عناد غزوان أيها المحب الأعزل

د.محمد رضا مبارك

لم يكن زمنك إلا كزمن الأسطورة كلما حاولت الإمساك به، يضيع منك، يرحل إلى حيث الإفضاء لقد سكنت المأساة الأساطير وكانت لصيقة عهد عشته ملياً، وفارقته مكرهاً وان اخترت الموت على حياة اقل ما يقال فيها ندرة الناصر وانزواء العالم وجولة الجاهل… لم تكن إلا شاهداً أخيراً على عالم، اختلطت فوضاه بنظامه، واختلط علماؤه بجهالة وعقلاؤه بسفهائه… عالم يريد أن يخرج من قمقم الظلام فلا يرى من الضياء إلا ذبالى لما تزل ملتصقة بعمق الظلام ولونه الكابي.. حسنا… فلقد جربت صديقاً لم تر من صداقته غير الصدود…. وزميلاً لا يحسن إلا الاجتهاد على نفيك والإقلال من شأنك، ومحايداً لا يدافع عن الحق إلا حين تمس أطراف ثوبه… وتمالكت في زمن التدافع على المنافع، زمن القتل المأجور والنفي العبثي… وأصبحت رئيساً لاتحاد الأدباء، هؤلاء الذين أدمنوا غربتهم وعلمتهم الأيام إلا يكونوا انقياء تماماً كالورد، ولا طلقاء تماماً كالجمال ولا أسوياء تماما كالحق، تعبت كما لم ترتح يوماً….

وكنت أظن وأنت الناقد الكبير والأديب أن تختار حياة كالتي اختارها الناقد (ماثيسن) المولع بأدب (اليوت) فالنقاد آخر ما يفعلونه ويفكرون به أن يطلقوا النار على أنفسهم كما فعل (ماثيسن) ومات ميتةً هادئة، وهو يخطو في سني شبابه الغارب. اعرف انك سوف تختار موتاً على حياة أهم صفاتها إنها موغلة في العبث والجنون وان الأقدار تلهو كما تلهو ريح بغبار الطلع، وأنت الطالع من ارض الجنوب، تلك التي ادلهم فيها الضياء واغتربت فيها خيوط السماء لعقود وعقود، (الديوانية) لم يذكرها احد، حتى وهي تتهيئ لتقديم كل ما لديها، ارض خضراء وافق يجلله أمل بان أجمل الأشياء هي التي ولم تأت بعد… لو سرت فيها لأدركت كم هو ثمين ذلك الزمان السائب الذي ترك مدناً تخرج من التاريخ والحاضر بل تخرج حتى من نفسها وإذ يفكر الناس في أرجاء الأرض كيف يبني المستقبل وكيف الانتقال إلى زمن الرفاهية كنت ترى (الديوانية) أنموذجاً للعبث الفوضوي الدامي مع نماذج أخرى لا تليق بالذين اخذوا على حين غرة فقضوا عقوداً في تيه وهم لم يغادروا قط ولم يسافروا قط.. أقاموا وهم مرتحلون، وحين أفاقوا ما عرفوا انهار تجللهم أم ليل فهم لكثرة ما التفتوا إلى الوراء ما شعروا أن النظر إلى الأمام يلزم وقتاً وأملاً وتفاؤلاً.. وحين كنت تلقي محاضراتك في الجامعة علمت وأنت الأستاذ القدير، أن الجامعة تأخذ ولا تعطي تأخذ وقتاً وجهداً وأعصاباً مشدودة صباح مساء… ومناهج لفرط قدمها تستعصي على التغيير، وهي تطلب في الوقت نفسه سمواً هو ابعد من كل بعيد ومناخاً تنمو فيه الأفكار، وتتجاذب وجهات النظر.. فإذا الفكر واحد، ووجهة النظر واحدة، والرؤية واحدة، فبأي شيء تقاس المناهج، وبأي شيء تقاس المعارف؟ والناس موكلون بالشهادات ومنها كان الناقد الكبير علي جواد الطاهر يزري بالباحث عن ورقة… وجلنا يبحث عن أوراق.. وحين أدركت أن المشكلة هي في أصالة الفكر، وحداثة المنهج وجدية الباحث، وجدت أن الشوط ربما فات أو كاد… وان الباحثين عن أوراق أكثر من أن يحصوا فلا التعليم الجامعي طوال سنوات كان مجدياً، أما التعليم في الدراسات العليا فهو تسجيل لوقائع أكثر من تأسيس لأفكار جديدة في الفن والأدب والتاريخ.

ولما سارت الأمور سيراً حثيثاً نحو الضعف وجدت بعين القارئ الثابتة إننا نعيش ترسبات عصور الانحطاط، ولابد قد أدركت أن أبا حيان التوحيدي (أنموذجك في الكتابة) كان ناقماً على أدباء عصره والقائمين عليه، فاحرق كتبه احتجاجا على عصر أصم وربما وجدت في احتجاجه طريقة للتعبير عن العصور التي لا تسمع والأقدار التي لا ترد، والناس الذين لا يصغون… وحين طلع بك زمانك الأخير، تحققت من قراءتك فالقراءات السابقة كانت عوناً على القراءة الأخيرة والنص هذه المرة هو المجتمع بأدبائه ومتعلميه ومثقفيه، وهو أيضاً بالكثرة الكاثرة من البنية التحتية، هذه التي انقطع عنها بالكامل الرابط بالبنية الفوقية، باصطلاحات الفكر الماركسي أو حتى بمصطلح نوام شومسكي… وربما أدركت أن البناء والبنية لا تصلح للإطلاق على مجتمعنا وواقعنا.. فالبناء والبنية تعني الهيكل وتوحي بالتماسك والقوة والنظام.. فأين هذه المفاهيم من بنياتنا العليا والدنيا!؟ أين المؤثر والمتأثر والقارئ والمقروء؟ أيقنت وأنت الرئيس المنتخب لاتحاد الأدباء والكتاب، إن هيئة الطاووس تلبست الجميع وان الثقافة الحقة عن الكثيرين هي الحذلقات اللفظية والرطانة بالمصطلحات… وحين عرفت أن الناس مولعون (بالإشاعة) ينقلونها ويؤمنون بها إيمان الحقيقة.. أدركت: كم تضاءلت الجامعات حين سطحت اطر التفكير وكم أهدر الأدباء، حين توهموا أن أحداً ما غيرهم يقرأ ما يكتبون.

لكل ذلك لا املك إلا أن أقول: لقد تأملت كثيراً وأنت تقرأ (ماثيسون) لماذا ينتحر الأدباء، بل لماذا ينتحر النقاد ولئن بقيت صلداً في مواجهة ما يأتي وما لا يأتي، فلا جذوة الداخل تظل منتقدة لتجمعك في الأخير، عند مسار واحد مع صاحب الموروث والتجربة الفردية.

اقرأ ايضا

عناد غزوان.. بعيداً عن تعنيف النصوص

د. علي ياسين بما أن النقد الأدبي نشاط ذهني يأتي لاحقا للعملية الإبداعية، فهو يدأب …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *