حيدر شاكر الحيدر
في العام 1973 قدمت اوراقي لأقبل بمعهد الفنون الجميلة /قسم الرسم وكنت خائفا من هذا الصرح الكبير الذي تعج به الاسماء من الفنانين العراقيين والعرب والاجانب وقبل يوم من مقابلتي نصحني العم الجميل الدكتور علي رديف ان اكمل دراستي في الموسيقى وتحدث معي عن الموسيقى حيث انها ذلك الفن الوحيد الذي يحضر مع كل الفنون, ويأتي يوم المقابلة الصعب وامام لجنة جُلها من الاسماء الكبيرة.
تم قبولي في قسم الموسيقى وبتقدير (جيد جداً) بعد تفاصيل كثيرة وبعد ثلاثة اسابيع من الدوام في المعهد تم توزيع الطلبة على اساتذة الألات العملية لترتأي اللجنة ان ادرس واتعلم العزف على الة (البيانو) بينما كنت افكر ان اكون عازفا لألة العود.
وعند تنسيبي عند الست نتاشا الراضي ومضي فترة اسبوع فكرت بمغادرة المعهد بسبب عدم الانسجام مع الست نتاشا فتقدمت بطلب الى رئيس القسم الاستاذ حسين قدوري على انهاء علاقتي بالمعهد او نقلي الى استاذة اخرى, فوافق على طلبي وقال ان الست (بياتريس اوهانسيان) هي استاذتي الجديدة واوصاني ان استفاد من هذه الانسانة التي لم يكررها زمن, حيث تعد سفيرة الموسيقى العراقية لدى العالم وانتظرت مطلع الاسبوع لأرى الاستاذة بياتريس, حقا انها اميرة بكل ما اعنيه من رقي وجمال واناقة, تعلمت منها ان تدريس الموسيقى عالم قائم بحد ذاته وان تدريس الموسيقى هو مهمة شاقة خاصة مع ألة البيانو ذو المفتاحين الصول والفا.
كانت بياتريس تختار مناهج لكل مرحلة دراسية وحسب امكانية الطالب وحينها كنا خمس طلاب بنين وبنات ويالها من سنوات ابداع حقيقي.
استطاعت الست بياتريس ان تجعل من الدرس العملي درساً نموذجيا ينتظره طلبتها بشغف على عكس بقية الالات الموسيقية وهذا يعود لاسلوبها التربوي ومنهاجها المميز الذي تختاره هي بنفسها.
سنوات وانا طالب عند استاذتي, خمس سنوات مرت كالحلم, تخرجت من قسم الموسيقى / القسم الغربي وبتقدير (ثالث) على القسم لتظل بياتريس اساساً في حياتي الموسيقية ” رحمها الله ” ادركت ان الموسيقى هي موهبة واستاذ والاهم هو الاستاذ بعملية التدريس ومن خلال تجربتي الطويلة بمجال تدريس الالة ومن خلال موقعي الوظيفي بمعهد الفنون الجميلة ومعهد الدراسات اود ان اشير ان الكثير من المواهب الطلابية التي درست علم الموسيقى واحبته غادرت هذا الفن بسبب الاستاذ الذي لم يوفق بايصال طريقة تدريس الالة الموسيقية.
بياتريس اوهانسيان الشتاء المقدس
وانا استذكر استاذتي الراحلة عازفة البيانو بياتريس اوهانسيان تذكرت تلك السنوات الخمس بمعهد الفنون الجميلة وتذكرت اصدقاء الفن الجميل واذكر شيئاً ظل عالقا في ذهني فلولاه ما تعلمت معنى الجمال الموسيقي الذي هو عالم الرقي الحقيقي.
رحلت استاذتي اميرة البيانو وسفيرة العراق في العالم, راهبة الموسيقى جمال وخلق واناقة, رحلت بعد ان قدمت عطاء موسيقي لم يقدمه احد من الموسيقيين العراقيين تقلدت بعدة قلادات اينما حلت بمسارح دول العالم لعقود من الزمن وهي استاذة بمعهد الفنون الجميلة وفي الفرقة السمفونية الوطنية العراقية لم يعوضها احد رحلت بياتريس ببلاد الغربة فكتبت عنها صحافة العالم واطلقوا عليها (الشتاء الحزين) بعد رحيلها عام 2008 تظل رمزا عراقيا وعالميا ويظل السؤال (مالذي قدمته وزارة الثقافة ومالذي قدمه معهد الفنون الجميلة لهذه الايقونة؟)
هكذا حال الكبار من اهل الفن يغادرون بصمت في ظل زمن ليتنا لم نره, رحم الله بياتريس اوهانسيان ولروحها السلام.
