مصطفى جواد تداهمه الحرب العالمية في باريس

حسين محمّد عجيل
خلال العقد الذي أمضاه مصطفى جواد معلّماً فمدرّساً، بعد أن نشر عشرات المقالات والأبحاث والقصائد في أبرز الصحف والمجلّات العراقيّة والعربيّة، وأخذت تصدر أولى تحقيقاته لكتب التراث، حتّى اختير ضمن المبتعثين إلى جامعة السوريون في باريس لدراسة التاريخ، وكانت القاهرة، تلك المدينة الحافلة بالأسماء اللّامعة في الثقافة العربيّة، التي وصلها في أيلول 1933واختلط بكبار أدبائها وشعرائها وعلمائها لنحو عام، محطّته الأولى لتعلّم اللّغة الفرنسيّة التي عشقها “منذ أن كان يرى طلّاب المدرسة الجعفريّة يدرسونها على رؤوف القطّان، فتأتي على أفواههم حلوةً عذْبةً، كان يسيل لعابه لها، كما لو كانت أكلةً شهيّةً لذيذة”، كما يقول صديقه جعفر الخليلي.
في السوربون
في مطلع تشرين الأوّل 1934 وصل إلى باريس، وبعد يومين من وصوله كتب لصديقه وأستاذه أنستاس الكرمليّ واصفاً حاله، قائلاً: “ضاقت عليّ الدنيا على سعة باريس، ولا سيما أنّي أجهل كلّ شيء فيها… قضيتُ يوماً أو بعضَ يوم في باريس والدنيا مسودّة في عيني، لا أعرف أحداً، ولا أرشدُ أمراً، ولا أهتدي طريقا”.
لكنّه ما لبث أن اهتدى إلى الطريق الذي أوصله للمجد، وأخذ نفسه بالشدّة حتى تعلّم الفرنسيّة، وبلغ منه ذلك أنّه كتب إلى الكرملي في شباط 1935? يقول: “والله لو استطعتُ استعارة عشرةَ أدمغةٍ وعشرين عيناً، أو استئجارهن للركض إلى هذه اللغة لفعلتُ! فهذا الدماغ الصغير يكلُّ، وكلٌ من العينين تملُّ، فلا حَوْل ولا قوة إلا بالله عليه توكلتُ وإليه أُنيب.!”.
وفي غمرة تمتّعه بفرصة ذهبيّة للدّراسة بجامعة السّوربون، لم تكن تخطر له على بال في سنوات كدحه الطّويل، استهلّ مقالةً له نشرها بمجلّة بغداديّة في شباط 1938? بهذه العبارات المستوحاة من تجربته الشّخصيّة: “سعادةُ البلاد وطُمأنينةُ أهلها باعثان على نشر العلم واقتباسه، وعدمُهما يؤدّي إلى العكس. وهذا الأمرُ واضحٌ في الأفراد كوضوحه في الأمّة جمعاء، فكم من الموهوبين الأذكياء الذين حُرموا العلمَ، وحُرمَ هو ذكاءَهم، قد ضاعت مَلَكاتُهم، ولم تربح الإنسانيّةُ منهم شيئاً مذكوراً، لانصرافهم بكلّيّتهم إلى دفع الشّقاء أو مقاومة الضُّرّ والفقر”. ولا شكّ عندي في أنّه كان يعني نفسه بكلامه هذا عن الموهوبين، الذين تتأرجح فرصُهم بحسب حالة البلاد ومدى رعاية القائمين على الحكم لهم، فتمثّلتْ له، هناك في مدينة النّور، سيرةُ كفاحه المضنية، وصراعه مع الفقر والحرمان في بغداد ودلتاوة، وإصراره على التّعلّم، حتّى تهيّأت له الظّروف الموضوعيّة فتوّجت مساعيه الذّاتيّة..
