أمير تاج السر
منذ أيام قليلة، رحل ماريو فارغاس يوسا، البيروفي، أحد عظماء الكتابة في أمريكا اللاتينية، مع كتاب مثل بورخيس وأستورياس، وخوليو كورتاثار، وبالطبع غابرييل غارسيا ماركيز، وكانوا صنعوا عوالم جديدة، ومدهشة، وضعت أدب أمريكا اللاتينية في صدارة الآداب العالمية، وامتد تأثيره إلى أي مكان، وحتى نحن في بلاد العرب، تأثرنا به كثيرا.
يوسا الذي ينحو منحى آخر فيه الكثير من الفلسفة، والسخرية، وأحيانا الإيديولوجية، يفضله الكثيرون على ماركيز، ويرون أنه قدم أعمالا أفضل وأعمق من أعمال ماركيز، لكني لا أرى الأمر كذلك. فكلا الكاتبين قدما ما استطاعا تقديمه، حسب طريقة كل منهما، والأمر في النهاية كما نقول دائما، تذوق بحت. أنا مثلا أقرأ يوسا، ويعجبني في بعض أعماله، لكني أعشق ماركيز، وقرأت أعماله كلها، مرات عديدة ولم أملّ. غيري يفعل العكس، وهذا مشروع بكل تأكيد.
لا يوجد اتفاق على كاتب أبدا، حتى ساراماغو الذي يوصف بالعظمة والتجاوز، ويعد الحديث عنه بسلبية نوعا من عدم الاحترام، أنا لم أتفاعل مع أسلوبه أبدا. تعجبني أفكاره، لكن الأسلوب فيه كثير من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، ولو اتخذنا رواية “موت ريكاردو ريس” مثالا، لعثرنا على تلك التفاصيل المزعجة التي يفر بسببها وعي القراءة. لقد ظلت هذه الرواية على جدول قراءاتي أعواما، ولم أنهها بعد.
يوسا كما نعرف كلنا أنتج روايات عديدة مهمة، منها “مديح الخالة”، أو “امتداح الخالة”، وهي رواية مشهورة، وفيها علاقة غريبة بين الولد وزوجة أبيه، وأظنها جرأة الكتابة ما خرجت لنا بمثل هذه الرواية. أيضا كتب “شيطنات الطفلة الخبيثة”، وفيها شيء من الحب والسياسة، وروايته الأخرى الجميلة الساخرة، والتي تحمل فكرة مدهشة، لا يكتبها إلا واحد مثله “بنتاليون والزائرات”,
هذه الرواية التي تؤطر لفكرة تأطير الترفيه الجنسي للجنود في الجيش، بإنشاء كتيبة من النساء المرفهات، يقمن بواجبهن مثل أي مجند آخر، والواجب هو الترفيه الجنسي، بدلا من أن يخرج الجنود في إجازاتهم للبحث عن أماكن للمتعة، أو يداهمون نساء الفلاحين في الأحراش البعيدة التي يقطنون فيها.
طبعا الرواية يفترض أن تكون مبتذلة، لكن العكس حدث، فليس ثمة ابتذال، هي في رأيي فكرة ساخرة أكثر منها جادة. وكانت الترجمة العربية التي أنجزها صالح علماني، شديدة الجمال، مثل تراجم صالح المعروفة، وكنت وصفته مرة بأنه يكتب النص العربي للكتاب الذي يترجمه، ولا يكتفي بالترجمة فقط.
ماركيز حصل على جائزة نوبل مبكرا بالنسبة ليوسا، الذي حصل عليه بعد أن شاخ وكما أذكر في عام 2010، وما زلت أذكر كلماته التي عبر بها عن فرحته بالجائزة، وكان كما ذكر مدعوا لإلقاء سلسلة من المحاضرات في نيويورك، وكانت معه زوجته. ومعروف أن يوسا أستاذ جامعي أيضا، بجانب عمله ككاتب روائي، يقول يوسا واصفا لحظة اتصال لجنة نوبل به إنه لم يصدق في البداية ذلك الاتصال، وظنها مزحة أو مقلبا من أحد أصدقائه، لا لعدم ثقته في مكانته التي ترتقي به إلى أي جائزة، ولكن لعدم تفكيره في الجائزة باعتبارها حلما مشتركا، يتزاحم عليه عشرات الحالمين كل عام، وبعضهم مدرج على ذلك الحلم منذ أكثر من ثلاثين عاما. ولم يستطع إطلاق فرحته من عقالها، وإخبار زوجته النائمة قربه، إلا حين أذيع النبأ رسميا في الأخبار، في اليوم التالي.
وهذه الفقرة توضح لنا كم هي رائعة الجوائز، وتشد الاحتفاء والاحتفال، ويمكن أن تلفت نظر واحد متأصل في الكتابة، ولا حاجة به إلى جائزة أو قيمة مالية لجائزة، وأظن أن ذلك نوع من الإحساس بالاهتمام ما تكتبه، بعيدا عن أرقام التوزيع وعدد القراء.
أتحدث هنا عن مسألة الاحتفاء بالكاتب عموما، وقراءة أعماله لدى الناس، وأعتقد أن ذلك ليس متساويا لدى كل الكتاب حتى لو كانوا مشاهير، أو يكتبون بجدية وعمق مثل يوسا. أنا أعتقد بأن يوسا بالرغم من شهرته وحصوله على جائزة نوبل، هناك من لا يعرفه حتى في أمريكا اللاتينية، وعندنا عربيا كثيرون لا يعرفونه، أو لم يقرأوا له، وانتبهت إلى ذلك بعد إعلان وفاته حيث كتب كثيرون محتكون بالكتابة والقراءة بشدة، وبعضهم روائيون، يسألون عن أهم مؤلفته، ليحاولوا القراءة له.
أنا لم أستغرب ذلك كما قلت، الترجمة للعربية تجذب قراء للكاتب المترجم، حصوله على جائزة، يزيد عدد القراء، وموته يأتي بقراء جدد.
حتى ماركيز الذي يعرفه طوب الأرض، أذكر يوم وفاته أن سألني أحدهم: هل تعرف الكاتب ماركوربولو، الذي توفي اليوم؟
وبالطبع صححت له الاسم، ولم يبد نادما على إيراد اسم خطأ لكاتب، لم يرد أن يسمع به، وجاء السمع بغتة حين أعلن نعيه.
في النهاية تستطيع أن تقول إن الكتابة معاناة، والشهرة معاناة، وعدم الشهرة للكاتب الذي أفنى عمره يكتب، معاناة أكبر، ولولا أن هناك حوافز قد تصيب البعض، أو يصيبها البعض، لظل القحط المادي سمة من سمات الإبداع.
لا أظن أن أمريكا اللاتينية الإبداعية، هي هؤلاء الكتاب القليلين الذين نعرفهم ونقرأ لهم، مؤكد يوجد آلاف غيرهم لم يصلوا إلينا ولن يصلوا.
كل ما في الأمر أننا نحب من وصلنا، نحب ماركيز ويوسا وبورخيس، ونتأسف على رحيلهم، لأن ما قدموه كان فيه الكثير من المتعة والمعرفة.
· عن القدس العربي
اقرأ ايضا
يوسا في بغداد: “هذا ليس حسناً يا سيدي! “
ندى حطيطكتب الروائي الراحل ماريو فارغاس يوسا (1936-2025) وحائز نوبل للآداب 2010 بغزارة لافتة عبر …