من أدب الذكريات..ذكرياتي مع هاشم البغدادي.. عملاق الخط العربي

وليد الأعظمي
انعم الله علي بصداقة متينة واخوة وطيدة مع الخطاط العملاق الاستاذ هاشم البغدادي رحمه الله دامت عشرين عاما. كنت خلالها اعب من فيض فنونه ودرايته وخبرته.
اصدر المرحوم هاشم مجموعة من خط (الرقعة) اقرتها وزارة المعارف (التربية) سنة 1946م، كما أصدر مجموعته الرائعة (قواعد الخط العربي) سنة 1961م وهي ارقى مجموعة للخطوط العربية ظهرت حتى الآن في العراق ومصر والشام وتركيا وايران.
ومن آثاره المهمة، التي كان يعتز بها كثيرا (مصحف الاوقاف) الذي طبعته مديرية المساحة العامة ببغداد لاول مرة سنة 1370هـ باشرافه. ثم طبعه ديوان الوقف في المانيا سنة 1386هـ باشرافه ايضا. وطبعة ثالثة في المانيا سنة 1391هـ وقد بقي رحمه الله في المانيا سنتين او اكثر للاشراف على طبع المصحف. وقد قام بتذهيبه وترقيم آياته وكتابة عناوين السور والاحزاب والاجزاء والسجدات. كما صنع له زخرفة رائعة (لفاتحة الكتاب واول سورة البقرة). وقد انتشرت الزخرفة في اوروبا انتشارا هائلا وعرضت في البيوت والمخازن والقاعات. والمصحف المذكور من خط المرحوم الخطاط التركي محمد امين الرشدي كتب سنة 1236هـ، وقد اهدته والدة السلطان عبد العزيز الى جامع الامام الاعظم ابي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رضي الله عنه.
ومن آثاره السطور في جامع العسافي بالاعظمية وجامع صالح افندي (نفس السطور) وجامع حسيبة الباجه جي في الكرادة الشرقية.
والسطر الرائع الذي كتبه في جامع الامام الاعظم سنة1364هـ بالثلث:
سلوه تضرعا وادعوه خفية وبعد استرحموا لابي حنيفة
وكذلك كتب سطور جامع عبد الله لطفي في السليمانية، وسطور جامع عادلة خاتون بالصرافية وسطور جامع الشاوي وسطور جامع سعد بن ابي وقاص مجاور المتحف بالكرخ. وسطور جامع الوزير ببغداد وباب جامع عثمان افندي وسطر جامع الازبك (بالكوفي) ونفسه في جامع 14 رمضان.
وسطور جامع الشهداء في ام الطبول ومنارة جامع علي افندي. وسطور جامع الاورفه لي ببغداد، وباب جامع المرادية ببغداد.
ومن اروع آثاره السطر المطل على شارع الرشيد في جامع الحيدرخانة وهو بالثلث المحقق. وقد وقف طويلا ينظر اليه عند عودته من المانيا. ومعه نخبة من تلاميذه. وهو يبين له خصائص ومزايا الخط المحقق.
وكذلك سطوره في جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني، في غاية الفخامة والعظمة في حسن التركيب والتداخل بين الحروف. ومن اعظم آثاره اللوحة الكائنة في ظاهرة جامع 14 رمضان من جهة القبلة والمطلة على حدائق الجامع، وقد صب رحمه الله عصارة فنه وخلاصة اتقانه في سطور جامع المرحوم المحسن الحاج عبد الوهاب النبيه ببغداد.
كما صلح سطر جامع الامام الاعظم في الطارمة (سورة الفاتحة) وهو بخط المرحوم عبد الجبار خان زادة الشيخلي البغدادي.
الى عشرات الجوامع والمدارس والربط في كافة انحاء العراق. زين واجهاتها وطرز محاريبها وقبابها بخطوطه الرائعة الزاهية.
ومن روائع آثار المرحوم هاشم الزخرفة المثبتة في الدينار العراقي الصادر عن المصرف الوطني والدينار العراقي الصادر عن البنك المركزي العراقي، مع العلم انه كتب العملة (التونسية) و(المغربية) و (الليبية) و (السودانية) اضافة الى المسكوكات العراقية المعدنية الصادرة سنة 1948م و 1959م وهذا ما يدل على ذيوع شهرته في الوطن العربي كله ومركزه الفني وسمعته.
كما كان المرحوم هاشم خبيرا ترجع اليه المحاكم في فحص الخطوط والتواقيع.
