شارع الرشيد ومصائب الأهالي عند شقه

رفعة عبد الرزاق محمد
كشفت الوثائق البريطانية التي اكتشفت مؤخرا ان مشروع شارع الرشيد كان من مشاريع الوالي ناظم باشا، وهو وال عرف باصلاحاته الكثيرة في العراق حتى سمي بمدحت باشا الثاني. وصل ناظم باشا الى بغداد وتسلم منصبه في 5 مايس 1910، وبعد ايام التقى القنصل البريطاني في بغداد (الكابتن لوريمر) فابلغه عن عزمه على شق شارع ببغداد عرضه عشرون مترا يمتد من الباب الشمالي (الباب المعظم) الى الباب الجنوبي (الباب الشرقي) بخط مستقيم بطول نحو ميلين. واعتقد القنصل ان ذلك سيصطدم بصعوبات عديدة، وربما خصوم الوالي هم الذين ورطوه بهذا المشروع (تقرير ملخص احداث العراق التركي خلال شهري نيسان ومايس 1910م). وهذا يتفق تماما مع ماذكرته مجلة (الزنبقة) البغدادية الذي سنذكره بعد قليل.
كانت اصعب العقبات التي واجهت ناظم باشا واهمها هي المبالغ الباهضة التي ستصرف على المشروع بسبب التعويضات عن هدم الاملاك عند البدء بفتح الشارع. الف ناظم باشا لجنة لتقدير قيمة التعويضات لنحو مائتي منزل ستتملكه الولاية لغرض هدمها كليا او جزئيا. ففوجيء ناظم باشا بالمبلغ الكبير المقدر من قبل اللجنة على الرغم من طلبه اعادة اللجنة لتقييم التعويضات، حتى قيل ان ذلك لصرفه عن اتمام المشروع او الغائه كما يقول القنصل الانكليزي. غير ان ناظم باشا كان مصرا على تنفيذ المشروع، بل طلب جعل عرض الشارع 22مترا، كما نشر بين الاهالي نص قانون الاستملاك الحكومي لغرض المنفعة العامة. (ظهر اللجنة بعد اعادة تشكيلها ان عدد المنازل التي يطالها الهدم يبلغ 506 منازل تبلغ قيمة تعويضها اكثر من 98 الف ليرة عثمانية).
وقد صور شاعر بغدادي معاناة الناس جراء هدم بيوتهم لشق الشارع من خلال شكوى امرأة. فقد نظم عبد الرحمن البناء (ت 1955) قصيدة بعنوان (أنة تحت الظلام في دار السلام)، مطلعها:
وباكية في الليل والليل مظلم
تود انتباه الناس والناس نوّم
ومن المهم هنا ان الأب انستاس ماري الكرملي كتب تعليقا مفيدا على هذه القصيدة، نشره الشاعر في مقدمة القصيدة المنشورة في ديوانه (ذكرى استقلال العراق) الصادر سنة 1927، جاء فيه:
كان الاتراك قد فتحوا جادة كبيرة في بغداد وهي الجادة التي كانت في خاطرهم منذ عشرات السنين لكنهم لم يجرأوا على فتحها لما كان يكلفهم من المبالغ الطائلة، ولما كان من الناس من لم يوافقهم البتة على رأيهم هذا، ولما اعلنت الحرب وجدوا ان الفرصة مناسبة لفتحها اذ لا يستطيع احد ان يعارضهم. ولما شرعوا بفتحها ظلمواكثيرين وجاروا على الضعيف ولم يؤدوا حقوق الناسبوجه من الوجوه، والذين قدروا ان ان يرشوا رئيس البلدية رشوة (دهينة سمينة) وجد لهم الف عذر لعدم قطع داره او التعرض لها. واما المسكين الفقير فانه لم يستطع الا التصبر على ماداهمه، وصور شاعرنا حالة احدى النساء التي لم يكن لها الا دار واحدة فاجاد وصفا، وكان نظمه لها في 9 رمضان 1334 يوم احتفل بتدشينها.
كتب نوري ثابت (حبزبوز) ان الذي اشرف على فتح الشارع هو امر اللواء العقيد محمد بك، وكان يشغل وظيفة مركز قومندان في قيادة الجبهة (حبزبوز العدد164 في 26 اذار 1935).
ويذكر الاستاذ كامل الجادرجي في اوراقه المنشورة ان اخاه رؤوف الجادرجي رئيس بلدية بغداد في ايام الحرب العظمى غادر العراق قبيل انتهاء الحرب الى الاستانة ومنها الى برلين بحجة الاظلاع على تنظيمات المدينة وتخلصا من الوضع الذي نشأ من جراء فتح الشارع العام وتهديم الكثير من الدور والمنشأت دون تعويض اصحابها اموالا نقدية بل اكتفت البلدية باعظائهم سندات بقيت الى النهاية دينا بذمتها، وقد سبب هذا العمل استياءا بالغا لدى اصحاب العلاقة وغيرهم واعتبروا رؤوف الجادرجي مسؤولا عنها. (من اوراق كامل الجادرجي ص 50).
تاريخ فتح الجادة الجديدة في بغداد
هذا عنوان لما كتبته مجلة (الزنبقة) في سنتها الاولى 1922 في الصفحة 196 (صدر عددها الاول في الاول من تشرين الاول 1922 في بغداد والنسخة التي بين يدي ختم عليها: الآباء المرسلين الكرمليين في بغداد). ومن فوائد المقال:
ان الوالي مدحت باشا حاول فتح شارع بين كنيستي السريان واللاتين ولم تتم المحاولة اذ انتهت ولايته قبل التنفيذ. وفي ولاية ناظم باشا في اواخر سنة 1908 حاولت الولاية فتح الشارع فاحضرت المهندسين الذين قدموا نفس مخطط مدحت باشا فالفاه مناسبا لانه لا يهدم مسجدا او كنيسة واجرى تعديلا طفيفا، ولم تتم المحاولة لعزل الوالي ومغادرته الحاضرة. وعندما اراد سليمان نظيف باشا فتح الشارع غرقت بغداد بفيضان سنة 1915 فاخفق في مسعاه. ومما يؤيد ما كتبته الزنبقة ان جريدة صدى بابل لصاحبها داود صليوه وكانت من الصحف المؤيدة لناظم باشا نشرت كتابا مفتوحا الى انظار الهيئة التفتيشية العالية، وهي هيئة جاءت الى بغداد للتحقيق فيم نسب للوالي ناظم باشا (العدد 91 12 رجب 1334 الموافق 9 تموز 1911) ذكرت فيه اصلاحات ناظم باشا ومنها (رسم خارطة لفتح جادة عمومية في المدينة على حسب نظام مدحت باشا. الفقرة26).

اقرأ ايضا

العراق 1954- 1958:انتخابات 1954.. حقائق ونتائج

إيريك ديفيستقديم وترجمة: حسين كركوشأججت انتخابات عام 1954 ما كان موجودا من توترات داخل النخبة …