الشاعر بلند الحيدري ما بين خفقة الطين ودروب المنفى

علي عبد الأمير
عن سبعين عاما، مات الشاعر العراقي بلند الحيدري، وهو يغالب أزمات قلبه المتعب، في مستشفى برومبتون وسط لندن (الثلاثاء 6/8/1996)، وفي نفي وإغتراب، فارقنا صاحب ديوان “خفقة الطين” تاركا خلفه سيرة حاشدة من العمل والفعل الشعري والمعرفي والثقافي، فقد كان، ودونما دخول في مناقشات ضيقة على طريقة: من حقق الريادة في تحديث الشعر العربي؟ أحد الأسماء المهمة في تلك العملية التحديثية التي لم تظل في حدود الشعر حسب، بل طالت الكثير من النشاط الثقافي والفكري العربي.
كما عرف عن الشاعر الحيدري، انهماكه العميق في مصائب وأحزان بلاده التي جرًتها الديكتاتوريات وسياسات الغطرسة من زمن أسود الى آخر أكثر سوادا، وبرز مدافعا أصيلا عن حق البلاد وأهلها بعيش حر كريم، ولم ينعكس هذا الانهماك في شعره تحت وطأة المتغيرات السريعة المتلاحقة في الشأن العراقي، فرؤيته تلمست الوقائع المعاشة منذ نهاية الاربعينات، ليجد فيها تصغيرا للشأن الانساني وجعلته يدخل في مواجهات لا تنتهي قادته الى اكثر من رحلة بعيدا عن وطنه.
ولد الشاعر الحيدري ببغداد في 14 أيلول 1926، وهو العام نفسه الذي ولد فيه شعراء القصيدة العراقية والعربية الحديثة: السياب والبياتي، وكان ينتمي للاسرة الحيدرية الكردية الشهيرة، ذاق مرارة اليتم صغيرا ونشأ بوهيميا لايستقر على حال، يتنقل من درس الى درس، ومن عمل الى عمل، تعرًف في تلك الفترة على الشاعر حسين مردان ومعا عمًقا بوهيمية حقيقية بدت لأول وهلة غريبة على سليل العائلة المعروفة، وعن تلك الفترة يقول الشاعر الراحل: “كان المنفى قائما في داخلي منذ ان وعيت نفسي كائنا شعريا وكائنا سياسيا في آن واحد، والغربة بهذا المعنى كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم، فقد هربت من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد وأنام على ارصفتها مع حسين مردان وأضع كرسيا ومنضدة متهرئة لكاتب عرائض في باب وزارة العدلية التي كان يشغل منصب الوزير فيها خالي (داود باشا الحيدري) نكاية بالعائلة”.
الحيدري: شعر وفكر وعناية بالفنون
لقد نقل الشاعر حياته وثقافته الى مستوى آخر بعد معرفته للفنان جواد سليم، وكانت علاقته مع “جماعة الوقت الضائع” تعبيرا عن القلق والحيرة التي ميزت الشباب المثقف والتي قادته لاحقا الى البحث عن وسائل تعبير حديثة نشأت تحت وطأة ظروف التغيير، وعمل الشاعر في تحرير العديد من الصحف والمجلات العراقية حتى وصل بيروت التي وجد فيها ملاذا روحيا جعله يقدم على مشاريع ثقافية عديدة، منها رئاسته لـ”المؤسسة اللبنانية للطباعة والنشر” وشغله منصب سكرتير تحرير مجلة “العلوم” البيروتية ثم رئيس تحريرها واشترك مع الكاتبة عالية ممدوح في الاشراف على مجلة “الفكر المعاصر” البيروتية عام 1974، وعاد الى بغداد ليصبح سكرتيرا لتحرير مجلة “آفاق عربية”، غير انه عاود الرحيل بعيدا عن وطنه ووصل لندن ليصدر من هناك مجلة “فنون عربية” حتى توقفها عام 1982، والتي كانت محاولة جادة لدراسة الفن العربي المعاصر وتتبع المراحل التاريخية للفن العربي على مر العصور، فالشاعر الحيدري عرف كناقد للفن التشكيلي ودارس متعمق في ظواهره، وبعدها اخذ يكتب في الصحف والمجلات العربية الصادرة في لندن ومنها صفحته الثابتة في مجلة “المجلة” التي كان يطل منها على جوانب في الحياة والفكر والسياسة ودائما عبر رؤية شخصية عميقة.
