ترجمة لطفية الدليمي
مقاطع مختارة من ترجمتي لحوار موسع مع بول اوستر – ظهر في كتابي (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة) الذي ضم 47 حوارا مع روائيات وروائيين من الشرق والغرب. صدر عن دار المدى.
…. × يبدو ان لك ولعا طاغيا مع كتاب القرن التاسع عشر الأمريكيين الذين تتكرر أسماؤهم بتكرار يبعث على الدهشة في رواياتك: بو، ملفيل، ويتمان، امرسون، ثورو، هوثورن و بخاصة منهم هوثورن الذي يتردد اكثر من غيره. هل يمكن ان تخبرنا عن السبب الكامن وراء ولعك الكبير بـ (هوثورن)؟
أرى (هوثورن) من بين كل الكتاب القدامى أنه الكاتب الأكثر قربا لي و أشعر به و كأنه يخاطبني بعمق، و هناك شيء ما في الخيال الذي يكتب به يتناغم مع خيالي الشخصي و أنا دائم الرجوع اليه و التعلم منه. انه كاتب لا يخشى الأفكار و بالإضافة لكل هذا هو سايكولوجي عظيم التجربة و عارف عميق بخفايا الروح الإنسانية و لا تزال رواياته هي الأكثر ثورية و لا أرى ان هناك روايات تدانيها في أمريكا. أقول هذا و انا اعلم ان همنغواي قال مرة ان كل الادب الأمريكي قد خرج من معطف ” Huck Finn ” (شخصية خيالية مختصرة عن Huckleberry Finn ابتدعها مارك توين و ظهرت أولا في كتابه مغامرات توم سوير الذي صدر عام 1845، المترجمة)، و انا اعتقد ان الادب الأمريكي الحديث بدا مع ” الرسالة القرمزية The Scarlet Letter ” التي كتبها هوثورن. لم يكن هوثورن تلك الشخصية الكئيبة المعذبة كما يظن معظم الناس بل كان أبا محبا و زوجا محبا أيضا و رجلا احب السيجار الجيد مع قدح أو قدحين من الويسكي و كان مرحا كريما ذا قلب دافئ يأنس بالمتع الصغيرة التي تزخر بها الحياة.
× عملت على أنواع أدبية متعددة كما نعلم: ليس الشعر و الرواية حسب بل السيناريوهات و السيرة الذاتية و النقد الادبي و الترجمة. هل تبدو هذه الإشتغالات فعاليات مختلفة لك ام انها مرتبطة مع بعضها بطريقة ما؟
أرى الإشتغالات التي ذكرت مرتبطة مع بعضها اكثر مما نتصور و لكن هناك اختلافات واضحة بينها أيضا والأمر بمجمله متعلق بالزمن او لنقل: تطوري الداخلي و ارتقاء امكانياتي الأدبية. لم أنشغل باية ترجمة او نقد ادبي لسنوات عدة مع انني كنت مسكونا بها عندما كنت يافعا لان الفعاليتين كانتا تتناولان استكشاف الكتاب الاخرين و كيف أكون انا نفسي كاتبا. القصيدة الأخيرة لي كتبتها عام 1979، فالأمر اذن متعلق بمهنتك الأدبية و كيف تعمل في كل طور من اطوار ارتقائك المهني.
× كتابك النثري الأول المنشور هو (اختراع العزلة) الذي كتبته بين عامي 79 و 81، و يمكن وصفه بانه كتاب nonfiction و بعده انتجت ثلاث روايات تحت عنوان ثلاثية نيويورك. هل تستطيع أن تحدد لنا الفرق بين العملين؟
الجهد هو ذاته في العملين، لكن العمل التخييلي في الرواية يمنح المرء حرية و قدرة مناورة اكبر بكثير مما يمنحه النص النثري المفتوح، و لكن من ناحية أخرى يمكن للحرية المتاحة ان تكون مرعبة فأنت تسال نفسك دوما: و ماذا بعد هذا؟ كيف أعلم ان الجملة الأخرى التي اكتبها لن تقودني الى حافة نتوء صخري يفضي بي الى الهاوية؟. عندما تعمل عملا في إطار السيرة الذاتية انت تعلم الحكاية مقدما و التزامك الأساسي الوحيد هو في ان تقول الحقيقة. أذكر العبارة المقتبسة في الجزء الأول من كتابي ” اختراع العزلة ” و التي أخذتها عن هيراقليطس و سأعيدها هنا: ” في بحثك عن الحقيقة كن متأهبا دوما لما هو غير متوقع لان الحقيقة منهكة في البحث عنها و باعثة على الحيرة عند ايجادها “. سأقول أخيرا: الكتابة هي الكتابة في أي حقل كانت، و مع أن ” اختراع العزلة ” ليست عملا روائيا لكنها تستكشف كثيرا من الموضوعات التي طرقتها في اعمالي الروائية و أجدها بشكل ما أساسا لكل اعمالي اللاحقة.
