موفق محمد.. غياب شاعر جميل

يوسف المحمداوي
“من أيِّ حبٍّ قُدَّ صبرُك، من أيِّ نارٍ قُدَّ صبرُك، من أيِّ طينٍ قُدَّ صبرُك” بكلمات الشاعر الخالد كان لسان حال وداع شط الحلة والمشيّعون من أدباء وعامة الناس لشاعرهم، قدموا من جميع مدن العراق لوداع الشاعر المارد، لسان الفقراء والمساكين والمظلومين، الفاقد لولده في الدنيا، أراه الآن فرحًا لا لهيبة التشييع فقط، والذي يستحقه كشاعر منتفض، وإنّما ليلتقي بصديقه حسن وولده طالب الهندسة الذي غيّب مع من غابوا من شهداء انتفاضة 1991، لم ينفذ المشيّعون وصيته فلا نايا يعزف ولا زجاجة خمر ولا عودة سريعة لبيوتهم قبل أن يصل إليه الملقّنون كما ذكر في وصيته أو قصيدته، ومبرراتهم في ذلك عدة، ولو كان حارس شط الحلة حاضرًا لصرخ بأعلى صوته من دون خوف أو ريبة وهو الثائر الشعري الأول من غير منازع: “أيها السادة المتأسلمون، الحاكمون بأمر الله والمتحكمون برؤوس عباده، اِرفعوا سيوفكم عن رقابنا وخذوا الفرص كلها، الدنيا والآخرة، والسماء ومن فيها، والأرض ومن عليها، خذوا ربكم المفخخة، خذوا ربكم الطائفية، خذوا ربكم الكاتمة، واتركوا لنا فرصة بناء عراق ينام به الله آمنا في سمائه” منقول من قصيدته “رسالة الى “المتأسلمون””.
بيض الوجوه
عرفت الشاعر لأول مرة في حياتي من خلال المنتدى الثقافي الذي كنت أترأسه في العام 2003، بعد أن احتفينا به كأبيض الوجه والموقف في احتفالية “بيض الوجوه” وقد يكون المنتدى أول منظمة مجتمع مدني في العراق تحتفي بالشاعر وقد شرف المنتدى في ذلك الوقت الكثير من الأسماء التي شاركت في ذلك العرس الثقافي الأسبوعي منهم على سبيل المثال لا الحصر “الراحلون الشاعر الفريد سمعان، القاص فهد الأسدي، الأديب د. عناد غزوان، الشاعر محمد علي الخفاجي، المسرحي محي الدين زنكنه، واستاذ الجمال د. جميل نصيف التكريتي ومن الاحياء، الروائي حميد المختار، والشاعر الكبير كاظم الحجاج، والروائي نصيف فلك وغيرهم من الاسماء المهمة في عالم الأدب والموقف والتي كانت تشرف على اختيار الضيف لجنة ثقافية برئاسة الروائي والإعلامي حميد المختار، وكان بينهم الموفق في الشعر والإنسانية خالدنا أبو خمرة الذي اكتظت القاعة بالحضور من أجله، وكان يفور حينها شعرًا مفعمًا بالألم والثورة والإنسانيّة والفقدان على ما يحصل في بلده الذي يعشقه كعشقه لشط الحلة.
وصية الشاعر
الخميس الماضي ترجل عن صهوة الفروسية الشعرية كجسد القامة الشعرية موفق محمد، لكنها رحلة اخرى لخلود شاعر الوجع وحارس شط الحلة، بعيدًا عن علاقتي مع الشاعر كصديق للجميع سأتحدث عن شجاعة الشاعر الذي لم يبال بالسلطة وهمه الأول والأخير الوطن والمواطن.
لا أظن بأني سأخالف أحدًا حين أقول بأنّه من أكثر الشعراء الذي رسم خارطة موته في أكثر من قصيدة، وجاد بإحداهن بوصف الأيام الاولى التي تعقب رحيله، راسمًا بريشة الفنان المحترف لوحة للحياة التي يتمناها هناك.
وما يجعل رحيله بداية لحياة خلود هو اصراره الإنساني والثوري لنقل الصورة للموتى الذين سيلتقيهم في رحلة الحياة الأخرى عن الواقع الذي نعيشه نحن الأحياء ويخبرنا بما يراه هناك حين يقول: “كل ما ارجوه من السادة المشيعين بي إلى مقبرة السلام، أن يرسموا في شاهدتي ناياً يصدح وقنينة خمرٍ تضيء لي الطريقا، وأن يغادروا قبري قبل ان يبدأ الملقنون، فلا وقت لديَّ.. في الليلة الأولى سأزور الشهداء القديسين”.
الشجاعة والخوف
وهناك سيطلع على معاناتهم وتفكيرهم بأحبتهم وبعد أن يصغي لهم يخبرهم بالواقع الذي نعيش واصفًا معاناتنا للموتى الشهداء بقوله: “أطفالكم يشحذون في الإشارات الضوئيَّة، ونساؤكم يتقوسن بين التقاعد والعقار، وأمهاتكم في آخر صيحات الموت تلال من العباءات السود تطير نائحة إلى السماء” ثم يستمع إلى وصية والده المتوفي ويلتقي بصديقه حسن، علمًا أنّ القصيدة التي عنوانها “وجع عراقي” كتبها في زمن الخوف الثاني ما بعد التغيير، ولكن الأكثر منها جرأة ووضوحًا قصيدة اخرى سنأتي على ذكرها في هذا المقال.