وساعده أستاذه في السوربون المستشرق الشهير لويس ماسنيون، في إنهاء خطوات مرحلة الإعداد للدّكتوراه، واختار موضوعاً تاريخيّاً هو “سياسة الدّولة العبّاسيّة في أواخر عصورها”، فأكملها سنة 1939? وطبعها، وإذ هو في طور انتظار مناقشتها، للحصول على اللّقب الأكاديميّ الكبير رسميّاً، وقعت الواقعة التي لم تكن تخطر له على بال.
الحرب العالميّة الثانية
الزمان: 3 سبتمبر 1939
المكان: باريس/ جامعة السوربون.
الحدث: فرنسا وبريطانيا تعلنان الحرب على ألمانيا.
فاجأ الزعيم النازيّ هتلر، العالمَ بشنّ حرب خاطفة في أوربا، منتهكاً شروط استسلام ألمانيا المذلّة للحلفاء، فأعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا، وتغيّر كلّ شيء في فرنسا والعالم كلّه منذ ذلك اليوم.
وشهد مصطفى جواد أوّل غارة جويّة ألمانيّة على باريس، وقال عن هذه التّجربة: “كنتُ بباريس في أثناء أوّل غارة للطّيّارات الألمانيّة على فرنسا في الحرب الكبرى الأخيرة، فسمعنا أنا وأصحاب الدّار التي أقيم فيها إذ ذاك (أبواب الإنذار) المألوفة في مثل هذه الغارة، وكان اللّيل في آخر هزيع منه، فنزلنا إلى سرداب الدّار..”.
وبالنظر لبدء هجوم الألمان على الأراضي الفرنسيّة لاحتلال باريس، قرّرت وزارة المعارف العراقيّة يوم 6 تشرين الثاني 1939 إعادة بعثتها من باريس، فلملمَ مصطفى جواد كتبه وأوراقه على عجل، وعاد إلى بغداد قبل مناقشته رسالة الدّكتوراه. وقال موثّقاً تلك الأيّام العصيبة في سيرته الذّاتيّة: “ولمّا رأينا أنّ هجوم الألمان الجويّ قد بدأ، ايقنّا أنّ الحرب ستطول، وأنّ البقاء في فرنسا جدّ خطر وسيّء العاقبة. فعدتُ الى العراق بالقطار.”.
بيدر باريس الكبير
خيبة الأمل كانت مؤلمة ولا شكّ، بعد أن حرمته الحرب الثانية من العودة إلى بغداد متوّجاً باللّقب العلميّ الكبير، الذي أخذ منه كدح خمس سنوات. ويقول صديقه مير بصري عن ظروف عودته العسيرة: “ولما جاء إلى بغداد، لم تعترف وزارةُ المعارف بشهادته، وظلّ يراجع أشهراً محتجّاً بالظّروف الاستثنائيّة التي حالت دون مناقشة أطروحته، وحرمته من إعلان حصوله على الدّكتوراه رسميّاً”. وازداد الأمر سوءاً حين خاب مسعاه في الحصول على وظيفة. وقال واصفاً حاله تلك: “وصلتُ الى بغداد، وبقيتُ أشهراً من غير تعيين”.
