سرور ميرزا محمود
من دون الخوض فيما إذا كان أصلها شرقياً أم غربياً، كانت المقاهي بديكوراتها التقليدية الجميلة بأرائكها(تخوتها) وكراسيها وأوجاغات عمل الشاي بالقوري والدلة للقهوة وأناسها، وهي تحمل بين طياتها جمالية المكان والروح المنبعثة من جدرانها وفضاءاتها تعبيراً أميناً لأهم مرحلة من مراحل التحول السياسي والاجتماعي بعد تأسيس الدولة العراقية والتي بدأ فيها ظهور منارات للفكر التنويري في الأدب والسياسة والأبداع، فالمقاهي في بغداد كان لها دورها في أثراء الحياة الثقافية والفنية والسياسية والتجارية منذ عقود طويلة ربما منذ أن عرف البغداديون المقهى، وتعد المقاهي عالماً مختلفا عن كافة التجمعات الأخرى مثل المجالس الأدبية والعلمية فهى ملتقى يومى للناس بوجد الحكايات وتروى الأسرار وتعقد الصفقات والأبداعات.
لعبت المقاهي للكثير أدوارا تجاوزت إلي حد بعيد وظيفتها الأولي وهي استقبال الرواد الراغبين في تمضية بعض الوقت حول فنجان قهوة أوأستكان أو كوب من الشاي. ولعل دور المقهي الثقافي كان من أبرز هذه الأدوار المضافة علي الوظيفة الأساسية، حتي أن بعض المقاهي دخل عالم الأدب والثقافة والسياسة بفعل رواده الذين من خلال طغيان حضورهم علي حضور غيرهم، حولوا هذه المقهي أو تلك إلي مكان أقرب إلي المنتدي، منه إلي المقهى.
فالمقهى له مكانة روحية في بغداد ويحمل سحراً خاصاً فهو بالإضافة الى أنه يحمل في داخله ذاكرة لها برجالها وأماكنها، فهو أيظاً المكان الأنسب للاجتماع بالأصحاب والجوار، فكثيرون يشكل ارتياد المقاهي لهم جزءاً مهماً من حياتهم اليومية، فنجد المثقفين والفنانين والباحثين والسياسيين بالإضافة إلى المتقاعدين الذين يعتبرون الدوام في المقهى أمراً ضرورياً للنقاش في السياسة والثقافة والفن، فكل جدار وكل أوجاغ وكل أريكة(تخت) وكل أستكان له حكاية وله قصة وأبداع وفكر وشعر أخرجها رواد المقاهي، كما أن النظر الى وجوه المارة من خلال زجاج النوافذ يعطيك صورة عن حالة المجتمع ومكانته.
أن جغالة زادة سنان باشا والي بغداد سنة 995هـ/ 1586ميلادية فتح اول مقهى في بغداد في موقع خان الكمرك المتصل خلفه بالمدرسة المستنصرية وبابه على الطريق المؤدي الى سوق الخفافين وهو السوق الواقع فيه جامع الخفافين وبعدها سنة1590ميلادية فتح مقهى ثان كان يستخدم غلمانا ملاحا ملابسهم فاخرة لتقديم القهوة وقبض الدراهم وهناك جوق موسيقي في المقهى والتردد على المقهى اكثر ما يكون ليل وسمي بخان جغان.
لنستذكر أشهر المقاهي القديمة والتي لازال البغداديون يتغنوها وهي عالقة بأذهانهم، وذلك أن البغدادي حين يحدد موعداً لزميله يقول له نلتقي في المقهى وهذا يدلل على تعلق وأمر جوهري في حياة العراقيين بصورة عامة والبغداديين بصورة خاصة:
مقهى الخفافين
كانت إحدى خانات بغداد القديمة وأستناداً الى ماذكره الشيخ جلال الحنفي مؤرخ بغداد فأن خان الخفافين بني مع بناء المدرسة المستنصرية في عهد الخليفة العباسي المستنصر بالله عام1233 ميلادية كمسافر خانة، وقبل أكثر من 300 سنة تحول الخان الى مقهى، يتميز البناء الهندسي الجميل بالطراز البغدادي الأصيل والنقوش والأقواس عتد مدخل الأبواب وسقفه المرتفع يتدلى منه ست مراوح قديمة في حين تتوزع على جدرانه قرب السقف نوافذ صغيرة للتهوية ودخول الضوء، وسمي بمقهى الخفافين المستمد من منطقة ورش الصناعات الجلدية وخصوصاً صناعة الأحذية وسروج الخيل والسيوف، وهوقريب من نهر دجلة حيث كانت السفن والقوارب التي كانت تنقل الأمتعة والبضائع تتخذ من ضفة النهر مرسى لها.
مقهى الشط أو التجار
ويقع على ضفة نهر دجلة ويتكون من طابقين علوي وسفلي ويعتبر مقهيين ويعود كل واحد منهما لمالك فمقهى الشط يعود للحاج علي، اما المقهى الثاني في الطابق العلوي فيعود لحسن صفو،كان سقف المقهى من الخشب ويستند الى اعمدة خشبية ايضا ذات طلعة امامية على النهر ويحتوي على النقوش البغدادية وكانت مظللة بالالوان ويجلس الزبائن على درجات من طوف اللبن ويفرش عليها حصير من البردي وتنار بواسطة فوانيس مستوردة من المانيا وهي كبيرة الحجم ولا يوجد مثلها في بغداد وتعلق في السقف.. ويعتبر مقهى الشط من المراكز التجارية المهمة قديما على الشاطئ لان الموقع كان نقطة نهاية المراكب والدوب.. وكذلك كون المقهى سوقا للتداول بقضايا البيع والشراء حتى قضايا الخطوبة والزواج والاعراس كانت تبدأ من المقهى..
