رفعة عبد الرزاق محمد
الحديث عن الاستاذ الفاضل هشام المدفعي، المهندس الاستشاري القدير والشخصية الاجتماعية المرموقة، حديث ماتع وطويل، وقد اتصلت به في السنوات الاخيرة وتوثقت تلك الصلة على النحو الذي ساذكره في السطور التالية. وقبل كل شيء يعترف كاتب هذه السطور بان المزيد من معرفته باحوال العراق وتاريخه القريب جاء عن طريق من اتصل بهم من الافاضل،
والاستاذ المدفعي في مقدمة هؤلاء، وعلى الاقل معرفته بالواقع المعماري والانشائي والفني الحديث، اذ يمتلك المدفعي خزينا كبيرا من المعلومات والذكريات الجميلة عنها.. غير اني ساختار الحديث عن مشروع مذكراته الكبيرة التي شاركت في تحريرها،والتذكير باسرته واعلامها.
اما كيف اختارني المدفعي لانجاز مذكراته فاذكر ان من محاسن الايام ــ وما اقلها ــ ان يعر ض علي فقيد العلم والادب الاستاذ سالم الالوسي دعوة لحفلة رأس السنة في بيت الاستاذ المهندس هشام المدفعي بطلب من المدفعي نفسه، لبيت الدعوة الكريمة التي استمرت الى ساعة متأخرة، واغلب ماجرى الحديث عنه في تلك الجلسة، كان موضوع الاثار العراقية بسبب وجود السيدة لمياء الكيلاني الخبيرة الاثارية الكبيرة التي كانت بزيارة لبلدها العراق، فضلا عن وجود الاستاذ سالم الالوسي المؤرخ والاثاري المعروف. وفيها اسرني الاستاذ المدفعي بنيته لاصدار مذكراته، وان الاستاذ الالوسي اختارني للتعاون معه ــ مع المدفعي ــ في هذا المشروع.
شرعت اولا بقراءة كل ما كتبه المدفعي من اوراق وجذاذات ووجهت له العديد من الاسئلة والاستفسارات عن احداث واسماء معينة للوقوف على طبيعة المعلومات واهميتها.وبدأت بتحرير المذكرات وتنصيصها و تنضيدها واضافة او حذف ما يمكن.واستمر العمل نحو ثلاث سنوات تخللتها فترات عديدة من الانقطاع لشتى الاسباب، حتى اكتملت المذكرات بشكل اولي، ثم تمت قراءتها لاكثر مرة لاغراض الاستدراك والتصحيح. حتى انتهى العمل وصدرت المذكرات بهذه الحلة البهية. واقول بلا مبالغة انها من اهم ما صدر من ادب المذكرات في السنوات الاخيرة لاحتجانها الكثير من اسرار الحياة العامة في العراق التي لم تسجل من قبل، بل انها احتوت على احداث كان المدفعي قد تكتم عليها لسنوات كثيرة، ولم يود فتح الجروح القديمة، لكنه عاد واستدرك بان المسؤولية التاريخية والاخلاقية تحتم ان يفصل الحديث ويكشف اسرار تلك الوقائع، بعد ان اشار البعض اليها بشكل مغاير للحقيقة.. اعني هنا قضية اعتقاله ومحاكمته وصدور حكم الاعدام عليه لوشاية كاذبة وانتقام شخصي، ثم اطلاق سراحه وزجه بمشاريع هندسية جديدة.
ادركت منذ البداية ان الاستاذ المدفعي يتمتع بمزايا طيبة عديدة، منها دقة المواعيد في كل مفاصل حياته، وصدق الحديث في كل ما يروي من احداث، ومعرفته الواسعة باحوال العراق وشخصيات تاريخه من رؤساء وزعماء ووزراء ومختلف شخصيات الحياة العامة. ويذكر مذكراته مع هذه الشخصيات بلا تبجح او نقد شديد او هجوم شخصي. يذكر الوقائع بما جرت تماما بالطف العبارات وادقها، مؤمنا بأن الكثير من احاديثه ومرواياته اصبحت ملكا للتاريخ وتجردت من حساسياتها التاريخية.
وسرعان ما توطدت صلتي بالمدفعي، وكثرت لقاءاتي معه حتى اصبحت اسبوعية منتظمة، وزادها استجابته الكريمة للمشاركة في فعاليات بيت المدى في شارع المتنبي الذي اعتاد اقامة جلسات عن شخصيات عراقية اسهمت بالبناء الفكري لبلدنا يشارك فيها من له صلة بتلك الشخصيات. كما اصبح الاستاذ المدفعي من الشخصيات القريبة من (المدى) المؤسسة الثقافية التي اعمل فيها.. فضلا عن رفقتنا بحضور عدد من المنتديات الثقافية في بغداد.