وكان “اتحاد الديمقراطيين العراقيين” الذي كان الشاعر نائبا للرئيس فيه، احد ثمرات العمل الفكري والسياسي المباشر الذي خاض غماره الشاعر الراحل، واصدر نشرة ” الديمقراطي” المعنية في بحث قضايا الشأن العراقي، وكشف ما تعرض اليه العراق من محن ومآسي، ومات الشاعر فيما المعنى الاسود لأزمة البلاد، ظل مادًا اذرعه الاخطبوطية على العراق، كاتما فيه علامات الحياة وجمالها.
وعن رأيه في الواقع العراقي والمستقبل الآتي الذي سيحمل معه بشائر الخلاص، قال الراحل” الواقع يضع علامة استفهام على كل شي في العراق إجتماعيا، تزداد الاخلاق انحطاطا وبالفعل شاعت قيم غريبة لم يكن يعرفها العراقي من قبل، اعتقد ان ثقافة المنفى ستكون هي الوجه الحضاري للعراق، الفنانون الكبار يتبوأون الآن صالات عالمية، الاكاديميون رسخوا وجودهم ايضا، ومع ان شبابيك الحلم تغلق واحدا بعد آخر، غير ان على القوى الوطنية في المعارضة ان تخرج من ازمتها، نحو بناء عراق ديمقراطي”.
ومن قصيدة “الهويات العشر” نقرأ هذه الابيات:
وخرجت الليلة
كانت في جيبي عشر هويات تسمح لي ان اخرج
هذي الليلة
اسمي بلند بن اكرم
وانا لم اقتل احدا, لم اسرق احدا
وبجيبي عشر هويات تشهد لي
فلماذا لا اخرج هذي الليلة
كان البحر بلا شطآن
والظلمة كانت اكبر من عيني انسان
اعمق من عيني انسان
ورصيف الشارع كان
خلوا إلا من صوت حذائي
أصدر الشاعر بلند الحيدري مجموعاته الشعرية التالية: “خفقة الطين – 1946″، “أغاني المدينة الميتة –1952″، “قصائد اخرى – 1957 “، ” جئتم مع الفجر– 1961″، “خطوات في الغربة – 1966” ثم “رحلة الحروف الصفر – 1968″، ” حوار عبر الابعاد الثلاثة – 1972 “،” المجموعة الكاملة – 1975″، ” اغاني الحارس المتعب – 1977 “، “الى بيروت مع تحياتي – 1985″، واخيرا “ابواب الى البيت الضيق – 1990 “، ومات الشاعر قبل ان يهنأ بكتابه الاخير الذي صدر متزامنا مع ايام رقوده في المستشفى وحمل عنوان “دروب المنفى”.
وحملت قصائده الاخيرة تلويحات الألم العميق، ألم افتقاره الى ألفة الوطن، ورؤيته للمأساة التي كانت تشغله كفكرة تتجسد في حدود مكانه العذب والأليف.
ولأني
احمل عشر هويات في جيبي
غنيت، صفرّت، صرخت، ضحكت، ضحكت، ضحكت
ما اكبر ظلك، انسانا يحمل عشر هويات في عتمة ليل
عشر هويات في زمن، في بلد لا يملك اي هوية
في اليوم الثاني
كان ببابي شرطيان
سألاني، من أنت؟
انا بلند بن اكرم، وانا من عائلة معروفة
انا لم اقتل احدا، لم اسرق احدا
وبجيبي عشر هويات تشهد لي وبأني. ..
فلماذا؟
ضحكا مني. .. من كل هوياتي العشر
ورأيت يدا تومض في عيني، تسقط ما بين الخيبة. ..
والجبن
بغيابه في “دروب المنفى”، ودعت الثقافة العراقية والعربية المعاصرة، شاعرا بارزا، من رواد حركة التحديث الشعري، وعلى الرغم من سطوة الديكتاتورية وعنفها ومحاولتها طمس الذاكرة الحية لشعبنا، واسقاطها الغاشم لرموز الثقافة الوطنية العراقية ومنها بلند الحيدري، من حركة التداول الثقافي والدراسي، غير انها لن تستطيع طمس تلك المعالم الحية التي سيضمها تراب العراق وفضاؤه الرحيب، وستتعرف اليها الاجيال اللاحقة، مستذكرة فيها تلك الروح المبدعة التي ارتبطت بمعنى العراق وتطلعاته نحو حياة لا تفجعها الحروب ولا الجوع ولا المرض.
يا كلكم
يا غيبة الحاضرين
يا انتم المارُون كل لحظة ببيتي المنكفيء
الاضواء
والحاملون ليلي الثقيل في صمتكم المرائي
انا. .. هنا. .. أموت من سنين
أزحف من سنين
خيطا من الدماء، بين الجراح والسكين
· نشرت في صحيفة”بغداد” العراقية الاسبوعية الصادرة في لندن

اقرأ ايضا

بلند الحيدري. . إيحاء المفتتحات القصدي

ريسان الخزعلي(1)بلند الحيدري، القطب الرابع في حركة تجديد الشعر العراقي والعربي في أربعينيات القرن الماضي، …