ومكتب الاستاذ هاشم كالروضة الغناء انتشرت الورود بارجائها. فهو مزين بلوحاته الرائعة النفيسة المذهبة والمطعمة ذات الاطر البهية. بالاضافة الى لوحات بعض كبار الخطاطين العثمانيين، الذين يعتز بهم ويعتبرهم المثل الاعلى في الخط العربي.
وقد عرض في مكتبه بعض (الحلي) ـ جمع حلية ـ بخطه وبخط الاتراك القدماء.
والحلية هي لوحة تتضمن كتابة صفة النبي صلى الله عليه واله وسلم كما وصفه الامام علي رضي الله عنه. يتبارى الخطاطون باجادتها والتفنن بتراكيبها وتصميمها والابداع في رصف سطورها، وتحقيق حروفها.
والحلية عند الخطاطين كالمعلقة عند الشعراء، كما انها المقياس الذي يحاسب عليه الخطاط ولا يحاسب على سواه، ويوجه له المدح والقدح بسببها. ويهيبها الخطاطون. ولا يقدم على كتابتها منهم الا من آنس من نفسه الكفاءة واللياقة. بحيث يستطيع ان يضيف جمالا وحسنا في تركيبه وان يتحاشى التقليد لمن سبقه الا في حدود ضيقة يضطر اليها الخطاط اضطرارا ولا يملك لنفسه او لقلمه فكاكا منها.
وقد كتب المرحوم هاشم اكثر من عشر حليات مذهبة ومزخرفة ببراعة تامة. وقد بعثها الى استانبول لتذهيبها. هناك من قبل عظماء المذهبين الاتراك.
ومكتبته في بيته تحتوي على نماذج قيمة لروائع الخطاطين. وفيها مجاميع اصلية باقلام كبار الخطاطين القدماء والمعاصرين الى اعداد كبيرة من اللوحات المطبوعة والمصورة عدا المجاميع والكراريس والكتب التي تبحث في تاريخ الخط العربي واصوله وآدابه. كما زين بيته بسطور زاهية على الجدران. وكان على صلة دائمة بخطاطي مصر والشام وتركيا وايران.
وعند سفري الى الحج سنة 1963 زودني المرحوم هاشم برسالة الى الاستاذ (احمد ضياء الدين المدني) في المدينة المنورة واوصاني بالاتصال به، للاطلاع على المخطوطات الموجودة في المدينة المنورة، وشراء ما استطيع منها بأي ثمن كان ويكون الشراء باسم هاشم وهو يحول المبلغ الى هناك. وقد اتصلت بالاستاذ المدني وفرح برسالة هاشم وقام بالواجب واطلعني على كثير من المخطوطات التركية لدى بعض الاتراك والمجاورين في المدينة. واغلبها مطبوع ومصور وكنت قد رأيت بعضا منها لدى المرحوم هاشم قبل السفر. ثم زرا (الشيخ مصطفى نجاة الدين) وهو رجل تركي فاضل مجاور للنبي صلى الله عليه واله وسلم وهو صاحب (حدائق الخطوط) وهي سلسلة خطية طبعها في الشام. فاطلعني على مجاميع ضخمة (درج) لكبار الخطاطين الاتراك، مذهبة ومزخرفة في غاية الحسن والجمال والتنسيق. ومنها ما يمتد الى اربعة قرون او يزيد. وكان الشيخ يعتز بها كثيرا وهو غير مستعد لبيعها. فاتفقت معه على تصويرها.
وقد جلبت منها خمس عشرة صورة الى الاستاذ هاشم عند عودتي من الحج. كما ارسل الاستاذ المدني بعد ذلك مجموعات مصورة كبيرة الى الاستاذ هاشم، وكانت بينهما مراسلة ومودة.
كما زودني رحمه الله بنسخة من كراسة قواعد الخط العربي موقعة بقلمه هدية الى الشيخ محمد طاهر الكردي المكي الخطاط، ونسخة اخرى موقعة الى الحاج محمد بدوي الديراني الخطاط الشهير في دمشق، وقد سلمتها الى الحاج بدوي عند انتهاء الحج وزيارتي لدمشق.
كما سافر رحمه الله في آب سنة 1963م الى القدس الشريف، واطلع على خطوط (شفيق) الخطاط التركي في قبة الصخرة وصورها لنفسه. وكان رحمه الله ينوي السفر الى مكة المكرمة والمدينة المنورة ليطلع على خطوط المرحوم (الحاج عبد الله افندي الزهدي) الخطاط التركي الشهير. الا ان اعماله الكثيرة كانت ترهقه ووقته ضيق بالنسبة لآماله وخططه ومشاريعه.
مجلة (الرسالة الأسلامية) لسنة 1980

اقرأ ايضا

الناصرية في سنوات تأسيسها الأولى

حسن علي خلفليس من باب المصادفة ان تبتنى حاضرة على انقاض امارة المنتفق، أو نتيجة …