يقول الروائي الانكليزي “نيل جايمان” أن الشجاعة لا تعني أنك لست خائفًا، الشجاعة معناها أن تكون خائفًا، خائفًا جدًا، لكنّك تفعل الصواب رغم ذلك”، هذه المقولة قادتني إلى احتفالية الحزب الشيوعي العراقي في الذكرى الثمانين لتأسيسه والتي كانت في العام 2013، وبالتحديد على قاعة سينما سمير أميس في بغداد حيث ألقى شاعرنا الكبير موفق محمد قصيدته الرائعة “رسالة الى “المتأسلمون”” ولم أقل رائعة اعتباطا أو مجاملة لشاعر عشق الوطن بكل ما أوتي من قوة ولكن روعتها تأتي لتمردها الصارخ والواضح على الواقع الذي نعيشه في مواجهة “المتأسلمون” كما سمّاهم الشاعر، والذين استعمروا حياة الوطن والمواطن بمفخخاتهم وبكواتم قتل الابرياء ليشيعوا لغة القبح على حساب أغاني جمالية الحياة.
نبوءة الشاعر كانت أكثر من واضحة بالإشارة إلى عصابات “داعش” الإرهابية، على الرغم من كونه كتب القصيدة وألقاها قبل دخول “داعش” للعراق بشهور لأنّه ألقاها في آذار وعصابة القتلة دخلوا الموصل في حزيران من العام نفسه 2013، وكانت لغة القتل السائدة عند “الدواعش” هي السيوف، وترجمها هو بقوله “ارفعوا سيوفكم عن رقابنا” وكم حصدت تلك السيوف الظلامية من رقاب.
عاشق الوطن
الكبير موفق بعدها يدهشنا برحلة أمل صوب صوت الجبل الكبير وديع الصافي وهو يغني معه في بداية مقطعه الجديد اغنية الصافي “زورها بكير يا عصفور”، بعد مستهل الاغنية يصمت الشاعر ويتحول الى صورة مأساوية أخرى، فما الذي دفع الشاعر لذكر عنوان الاغنية ثم تجاهلها، وحين استرجعت الاغنية وسمعتها بصوت صاحبها الصافي أدركت بأن هذا المهووس بعشق الوطن يطالبنا جميعًا بسماع تلك الاغنية لكونها حنينًا لمدن مضاعة يريد من عصفور القلب ان يزورها بعجالة ويتنعّم بكل ما فيها من حياة بعد أن أرهقت نهاراتها خفافيش الظلام.
عاشق الوطن وشاعره بعد مستهل الاغنية يبين لنا ماذا فعلوا القتلة بالعصافير، بالبلابل، بالحياة وهو يقول” لقد نتفوا ريش العصافير التي تقف فوق الزنازين خوفًا من رسالة حب، واعدموا البلابل التي تحمل لنا تحايا الأهل رميا بالرصاص، وسدوا الثقوب التي نتنفّس منها، فلم يتمكنوا من بصرتك وبصيرتك”.
الشاعر بعد ذلك يحدثنا عن معاناة الشعب وغايات وأهداف الحكومات الفاسدة والعصابات المتنفذة، ووصية أم الشاعر التي تحذر الحكومات من شارة الحزب الشيوعي ومكانته التي تضر من يضره لكونه ناشدًا وراشدًا للحب والسلام، الى أن يتحول الى جزءٍ مهمٍ عاشه العراقيون مجبرين غير مخيرين “الكتلتان المتصارعتان الآن، أعني الكتل السياسية والكتل الكونكريتية، كلاهما تتربّعان على صدور العراقيين، وتطحن والناس نيام”.
“من أيِّ نجمٍ قُدَّ شعرُك “
يخاطب الحزب بعد ذلك معترفًا بمناقبه وتضحياته “أيها الزاهد النبيل، ما زلت في محرابك خاشعًا، متصدعًا من محنة العراق، فلقد انفطرت قلوب قبلك ولم تزل يافع القلب خضلًا، ثمانين عامًا وأنت تضيءُ ليل العراق الطويل بكوكبة من شهدائك، وتهتف يسارًا انظر، فلقد أكملت الدورة الوطنيَّة وكهربت القرى وابتكرت العراق”.
وفي ختام معلقة الشجاعة بزمن الخوف يخاطب شاعرنا الكبير حزبه قائلًا “من أيّش حبٍّ قُدَّ صبرُك، من أيِّ نارٍ قُدَّ صبرُك، من أيِّ طينٍ قُدَّ صبرُك”.
وأنا المذهول بشجاعة القصيدة وصاحبها أقول: “من أيِّ نجمٍ قُدَّ شعرُك”… وبخلوده لا برحيله أقول: “من أيِّ طينٍ جاء صبرك؟ يا ابن الحضارات التي لا تنتهي.. كبياض شَعرك.. يا حارس الشط العجيب بعين صدرك.. درساً بجامعة الخلود.. بيارق فوق الحدود.. يطير شِعرك.. في أيِّ نجمٍ يجري نهرك.. عدنا لخارطة الجروح المنشدات بغيض سرك.. قلنا ولكن المقالة لم تصل للهيب فكرك.. قدنا لنرسم إن رضيتَ، بشمعة، أو دمعة، أو لوعة، فوق السماء صروح قبرك”.

اقرأ ايضا

بلند الحيدري ولقاؤه الاول بالرصافي في الفلوجة

علي عبد الاميرذكر بلند الحيدري :كنت أنتصر لجميل صدقي الزهاوي (1862 – 1936) واتجاهه الفلسفي والاجتماعي ودفاعه …