ذكرى العظماء تبقى للأبد.. وداعاً البابا فرنسيس

لويس إقليمس
للبابا فرنسيس مواقف إنسانية كثيرة وآراء إصلاحية في مواجهة تحديات كبيرة ومتعددة سواءً في دهاليز الدوائر الفاتيكانية أو في كنائس تابعة للكرسي الرسولي في جميع انحاء الكرة الأرضية. ولعلَّ ما اتسمَ به عهدُه الحبري، تأكيده ورعايتَه لأشكال الحوار بين زعامات الأديان والمذاهب والرئاسات الدنيوية ودعوتهم لعدم الخروج عن دارة الإنسانية والأخوّة التي وضعَ البابا الراحل أسسَها ووقّعها باحرفٍ من نور مع شيخ الأزهر “أحمد الطيّب” في “وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالميّ والعيش المشترك يوم 4 شباط 2019 في ابو ظبي. وبهذه الوثيقة يكون البابا الراحل “فرنسيس”، قد حوّلَ المسيحية إلى ايقونة تفتخرُ بها شعوب الأرض بعد أن فتحت الأبواب أمام زعامات الأديان والأمم والشعوب للاقتداء بهاتين الشخصيتين العالميتين اللتين أرستا أسس الحوار والتفاهم بين الشعوب والأديان والأمم. وقد أكملها فيما بعد بلقائه التاريخي مع المرجع الشيعي العراقي السيد “علي السستاني” في آذار 2021، تأكيدًا لنهجه في مصالحة ومصارحة الكلّ من أجل ربح الكلّ إلى وليمة الرب الإله خالق السماء والأرض والعناصر وما فيها وما عليها من بشر من أحبابه ومن حجر وماء من بركاته. وبهذه الوثيقة التاريخية دعا شعوب العالم أجمع وزعامات الحكومات والدول إلى ترسيخ مبادئ الإنسانية والتفاهم والسلام وحثهم جميعًا على إنهاء أشكال الصراع والقتال بسبب المادة والنفوذ والسلطة وكذا بسبب الاختلاف في الفكر والرأي والدين والمذهب والعرق واللون. وتأكيدًا على هذا النهج الإنسانيّ الراقي، يرى الكثيرون أنّ البابا فرنسيس الذي كسبَ شعبيتَه من آرائه وأفكاره الجريئة الواضحة، قد جعلَ من المسيحية آيةً عالمية بسبب مواقفه التصحيحية الإصلاحية وخطواته الإنسانية وإجراءاته الكنسية المنفتحة على العالم المعاصر. إزاء كلّ الآراء التي أجمعت على عظمة هذه الشخصية العالمية والروحية والإنسانية التي أسرتْ وشغلتْ ألبابَ قادة روحيين مهمّين وساسة وزعماء دول لم يتوانى طيلة حياته في انتقادهم وفي اعتراضه الصارخ على ظلمهم وتقصيرهم ضدّ شعوبهم بفعل فسادهم والإيغال في شرورهم ولصوصيتهم ونهب أموال وثروات شعوبهم وبلدانهم، قد يطلعُ نفرٌ ضالٌّ يسعى لخرق ونسف كلّ قواعد الإنسانية والطيبة والمحبة والتواضع والفقر والزهد التي حملها وعاشها البابا “فرنسيس” طيلة فترة حبريته، بل وما قبلها. فمن المشين أن يختلف نفرٌ شاذٌ من شيوخ وأمراء الفتن ونحن في الألفية الثالثة بما فيها من تطوّر وتقدّم وانفتاح فكري وإيماني ولاهوتي ومجتمعي وعلمي، وغيرهم ممّن أعماهم الحقد والكراهية والتطرّف في مسألة جواز الترحم عليه أم لا، رغم أنّ العالم بأسره قد بكاه وتأسفت شعوبٌ لفراقه ونعته حكومات ودول ومنظمات ونُكست أعلام ودُقّت أجراس حزنًا على رحيله الأبدي. أمّا الموت، فهو سنّة الحياة لجميع خلق الله.
فكيف يقبل بأشكال هذا الشذوذ البشري مَن شهدَ له بالإنسانية والرحمة والرأفة من جموع المظلومين والتائهين والمطرودين والشاردين من بلدانهم وزعاماتهم ولا يخجلُ من نفسه.
ولعلَّ من دواعي فخر العالم المعاصر، تلك الصرخات المتكرّرة القاسية بوجه الظلم والتنديد بأدوات القتل ووسائل التهجير المتعددة التي تسببت باشتداد الحروب وقيام الفتن في مناطق عديدة من العالم، ومنها نداءاتُه المتكرّرة ضدّ ما تعرّضَ له شعبُ فلسطين في أرضه ووطنه وفي غزّة بالذات، وما اكتوى به الشعبان الروسيّ والأوكراني بسبب عناد زعامات البلدين ووقوف بلدان متفرجة ومحرِّضة مع أو ضدّ هذا البلد أو ذاك في تأجيجٍ مقيت للحرب الضروس بين الطرفين.