لكنّ هذه الأجواء المكهربة والمحبطة التي وجد نفسه فيها، لم توقف تطلّعاته لشغل دوره الثقافيّ، الذي أعدّ العدّة له منذ كان في دار المعلّمين الابتدائيّة، وحفّزه ترحيب كبرى محافل القاهرة بثراء إسهاماته الأدبيّة والثقافيّة، وما أضافته إليه باريس من تجربة ثقافيّة وحياتيّة مكتنزة، وتمكّنٍ من لغة عالميّة، وصلات عميقة بشخصيّات فكريّة لها مكانتها، وما حازه في السوربون من ذخيرة معرفيّة ومن مناهج البحث الحديثة، التي كان بأمسّ الحاجة إليها، على أن يعيد حساباته ويراجع ما حقّقه من مكاسب، فتراءت له واضحةً ضخامة البيدر الكبير الذي جناه من السوربون برغم لعنة الحرب، وإنّ اللّقب العلميّ كان قد تحقّق حين شهد له أساتذته بالتفوّق في سنواته الخمس، وبعد اطلاعهم على أطروحة الدكتوراه المنجزة والمطبوعة، وما هي إلّا أن يكتب أستاذه لويس ماسنيون رسالة بهذا الفحوى إلى وزارة المعارف العراقيّة، كي تنهي جدلها معه، وهذا ما كان، “فقبل الوزير صالح جبر عذرَه أخيراً، وأوعز بتعييّنه للتّدريس في دار المعلِّمين العالية في الدّرجة التي تؤهله لها الشّهادة”، كما يقول مير بصري. فصار الركن الركين في هذه الدار التي خرّجت أعظم مثقفي العراق وأدبائه، وأجيالاً من الكفاءات العلميّة.
السطوع الاستثنائيّ.
وما هي إلا سنوات قليلة تلت الحرب العالميّة الثانية، حتّى أخذ اسم الدكتور مصطفى جواد يسطع على نحو استثنائيّ، في حقول عديدة يصعب جمعها والبروز فيها كلّها، فكان لغويّاً فذّاً مشهوداً له بالبراعة والاجتهاد من مجامع اللّغة العربيّة الثلاثة في بغداد ودمشق والقاهرة، وإن لم يضمّه الأخير في عضويته، ومرجعاً في اللّغة العربيّة وآدابها وفنونها في عصورها المتلاحقة، وكان مؤرّخاً كبيراً صنع مكانته وعزّزها بعصاميّة ومجهود عظيم، وكان خَططيّاً اختصّ بمدينته بغداد، وصنّف أعمالاً معمّقة لا يمكن للمشتغلين في خَطط هذه المدينة التّاريخيّة تجاوزها، وكان معلّماً وأستاذاً أكاديميّاً ألهم طوال 45 عاماً، أجيالاً من المبدعين والكتّاب والباحثين واللّغويّين والمؤرّخين والتّربويّين والمشتغلين في عوالم الثّقافة والفنّ والأدب والإعلام، وكان محقّقاً للتّراث العربيّ الإسلاميّ، بل من مؤسّسي المدرسة العراقيّة في هذا الفنّ، ومثّل بأعماله المتنوّعة- تحقيقاً، وبحثاً في عالم المخطوطات، ونقداً لأعمال غيره- ذروة ما وصلت إليه من حرفيّة ودقّة واجتهاد، وكان رائداً في مجال الإعلام الثّقافيّ في العراق، ما زال صدى الأعمال التي قدّمها للإذاعة والتّلفزيون قويّاً حتّى في أوساط غير المتعلّمين.. وكان هذا السطوع الاستثنائيّ المتعدّد الأوجه والآفاق، أقوى من أن يحجبه دخان حربين كونيتين رجّتا العالم كلـّه.
وبعد رحلة الكفاح المضنية هذه، وحين أغمض مصطفى جواد عينيه إغماضة الموت الأخيرة في مساء مثل هذا اليوم من سنة 1969 بيد النّحات محمّد غني حكمت وهو يصنع له قناع الوجه الجبسيّ لتخليده، ظلّت عيون ملايين العراقيّين الذين تتلمذوا على يديه في المدارس والجامعات وعبر الأثير، وغرس فيهم الوعيّ بقيمة حضارتهم وثراء لغتهم والتباسات تاريخهم- مفتوحةً على أقصاها، وإن غالبتها دموع حزن سخيّة.
من بحث (الدكتور مصطفى جواد.. المنتصر في حربين عالميّتين ).

اقرأ ايضا

(كأنها تل من الذهب..) كيف رأى الرحالة الغربيون مدينة النجف الأشرف؟

محمد يسريتقع مدينة النجف في الجزء الجنوبي الغربي من وسط العراق. وتشغل أهمية كبرى في …