× و ماذا عن السيناريوهات التي اعددتها؟ كيف يختلف اعداد السيناريوهات عن كتابة الرواية؟
يختلف اعداد السيناريو عن كتابة الرواية في كل شيء و بخاصة في امر حاسم: الروايات هي سرد خالص بينما السيناريوهات – و مثلها المسرح و كل أشكال الكتابة الدرامية – فان ما يهم فيها في المقام الأول هو تلك الكلمات التي ترد في سياق حوار ما، و كما تعلم فان رواياتي قلما احتوت على حوارات لذا كان علي ان اتعلم نوعا جديدا من طريقة الكتابة عند التعامل مع السيناريوهات: أقصد ان اعلم نفسي كيف افكر بالصور و كيف أضع الكلمات على فم كائنات إنسانية نابضة بالحياة.
× ثمة عبارة أحبها كثيرا ترد في كتابك ” اختراع العزلة ” و ترى في الحكاية anecdote شكلا من المعرفة و هو ذات ما اراه، فكرة في غاية الأهمية تقوم على أساس ان المعرفة يمكن ان تأتي في صيغة قصص محكية. هذه الفكرة صعقتني و أرى فيها الفكرة التي الهمتك انت أيضا في كتابة ” المفكرة الحمراء The Red Notebook “. كيف ترى هذا؟
اتفق معك تماما و أرى مجموعة القصص في ” المفكرة الحمراء ” كنوع من الفن الشعري art poetica لكن بلا نظرية مرجعية حاكمة و بلا اية ذخيرة من عدة فلسفية. مررت في حياتي بالكثير من الاحداث و كانت اغلبها غير متوقعة و لم اعد اعلم اليوم ما الذي نعنيه بمفردة ” الحقيقة ” و كل ما يمكنني فعله اليوم هو ان أتكلم عن آليات الحقيقة: ان اجمع الشواهد عما يجري في العالم و أحاول تسجيلها بأكبر ما يمكن من الصدقية و الإخلاص و قد استخدمت هذه المقاربة عندما عملت على كتابة كل رواياتي: أن أقول الأشياء كما تحصل فعلا لا كما أفترض أو أحب ان تحصل. الروايات هي حكايات بالطبع لذا فهي تحكي عن أكاذيب حتما (بالمعني المحدد و الصادم لكلمة أكاذيب)، و لكن كل روائي يحاول بالاستعانة بهذه الأكاذيب ان يكشف جوانب من الحقيقة المخبوءة و الكامنة في قلب هذا العالم.
× القصة الأقوى بين قصص ” المفكرة الحمراء كانت ” قصة البرق The Lightning Story “: عندما كنت انت في الرابعة عشرة و ذهبت برفقة أصدقائك الصبية للتنزه في الغابات و عندها داهمتكم العاصفة و ضربكم البرق الذي تسبب في مقتل الصبي الذي كان يسير خلفك على مبعدة خطوات. كيف رأيت العالم، و الكتابة تحديدا، بعد تلك الحادثة التي لطالما قلت عنها بانها كانت نقطة تحول مفصلية أساسية في حياتك؟
غيرت تلك الحادثة حياتي و قلبتها تماما و ليس من ادنى شك في هذا: ففي لحظة كان الصبي الذي ذكرته في سؤالك طافحا بالحياة و بعد لحظة فحسب استحال كتلة ميتة!! و انا كنت على مبعدة بوصات عنه و ليس اكثر. تلك كانت تجربتي الأولى مع الموت العشوائي و عدم الثبات المحير للأشياء عندما تظن انك واقف على ارض صلبة و في لحظة تفتح تلك الأرض فاها و تبتلعك!!
× عندما تنطلق في كتابة رواية، هل تكون في حالة وعي كامل لما تفعل؟ و هل تكتب بالاستناد الى خطة ما؟ هل تضع حبكة ما مقدما؟
كل كتاب من الكتب التي كتبتها بدأ بما اسميه ” نقرة في الرأس “: نوع محدد من موسيقى أو إيقاع او نغمة، و معظم الجهد الذي أبذله في كتابة الرواية يكمن في محاولة الحفاظ على التأثير الأولي المنعش لتلك النقرة أو ذلك الإيقاع و ذاك عمل يقوم على الكشف الداخلي و الحدس في معظمه و ليس بإمكان أي كان التحقق من صدقية ما يفعل بطريقة عقلانية تماما إنما بوسعه ان يحدس عندما يقع في خطأ ما مثلما يعرف تماما مواضع الجودة في عمله.
” × يلة الوحي ” هي روايتك الحادية عشرة. هل صارت كتابة الرواية أيسر عليك مع مرور السنوات و تراكم خبرتك؟
أبدا. لا اظن ذلك فكل كتاب أعمل عليه أراه تجربة جديدة بالكامل علي و اعلم نفسي كيف يمكن لي ان أكتبه، و أن مسائل من نوع ” انني كتبت العديد من الكتب من قبل ” ليس لها مكان لدي و لا تؤثر في حجم الجهد المبذول في كتابة أي كتاب جديد. أشعر على الدوام كمبتدئ عند المباشرة في كتاب ما و أمر بذات الصعوبات و المعيقات و أوقات اليأس و القنوط التي مررت بها من قبل.
اقرأ ايضا
أم كلثوم… الزمن في ثانية
هيثم أبوزيدلم يتعرض صوت عربي لاختبار الزمن بقدر ما تعرض له صوت أم كلثوم؛ فمنذ …