ومقهى الشط الوحيد الذي كان يجاز ايام رمضان لموقعه واهميته ولبعده من الشارع وكونه مركزا تجاريا للمداولة ولا يمكن الاستغناء عنه حتى في رمضان.. كان يلتقي فيه وجوه بغداد المعروفة مثل عبد القادر باشا الخضيري وهو صاحب مراكب ترسو على الشاطئ امام المقهى وقاسم باشا وحسن باشا والحاج علي الجلبي وعبد القادر دله صاحب خان دله وابراهيم صالح شكر والرصافي والزهاوي في بعض الاوقات، وكان الجالغي البغدادي حاظراً بالأضافة لقراء المقام أحمد زيدان، رشيد القندرجي وكان يسمع صوته الى جانب الكرخ. وذلك لصفاء صوتهم وطاقتهم اضافة لهدوء الجو ليلا اضافة الى القراء المعروفين خضوري شمه ويوسف بتو وسيد جميل اضافة الى عتابة عكار وكان المقام يصدح يوميا. التياترو ـ كان يقام بالطابق العلوي من مقهى حسن صفو. فقد اشتهر بتقديم الحفلات الراقصة التياتروا. اذ اقتصر المقهى الاول على الجالغي والمقام فقط حيث كان يقدم حفلات يومية راقصة واحيانا مرتين عصرا ومساء ومن الراقصات المشهورات (طيره وفريدة وتنوورحل) وغيرهن.
مقهى الزهاوي
أفتتح الوالي العثماني خليل باشا شارع الرشيدعام 1916 ميلادية وفي المنطقة بين الميدان والحيدرخانة يطل عليك مقهى الزهاوي والذي كان في البداية مقهى أمين التي تأسس عام1917ميلادية وأستبدل ألأسم تيمناً بالشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي أحد أهم جلساء المقهى، وكان للزهاوي عاداته المعروفة في المقهى، فاذا أبدى أحد الجالسين اعجابه بشعره، صاح على صاحب المقهى:
أمين ـ لا تأخذ فلوس الچاي.. كان المقهى ملتقى المثقفين والأدباء والسياسيين والشعراء والسواح العرب والأجانب وكبار الأعيان والتجارمن أمثال الرصافي،والجواهري، والزعيم عبدالكريم قاسم، والوزير ورئيس الوزراء فاضل الجمالي، والدكتور علي الوردي، والأستاذ محمد بهجت الأثري، وأحمد سوسة، وخضر الولي، و قراء المقام محمد القبانجي، وناظم الغزالي، ويوسف عمر، وشعوبي ابراهيم، وسليم طه التكريتي وأبراهيم صالح وعبد الرحمن البناء والشيخ أبراهيم الراوي وحامد البازي وعبد الأمير الحصيري ونزارالقباني وأحمد رامي.. وغيرهم.
ويقال ان الزهاوي استقبل فيه شاعر الهند الكبير (طاغور) عام 1932، وهناك طرفة أو مقلباً منقولاً(كما هو معلوم كان الرصافي والزهاوي في خصام أستمر طويلاً أذكاه أحد الشعراء، وأراد الرصافي في جمعة ما أن يلقي قصيدة في المقهى ليغيض الزهاوي وبدأ بألقاءها في حينها دخل بائع الكرزات “الحب” وهو ينادي حينها نادى عليه الزهاوي الذي كان قد فقد أسنانه بسبب العمر وحين وصل أليه سأله الزهاوي هل عندك حزام لسروالي”البنطلون” فأجابه البائع وهو يعرفه: بيك آني أبيع حب مو أحزمة،
فأستغرق الجالسون بالضحك المستمر ولم يستطع الرصافي أكمال قصيدته).
كان من رواد هذا المقهى (أعضاء فرقة الزبانية للتمثيل) يلمون بها للراحة والتداول في شؤون الفرقة وهم الحاج ناجي الراوي وفخري الزبيدي وحميد المحل وحامد الأطرقچي وجميل الخاصكي وغيرهم من الشعراء والأدباء والصحفيين، وكان القزم الداهية الظريف (خليلو) والمكنى (أبو راسين) من رواد هذا المقهى وغيره من مقاهي الميدان والحيدرخانة.. وكان القزم محدثاً خبيراً بفنون الغناء والموسيقى وبخاصة المقام العراقي.. وحين زارت أم كلثوم العراق عام 1932م سمعت بهذا القزم وقابلته وأعجبت باجتماع النقيضين في شخصيته وقصر قامته وطول باعه في فنون الموسيقى وطلبت المطربة أم كلثوم منه مرافقتها الى مصر للاستفادة من خبرته، ولكنه اعتذر بلباقة، ويقال أن الشاعر بدر شاكر السياب بدأ بنشر أولى قصائده من هذا المقهى، كما زار هذا المقهى كثير من الزوار منهم نزار القباني وأحمد رامي، وفي نهاية الثمانينات أراد أولاد السيد أمين بيعه ليتحول الى مكتبة أو مطبعة وجاهد المخلصين من الأدباء والفانانين فأقنعوا أمانة بغداد بتبنيه وهذا ما حصل بل جرى ترميمه بشكل حافظ على جماليته وهو شامخ الى الآن..
اقرأ ايضا
العراق 1954- 1958:انتخابات 1954.. حقائق ونتائج
إيريك ديفيستقديم وترجمة: حسين كركوشأججت انتخابات عام 1954 ما كان موجودا من توترات داخل النخبة …