لو كنت مديراً لمعهد الفنون الجميلة لملئت ساحة المعهد واقسامه بنصب تذكارية لكل استاذ ظل بصمة بتاريخ الفن العراقي كان مدرسا بهذا الصرح الاهم بحياة الفن العراقي الخالد.
بياتريس الطفلة الموهوبة
المصادر تذكر ان هذه الفنانة ارادت ان تختصر الزمن لتدخل معهد الفنون الجميلة الذي تاسس عام 1936 الا ان عمرها كان لا يسمح لها بالالتحاق في المعهد وكان للراحل (حنا بطرس) دورا مهما بقبول بياتريس رغم صغر سنها في المعهد كحالة استثنائية.
يعد الاستاذ الروماني جوليان هرتز اول استاذ لها حيث تخرجت من المعهد عام 1944 وحصلت على دبلوم فن عال بدرجة امتياز تخرجت وهي مازالت صغيرة العمر فتحدت كل الاوامر والتعليمات وهذا حال مبدعو الموسيقى او عباقرتها اختزلوا الزمن ليقدموا انفسهم مواهب للعالم.
الاهم من كل ذلك ان الحكومات العراقية في العهد الملكي كانت تنظر للفن الموسيقي على انه رقي وحضارة ويعلم متابعي التاريخ الموسيقسي العراقي ان رئيس الوزراء نور السعيد امر ان يبقى قسم من الفنانين اليهود في العراق وان لا يتم تسفيرهم الى فلسطين كما حصل ليهود العراق انذاك فقد ابقى على عازفي ألة السنطور والجوزة للاستفادة منهم وتدريس العراقيين هذين الالتين التراثيتين.
كم كانت الموسيقى حدثاً ثقافياً لدى العراقيين فما اكثر مبدعات العراق النسوة الفنانات منهن والاديبات.
لذلك لابد ان تذكر المرأة العراقية هي حضارة انسانية كانت وما زالت.
بين السمفونية ومعهد الفنون الجميلة
حينما اسست الفرقة السمفونية الوطنية عام 1961 كانت بياتريس مدرسة لألة البيانو في قسم الموسيقى بمعد الفنون الجميلة وتشير الوثائق ان بياتريس غادرت المعهد لأوربا وامريكا حيث مارست التدريس بدول اوربية تحديداً بمملكة النمسا وسويسرا اضافة للتدريس فقد اقامت حفلات بدول اخرى ضمن القارة الاوربية ومن ثم انتقلت الى الولايات المتحدة ونظمت الكثير من الحفلات في ولايات مختلفة للجاليات العراقية وكانت ممثلة لمنطقة الشرق الاوسط خير تمثيل.
في العام 1969 عادت الى العراق بمعهد الفنون الجميلة / قسم الموسيقى لتواصل عطائها الموسيقي مدرسة في المعهد وعازفة في الفرقة السمفونية الوطنية وبين الحين والأخر كانت بياتريس تمثل العراق في الاسابيع الثقافية العراقية التي تقام بدول الشرق والغرب فقد مثلت العراق في العديد من الملتقيات الموسيقية داخل وخارج العراق ومن خلال تلك المشاركات نالت العديد من الشهادات والاوسمة التي تستحقها من تلك الدول التي زارتها.
في العام 1972 عادت للفرقة السمفونية وكان العام 1982 عاما مميزاً بحياتها الموسيقية حيث الفت سمفونية البيانو قدمتها على خشبة المسرح الوطني العراقي وقد كانت الفرقة السمفونية العراقية على موعد مع هذه المؤلفة الموسيقية لعازفة لن يكررها زمن, وقام بتوزيع سمفونية البيانو المايسترو الرائع عبد الرزاق العزاوي اطال الله عمره, هنا لابد من الاشارة الى ان هنالك اسماء من الموسيقيين العراقيين امثال الموسيقار (فريد الله ويردي) والموسيقار (عبد الامير الصراف) اضافة لتلك الاسماء ظهر اكثر من فنان مؤلفا للسمفونية العراقية امثال الراحل (منذر جميل الحافظ) وفكري بشير وفؤاد عثمان ومحمد امين وعلي خصاف وأخرون… .
هل لنا ان نرى امرأة عراقية اخرى كبياتريساوهانسيان تؤلف لنا اعمال او قطع موسيقية ضمن الفرقة السمفونية العراقية؟
سؤال ينتظر الاجابة.