استمدت الاسرة لقبها المدفعي من الصنف العسكري الذي عرف به مؤسس الاسرة ببغداد علي اغا الذي يعود الى الى اصول كردية، فهو من قبيلة دزئي الشهيرة في اربيل وانحائها، وقيل انها نزحت من قرية (دزئي) في كردستان ايران قبل قرون. بعد ان نقل لأسباب عسكرية، استقر ضابط المدفعية علي محمد اغا دزئي في بغداد، في محلة الفضل، وتكونت له علاقات طيبة مع اهالي المنطقة، ولاسيما اسرة احد الضباط من اولاد الحاج حبيب العزي الذي ينتمي الى عشائر عربية عريقة, فتزوج ابنته (بزمي عالم)، وولدت له اربعة اولاد وبنت واحدة، كان اكبرهم محمد امين زكي، محمد صالح علي، ثم حسن علي، زكي علي، وامينة التي تزوجت من محمود رامز، الشخصية السياسية المعروفة في العهد الملكي.
لايعرف المدفعي طيلة مسيرته شيئا من قيم الطائفية والعرقية او ما يسمى بـ (المناطقية)، ويؤمن ايمانا عميقا ان الانسان بما يقدمه من خدمة للاخرين، يقول في مقدمة مذكراته :
نشأت في أسرة عراقية بغدادية عريقة، لقبت بأسرة المدفعي، اذ كان جدي ومن بعده والدي من ضباط صنف المدفعية في الجيش العثماني في الهزيع الاخير من العهد العثماني في العراق. وكنت أعرف ان جدي من أصول كردية، وان زوجته من أصول عربية، غير اني لم ادرك في نشأتي فوارق بين تلك الاصول التي يعج بها المجتمع العراقي منذ قرون طويلة. كما لم اجد في أسرتي من يتحدث عن ذلك إلاّفي لحظات قصيرة وبصورة عرضية ليس الا، فقد كان الانتماء الى الموطن هو الغالب على جميع الانتماءات الاخرى، فلا حديث عن عنصر او طائفة او مذهب الا لماما، ثم عرفنا تلك الامور بعد توسع المعرفة الذاتية. اما ما قيل عن انقسام واضح وحاد في المجتمع العراقي، فليس موجودا إلا في أذهان من تاجر بهذه الفوارق وجعلها معابر الوصول لأهداف سياسية او شخصية. واود ان اؤكد ان تاريخ العراق الحديث، وقد ادركنا منه بعض مراحله الاخيرة، لم يعرف حزبا اوكتلة اوحركة سياسية رفعت شعارات خاصة بمذهب محدد الا في السنين الاخيرة، بعد ما ارتفع نجم مايسمى بالإسلام السياسي، وبدعم غير خاف من دول جوار العراق. ولم نعرف من الاحزاب الا ماهو عراقي، ولم نعرف احزاب الطوائف التي مزقت البلاد وشتتت العباد! لقد عشنا وترعرعنا في مجتمع متعدد القوميات والمذاهب والنزعات، وذلك من طبيعة الاشياء في بلد شهد حضارات متعددة على مدى تاريخه الطويل، وشهد من عهود الاحتلال الاجنبي في القرون المتأخرةفترات طويلة، ولعل في بقاء مقدسات ومعالم القوميات والمذاهب جنبا الى جنب في مدن العراق الكبيرة على مدى التاريخ، الدليل الثابت على ما أذكره في هذه المقدمة. ولم يكن هذا الامر محصورا بأسرٍ محددة، بل كان الغالب في معظم أسر المدن الرئيسة في العراق، لقد كانت عملية المصاهرة بين مكونات العراق الاجتماعية، ظاهرة اصيلة وثابتة، جديرة بالتنويه والاعجاب، لم يستطع ملوك الطائفية المقيتة والقومية المتعصبة، الطارئون على المجتمع العراقي، تشويه هذه الحقيقة الرائعة.
اقرأ ايضا
(كأنها تل من الذهب..) كيف رأى الرحالة الغربيون مدينة النجف الأشرف؟
محمد يسريتقع مدينة النجف في الجزء الجنوبي الغربي من وسط العراق. وتشغل أهمية كبرى في …