محطة العراق، دار استراحة
في العراق كانت اللهفة كبيرة يوم زيارته التاريخية الميمونة للفترة من 5-8 آذار 2021، لأسباب تختلف في الأمنيات والأهداف والنتائج. فرحت به كنيسةُ العراق بمجملها لكونها كنيسة متألمة وصابرة كانت بحاجة ماسّة إلى لمسات عطف وتشجيع وحثٍّ للتشبّث بأرض الآباء والأجداد. كان أتباع كنيسة العراق بحاجة لهذا الترياق الضروري في هذه الحقبة الزمنية بالذات بعد تواتر مسيرات الهجرة إلى دول الاغتراب وتحديدًا لاتساعها أملاً بإكمال مسيرة أولئك الجبابرة الطيبين من محبّي الأرض والوطن والكنيسة الصامدة عبر الأزمنة والأوقات بالرغم من كلّ الظروف القاسية، ولاسيّما ما عانته مناطقهم التقليدية في سهل نينوى من ملابسات التخلّي عنهم وعن وجودهم باستقدام الجماعات الإرهابية التي تفنّنت بتهجيرهم ومحاولة قلعهم من جذورهم ومناطق سكناهم ومن كنائسهم بفعل فاعل. وكان لافتًا للنظر تعلّق جماعات عديدة من الشعب العراقي من غير المسيحيين أيضًا وملاحظة زيادة لهفتهم للقائه أو لسماع ومشاهدة تفاصيل لقاءاته مع مختلف رعايا وكنائس ورجال دين وسياسة مسيحيين ومسلمين ومن طوائف أخرى تشكّلُ أصالةَ الشعب العراقي المتعايش تاريخيًا وحضاريًا واجتماعيًا. حيّاه عموم الشعب، حتى مَن لمْ يكن يعرفُه قد أحبَّه وتمنى تجدّدَ زيارته، ربما لا محبةً به بل أملاً في خدمات واهتمام أفضل هنا وهناك، وفي إصلاح وإعمار مناطق سكناهم وتعبيد شوارع وطرق يسلكُها موكبُه السلطاني، وهو الضيف الكبير لعراق الحضارة والأصالة والتعايش السلمي منذ الأزل.
حقًا، سجلت زيارتُه التاريخية إلى العراق مسارًا روحيًا وإنسانيًا ومحطةَ تقييمٍ وتقويمٍ للمسيحية والإنسانية في هذا البلد، بعد الذي جرى من انتهاكات وأعمال عنف بشعة وتهميشٍ وتهديدٍ وقتلٍ بحق المسيحيين لغاية تهجيرهم في 2014م على أيدي جماعات إرهابية متشدّدة وبتواطؤٍ مقيتٍ مع كيانات وجماعات وزعامات أحزاب طائفية حاكمة وبوسائل ممنهجة بغية ترهيبهم وحملهم مرغمين على ترك أرض الاباء والأجداد لصالح دولٍ وأطرافٍ استغلالية منتفعة من تلك الفعلة الهمجية الشرسة. فيما أضفتْ زيارتُه التاريخية لمدينة “أور” مسقط رأس سيدنا “إبراهيم الخليل” وترؤسه الصلاة على أرضها أنهارًا صافية وثمارًا حسنة بين أبناء الوطن الواحد من أجل رفعة الإنسان والإنسانية. ولم ينسى الموصل، المدينة الجريحة المتألمة متمثلة بزيارة حوش البيعة وما تشكلُه هذه الالتفاتة الأبوية لكنائسها التي تدنّست بفعل الإجرام الداعشي. وجاءت اللحظات الحاسمة الحارة عندما استقبلته حشود بلدة بغديدا/ قرقوش في سهل نينوى عن بكرة أبيها، حيث يوجد أكبر تجمّع لمسيحيي المدينة النينوية والعراق قاطبة، مختتمًا الزيارة بعدها على أرض كردستان، الواحة الخضراء الهادئة والأرض المضيافة لكلّ مَن ضاقت بهم السبل وقلّ بهم الأمان ضمانًا لحياة أفضل، فيتفيّأ بها كلُّ مَن يشعر بضيق النفس والجسد والفكر والتعبير. وكم كانت فرحتي كبيرة على صعيدٍ شخصيّ يوم سلّمتُه رسالةً وطنية خاصة في مستهلّ زيارته إلى كاتدرائية سيدة النجاة للسريان الكاثوليك في بغداد، سردتُ فيها ما جاشَ في بواطني من ألم وحسرة على حال العراق. وقد استلمتُ ردّا لها بتوقيع أمين سرّ دولة الفاتيكان، الكاردينال “بييترو بارولين”، المرشح الأوفر لخلافة البابا فرنسيس، والذي أعلمني فيها أنّ قداستَه على دراية تامة ومعرفة وافية بكلّ ما جرى ويجري في العراق!
غادرنا البابا فرنسيس تاركًا فينا رسالة سلام ومحبة وأمل ورجاء في سنة الرجاء التي أعلنها. فهو كان بحق صوتًا نابضًا للحق والعدالة والسلام والرجاء والتسامح والمحبة والتواضع. رحم الله الحبر الأعظم البابا “فرنسيس” وهو في أيدي الآب السماوي. فذكراهُ تدومُ للأبد لأنه من العظماء!