرغم من أن كل نص هو قصيدة بذاتها إلا إنها بمجموعها ملتحمة لتبدو كقصيدة واحدة طويلة تفرز لنا مواقف جمالية هي بمثابة تطلعات شعبية ومطالب جماهيرية ترفض الواقع وتدينه، وفي الوقت نفسه تتلمس مواطن التأنق التي تلمحها في ظل الجدب وتتحسس مظهرية الجمال في شدة القحط.
وتأتي لا رتابة التجربة لتكون ملمحا فنيا آخر يقف جنبا إلى جنب النمذجة. وهذا ما يطبع المشروع الشعري عند موفق محمد بطابع فرداني يتماحك مع الأغنية الشعبية المحلية ممتلكا هوس التضاد بدرامية الروح التصالحية التي يبحث عنها الشاعر ليكشف لنا عن جمالها متخذا من المطرب سعدي الحلي أنموذجه الطليعي الذي سيثمر أهدافا وغايات.
وصحيح أن استحضار مقطع غنائي شعبي وزجه في المتن الشعري ليس بالأمر الجديد على الشعر المعاصر لكن الميزة التي تحسب لموفق محمد تتمثل في كونه لم يجد في الأغنية الفلكلورية المستلة من التراث الغنائي بغيته. ولهذا ضرب كشحا عن الفلكلور الغنائي، مفضلا عليه فردانية التناص مع أغنيات مطرب واحد ضمن قصدية التعاطي الواقعي ذي المسارات المدعمة لسمتي اللارتابة والجدلية داخل المشروع الشعري:
في عيون العمات والخالات القادمات
من عكد المغني وعكس البوس
وبينهما شمرة ناي تسر الناظرين
ومن عكد اليهود وعكد العجم
وبينهما قوس كمان
(وأجناب نزلو بالطرف يا يمه أحبهم)
وتدفع لا رتابة التجربة إلى اتخاذ التعالق النصي وسيلة تكنيكية محببة تحقق مقصدية الجدل والتضاد الواقعيين كما تراهن على فاعلية التعالق التي تتخلل قصيدة النثر في هيأة تناصات مع أغنية من أغنيات سعدي الحلي بسطر واحد لا يتجاوز السبع كلمات حينا او باكثر من سطر احيانا اخر. وعادة ما يضعها الشاعر بين قوسين كبيرين وهذا التناص الغنائي ليس مجرد انبجاس لفظي، بل هو استنهاض معنوي يستمد النسيج الشعري منه تصاعده ويتحقق اكتماله. والجميل المبتدع ايضا في هذا التوظيف ان الشاعر يبني على التناص الغنائي تنويعات شعرية باللهجة الدارجة فكتب الموال وصاغ الابوذية وانشد الزهيري.
ولقد حاد الشاعر بالدرامية عن التراتبية اذ ليس ثمة تعاط للأنموذج إلا في إطار واقعي يقر بلا زمنيته وبلا تغليب للشكل أو الموضوع.. وقد حث الشاعر خطاه بنفس لاهثة كأنها تلاحق ما اكتوت بناره طافقة تبحث عن مهرب.. فلا تجد بغيتها إلا بكلمات تنبجس نغمات يتعالى معها التضاد بالوجع والنشوة واقعا ومثالا..
