محمد خضير
الكتابة عبارة على ضريح موفق محمد، أحارُ في ما أختار من حجارته الشعرية، هذه التي ما فتئت مفرداتها تتدحرج إلى واد سحيق، فلا تتيح لإزميل نقّاشٍ فرصة أن يمسك بهديرها المتواصل.
أستعير القول الذي كان الناقد علي جواد الطاهر يُؤثِر به أصفياءه من الأدباء العراقيين: “فلان وحده”، فأصوغ منه صوتاً لموفق محمد وحده. خرج صوت موفق محمد من رحم (الكوميديا العراقية)- قصيدته المنشورة على صفحات العدد السادس من مجلة (الكلمة) العام ١٩٧٢- باعتبارها المثال الفخم للضريح الذي ابتناه شعراء طليعيون على حافة الهامش السلطوي لثقافة الأعوام السبعينية. كان صوت موفق محمد وحده، دالاً على هيئته المختفية في بنية الخطاب الشعري الضرائحي ذاك. كان صوتاً منبريّاً محشوراً في زاويته، قبل أن يهشّم جدرانه ويصبح صوتاً شعبوياً، ساخطاً ومدمراً لبنيته الكتوم. ضاق الصوت بحدوده، بحزنه وآلامه وقدرته على التلويح والانتشار الحرّ، فخرج محتجّاً ليلتحق بشعراء الهامش السلطوي الذي شطرته عواصفُ الساحل الإيديولوجي شطرين متناقضين: شطر القصيدة المنطوية على خطابها الجمالي، وشطر القصيدة المفتوحة على هامشها الاحتجاجي. وفيما اعتزَّ الشعراء الجماليون بألعابهم اللغوية، انحاز موفق محمد إلى شحنة صوته من الاستعارات والمجازات الساخرة لهدم حجارة الهامش. كانت ذاكرته المزدحمة بالصور والتجارب تدعمه بأشد النبرات احتجاجاً ودفعاً لجدران اللغة الخادعة. تطابقَ مع صوته وحده، ضدّ ضيق الهامش الذي اندثر تماماً أمام مفرداته الهادرة كالرعد.
منذئذ- منذ حرب العربان والتربان- اندافَ الصوتُ بأوحال الأحذية العسكرية والبذلات الفضفاضة على أجساد الجنود وبصمات الحنّاء على جدران الأضرحة. حتى إذا بلغ الصوت حافة الهامش الأخير، المرافق لسلطة ١٩٩١ المندحرة، كان قد اختنق بجوقة الضحايا من الثائرين حوله (ومنهم ابنه المفقود). خاض الصوتُ حربَه وحدَه ايضاً. لقد اقتضى الهامشُ الطويل، كأفعى مذعورة، أن تتلوّن/ تترقّط قصائده بمعجم هائل من التوريات والغنائيات الشعبية.
سمعتُ موفق محمد يقرأ شعراً على منصّة، خلال معرض مؤسسة المدى للكتاب العام ٢٠٠٧، مستدعياً نبرةَ الهامش الانفرادية، رائحاً وغادياً في حنجرة حجرية، فكانت تلك القراءة تمثيلاً حياً للصوت المستقل الذي وصفتُه في مقال عنوانه “الاحتجاج الناعم” نُشِر في جريدة المعرض. كان الصوت قد تخلّى تماماً من حذره القديم، لكنه اكتسى مقابل ذلك ثوباً فضفاضاً من ملابس الشعيرة الاحتفالية وغنائيتها. كان صوته احتجاجاً هامشياً على طقس عام من الحرمان والاقصاء عن بناء الضمير الجماعي العادل، وقد يكون هذا ضميراً شعرياً لا غير. الصوت يحتجّ، لكنه يحذر من الانزلاق من هامش الشعر إلى متن الهجاء الشعبوي، المعادل لمتن السلطة القمعي القديم. وكم عانى موفق محمد من هذا الاستبدال الخطابي للصوت وصيرورته الجمالية- بناء قصيدةٍ متماسكة مقابل ضريح الأمس الرمزي.
أخيراً، قد نتخذ من العبارة الوصفية- السوريالية التي صدّر بها موفق محمد قصيدته (الكوميديا العراقية) دليلاّ على الصوت الجريح، المتعثّر في هامشه الحجري (وهو هامش مَن سبقوه على المرقى الزلِق للقصيدة الغنائية: رشدي العامل، سعدي يوسف، مظفر النواب وغيرهم من بناة ضرائح الزمن الصعب). أقتطعُ تلك العبارة وأحاول نقشها على ضريح الشاعر:
“أنا مثلث، ولي أربعة أضلاع، وخمسمائة وستون ألف
قدم، أعيش الآن في مستشفى للمجانين، تقع شمال
جمهورية أفلاطون”.
اقرأ ايضا
بلند الحيدري ولقاؤه الاول بالرصافي في الفلوجة
علي عبد الاميرذكر بلند الحيدري :كنت أنتصر لجميل صدقي الزهاوي (1862 – 1936) واتجاهه الفلسفي والاجتماعي ودفاعه …