بياتريس والعام 1937
لم يكن ذلك العام مجرد زمن بحياة هذه الفنانة الموهوبة, حيث وقفت بياتريس امام لجنة القبول باسماء الشريف محي الدين حيدر مؤسس الموسيقى العراقية وواحد من اهم رموزها في القرن العشرين وايضا كان هناك مدير معهد الفنون الجميلة الاستاذ الموسيقي حنا بطرس الذي وصفها بـ(شوبان الموهبة) ولابد من الاشارة ان من يقف وراء موهبتها الفذة والدها وشقيقها (ارشان) عازف الكمان ولربما نسأل عن والدها فلابد ان تكون اجابتنا ددقيقة فالمصادر المقربة من عائلة بياتريس تؤكد انها سكنت بغداد ايام الاحتلال البريطاني للعراق وان عائلة الاب واخويه غادرا من تركيا بعد مذبحة الارمن الشهيرة لتستقر في العراق.
بياتريساوهانسيان والكنيسة
كما يعلم المهتمون بعلم الموسيقى وتاريخه العريق ان الموسيقى عرفت في المعابد والكنائس وان الكنائس كانت ولم تزل تقيم التراتيل الدينية على مر الزمن وتطورت عبر مراحل مختلفة من الحضارات البشرية وفي بغداد ام الكنائس تدق الاجراس لبدأ الطقوس الدينية واتذكر ان الكثير من العوائل العراقية كانت تزور الكنيسة وتتبارك من خلالها.
بياتريس اوهانسيان كانت كل يوم احد تتردد على كنيسة الارمن بمنطقة الشورجة ببغداد لترافق الكورال الكنائسي وهو يؤدي طقوسه الدينية وتهزف على ألة الاورغن الموجودة في الكنيسة وهذا الحال رأيناه لدى عطماء الموسيقى امثال بتهوفن وموتسارت وباخ وباقي عباقرة الموسيقى وهنالك الكثير من المؤلفات الكنائسية التي كانت الكنائس اماكن لأدائها ونعود بالذاكرة حينما كنا طلبة بمعهد الفنون وضمن مادة التاريخ والتذوق الموسيقي حيث كان الاستاذ الراحل حمدي قدوري مدرسا لهذه المادة قال ان الموسيقى عرفت من خلال المعابد والكنائس رحمه الله رمزا عراقيا وعلم من اعلامه.
المايسترو عبدالرزاق العزاوي قائد الفرقة السمفونية العراقية
يتحدث الصديق الرائع والمثل الاعلى بشخصية الفنان والانسان المايسترو عبد الرزاق العزاوي عن هذه الفنانة العراقية والعالمية حيث يذكر لي بذلك اللقاء الذي جمعني بينه بمقر جمعية الموسيقيين العراقيين ان الفنانة بياتريس هي رمزا من رموز الموسيقى العراقية والمرأة الوحيدة التي نالت تقدير الحكومات العراقية المتلاحقة, منحت سفيرة باستحقاق فقد صالت وجالت في قارات العالم وهي تقدم روائع العزف من مؤلفات كبار الموسيقيين الذين عرفتهم البشرية واتذكر في العام 1982 حينما الفت بياتريس سمفونية البيانو كنت موزعاً لذلك العمل المميز وقدمت الفرقة السمفونية مقطوعة (الفجر) من مؤلفاتها ويستمر بحديثه كانت الراحلة تختار طلابها بدقة كونها تنظر لهؤلاء الطلبة انهم جزء منها فهنيئاً لمن تتلمذ على تلك الانامل والعقلية التي لن تتكرر على مدى سنين قادمات بتاريخ الموسيقى العراقية.
لقد تفاعلت بياتريس مع ما يحدث في العراق من متغيرات سياسية وعسكرية فتراها تتالم لتلك الحروب التي خاضها العراق واخرها حرب العام 1991 ولم تتحمل ما خلفته تلك الحروب من مأسي للعراق فقررت ان تهاجر الى الولايات المتحدة وليكون قدرها ان تفارق الحياة بعد ان تركت هدية الحكومة العراقية لها تلك هي الة (البيانو) من النوع الفاخر والتي توجد حاليا باحدى بيوت بغداد المعروفة بحبها للموسيقى والفن.
اقرأ ايضا
الناصرية في سنوات تأسيسها الأولى
حسن علي خلفليس من باب المصادفة ان تبتنى حاضرة على انقاض امارة المنتفق، أو نتيجة …