واتخذ الشاعر من التساؤلات ديالكتيكيا أسهمت الخطابية في مدِّه بمزيد من الحركية كاشفة عن نفس تواقة للجواب لا يهمها ما سيكون للسؤال من تبعات أو تداعيات:
(اريد اسالك واليسأل جواب يريد)
امن من مكتومة يئز الطبر في جمارها
أم من نهر مذبوح يتمازج صوتك
ليأخذ شمرة شهر آب
وهذا ما ولَّد مستوى لغويا فيه الإفصاح يجاور الإيحاء والعالمية تندرج في المحلية والفصحى تتصالح مع العامية والأنموذج الشعبي تنداح فيه نماذج عليا صودرت وأقصيت ليكون المتحصل تحريكا للراكد من برك الثبات وثورة على المعتادية الشعرية ارتفاعا بها إلى مستوى متعال جنائني:
قل شيئا يا سعدي
فقد طوقتك الافاعي بفحيحها
لتضع عشبة الخلود في حنجرتك
وانت تسقيها دماء العراقيين
وإذا كان التناص لازمة أسلوبية في ديوان موفق محمد فلماذا إذن هذا الولع برسم الجنائن ورصد أبعادها؟
لعل الاجابة الاقرب الى الافتراض والتدليل تتمثل في أسباب ثلاثة: أولها مكاني فالذي يجمع بين الناص والمتناص مدينة اثيرة واحدة هي الحلة بمناطقها الشعبية الفرعية(عكد المفتي وكمرة وليلة) وامتدادها الحضاري كمدينة هي أولى الحضارات وكتاريخ هو أبو التواريخ. وثاني الاسباب نفسي يكمن في مداراة خيبة المثالية الرومانسية بشغف التطلع الواقعي الجدلي وثالثها نغمي يجعل لقناة التوصيل السمعي حصة تتفوق على سائر قنوات التواصل الأخرى فتبدو الأغنية الواحدة التي قسمت سطورها إلى أجزاء ككليات طربية تصنع القاعدة النصية التي عليها سيقوم البناء الأسلوبي سواء أكان موقع تلك القاعدة في بداية قصيدة النثر أو التابلو أو الومضة أم كان في نهايتها ام كان مركزيا تدور حوله سائر الأسطر الشعرية.
وتكاد تنطبق هذه الترسيمة البنائية على النصوص كلها، معبرة عن مقصدية جعل الجنائن(الاغنيات) قواعد ارتكاز شعري، مستحدثا على المستوى الكتابي نمطا من اللعب الهندسي الضاج بالاحتدام والصادح بنغمية تترشح عن أنموذج غنائي يطوع شعريا محققا تعادلية بإزاء الواقع/ الوجود / الزمان فيصير الحاضر هو التاريخ الذي يمتد نحو زمن قادم. وبهذا تستعيد قصيدة النثر حساسيتها الشعرية وهي تتجه قاصدة روح الشعر لا شكله ليكون ذلك تجل من تجلياتها.
وهذا ما منح تناصاته الغنائية تجديدية لا تحييد فيها كونها ليست مجرد تناصات تقتطع وتتداخل بطريقة الكولاج، بل هي عملية تهرئة لنسيج الأغنية لتبني بدلها قصيدة النثر بعوارض جديدة يتسع معها الجوهر بغية الظفر بالحقيقة وكأن الشاعر رادار لا يوجه اهتمامه سوى للحقيقة راصدا مراتعها عارفا دروبها عاشقا مساراتها حتى وان كان التفتيش عنها يلقي به في دوامة لا قرار لها.
إن هذه الفلسفة الشعرية وحتميتها الحركية تضفي على مشروع الشاعر موفق محمد مزيدا من الأبعاد الإبداعية. ومن ميزاتها أنها لم تجعل التناص مجرد مزاوجة فصيح /عامي وشعري/ غنائي وهامشي / مركزي، بل تعدتها بأن جعلت النص أكثر غورا وابعد منالا في إطار من الطلسمية والملحمية اللتين لا تخلوان من التجريد داخل بوتقة واقعية جدلية متضادة لا تفضي إلا إلى العدمية بدءا ومنتهى، لتصبح الجنائن أغنيات هي بمثابة شاقول يحفظ للنصوص توازنها ويضبط تعادليتها مشيدا صرح مبنى شعري يتصاعد بدرامية الاحتواء والتعالي الضاج بالامتداد واللانهائية:
(من يوم الغبت لليوم عني
لا دمعي بطل لا ركد وني..)
وانت تراهم بصوتك الرائي
يقطعون رقاب
العراقيين بالمناشير واللحى
فيسيل الدم الى الرجاب
اقرأ ايضا
بلند الحيدري ولقاؤه الاول بالرصافي في الفلوجة
علي عبد الاميرذكر بلند الحيدري :كنت أنتصر لجميل صدقي الزهاوي (1862 – 1936) واتجاهه الفلسفي والاجتماعي ودفاعه …