ذكريات الصفحة الأولى

د.عدنان حسين العوادي

تبدأ الصفحة الأولى هذه عام 1963 حين عاد الدكتور عناد غزوان إلى الكلية التي درس وتخرج فيها قبل اقل من عقد، وهي يوم ذاك (دار المعلمين العالية) عاد ليعمل هذه المرة (أستاذاً) فيها، بعد أن أكمل دراسته العليا في انكلترا، وبعد أن صارت هي (كلية التربية). فسطور هذه الصفحة التي طويت بعد ثلاثة فصول دراسية لا غير هي إذن، حدائق وقاعات وممرات كلية التربية. أما الذين كتبوا هذه السطور فهم طلبة السنة الثالثة في قسم الآداب، أو فريق منهم، وقد أتيح لهم أن يعرفوا أستاذهم خلال الفصل الدراسي الوحيد الذي درسوه على يديه. أما حين انتقلوا إلى السنة الرابعة فقد كانت علاقتهم بأستاذهم تتوطد خارج نطاق الدرس.

أن ضيق الزمن وضيق المساحة لا يسمحان بتبلور ذكريات خاصة، وما بقى هو ذلك الأثر الذي كان للدكتور عناد غزوان في نفوس طلبته، وهو اثر كبير، لكن حتى هذا الأثر لا يبدو مفهوماً على حقيقته إلا لمن عاش السنوات التي سبقت مجيئه، أو اطلع اطلاعاً وافياً على مجرياتها وما طبعته على أفق الحياة من مخلفات عميقة، وهو ما نرى ضرورة الإلمام به على نحو مناسب.

كان العراق قد شهد منذ تموز 1958 انقلاباً في أوضاعه السياسية والاجتماعية والفكرية، إذ تغير هيكل النظام أو أشخاص الحكم وبعض من آليات العمل، واتخذت إجراءات تمس بنية الاقتصاد والعلاقات السياسية والاجتماعية. وقبل ذلك، كان النزوع إلى (التغيير) قد بلغ مداه الواسع في أوساط الطلبة والمتعلمين خاصةً، حتى غدا أشبه ما يكون بحساسية من نوع ما تنطوي عليها الشخصية العراقية. ورغم ذلك فان كلية التربية التي شملها تغيير الاسم، لم يكن لها أن تخلع عنها الصمت الذي ورثته عن سلفها (دار المعلمين العالية) فالمكان الفسيح المترامي بحدائقه المنسقة، وأبنيته التقليدية الوقور، وأثاثه النظيف والمكتبة العامرة الهادئة ونمط الدراسة المستقر، ظل يضفي عليها مسحة بادية من الطمأنينة والعراقة.

ولك أن تقول ما يشبه هذا عن قسم اللغة العربية، وهو يوم ذاك قسم الآداب، فقد ظل يحتفظ، هو الآخر، بتراثه العريق مصطفى جواد، وكمال إبراهيم وصفاء خلوصي وعبد الرزاق محيي الدين ومحمد سليم النعيمي… وآخرين. لم يذهب منهم إلا من سلبه الموت أو التقاعد ولم تلتحق بهم سوى قلة قليلة ممن في الطور الأول أو قبل ذلك. وعلى هذا المنوال كانت مقررات الدراسة، فالنحو بين الألفية والاشموني وابن هشام، والأدب القديم ونقده بين شرح المعلقات ومؤلفات البصير والمثل السائر، والكتاب القديم بين الامالي والعمدة، والتفسير والحديث بين كشاف الزمخشري ومجازات الشريف. وأما ما عدا ذلك فمحاضرات تلقى على الطلبة، وهم ربما استعانوا عليها بهذا الكتاب أو ذاك. وكانت الدكتورة عاتكة الخزرجي تملي محاضرات الأدب الحديث فتقف بطلبتها عند الجواهري، ودون الشعر الحر من باب أولى. أما نازك الملائكة فكانت تدرس النحو والعروض، ولم يكن الطلبة قد عرفوها من باب أوسع من هذا. ويلتقي الطلبة دروساً أخرى ليست في الصميم من العربية كالانكليزية والفرنسية والتاريخ، ودروساً غيرها تتصل بفن التعليم وما يحتاجه من معارف ومهارات تتكفل بها التربية وعلم النفس.

على ان كلية التربية كانت تشهد نوعاً آخر من النشاط هو أشد إثارة لاهتمام الطلبة من الدروس والمحاضرات المقررة التي ربما اقبل عليها الكثير منهم زاهدين، غايتهم أن يمتحنوا وان ينجحوا، ثم أن ينصرفوا عنها بعد ذاك. وليس هذا النشاط إلا أثراً للنزوع إلى التغيير الذي غدا يشتد ويتسع، فكانت السياسة أوسع ألوانه وأشدها لميول الطلبة وأهوائهم، حتى لقد بدا للكثير منهم أن الشخصية قد لا تكتمل إلا باعتناق مذهب من مذاهب السياسة أو الانتساب إلى حزب من أحزابها.

لقد اجتذبتهم أيما اجتذاب، آفاق العهد الجمهوري الوليد التي انفتحت أمامهم، فقروا فيها آمالهم وأحلامهم وهي توشك أن تتحقق,وبدا لهم وكأنهم انعتقوا من الاضطهاد الذي ظلوا,هم وآباؤهم,يتناسلون في ظلماته قرونا مديدة؛اضطهاد الجسد واضطهاد الروح واضطهاد الرأي,فأقبلوا على تلك الآفاق يعانقونها بلذة واندفاع لأحد لهما.لكن تلك القوى التي ظلت تنزع إلى التغير وتدعوا بحماس إليه,ما لبثت أن ألقت بنفسها في دوامة من الصراع العنيف الأعمى الذي ظل يتفاقم بسرعة حتى بلغ ذروته عام 1963.وخلال تلك الحقبة وما بعدها أتيح لأحط النزعات والأهواء البشرية المريضة أن تعلن عن نفسها,تحت راية القانون,على نحو مروع لم يشهده العراق من قبل.وحتى منتصف الستينيات كان الجميع قد خرج من حلبة الصراع خاسراً,وان تفاوت هول الخسران,وكانت الجراح لما تندمل او ما من احد يستطيع أن يتجاهل آثار الصدمة.

هذا المناخ العاصف الخانق ألقى بظلاله الكئيبة على تلك المباهج الإنسانية الصافية التي تتلون بها حياة الطلبة عادة,خصوصا في تلك الكلية التي كانت قد خصت(الحب) بشارع ظليل وديع ينساب عن يمين حديقتها الكبرى المعروفة ويحاذيها,سمته (بشارع الحب),وربما صار بسبب من ذلك شارع (عبقر) أيضاً.

هذا الشارع يكاد يخلو من أهله الآن. من مزاج الحب والسياسة تخلقت تجربة الشعر العربي الحديث,وفي أحضان دار المعلمين العالية,وفي قسم الآداب أولاً,ترعرع رواد الحداثة قبيل منتصف القرن العشرين.أما الآن, فها هو(السياب) مشلولاً, ينتظر الموت الذي سيزوره نهاية العام,وأما (نازك) فقد صحبت زوجها إلى جامعة البصرة لتخلي كرسيها في الآداب إلى قادم جديد يشغله.

في الفصل الثاني عرف طلبة السنة الثالثة في قسم الآداب أن الدكتور عناد غزوان الذي عاد من انكلترا حديثا,سيدرسهم أدب العصور المتأخرة,وكان صيته قد سبقه إليهم,فاستبشروا فرحا.

كان أستاذهم شخصية منبسطة تماما,لا يتكلف ولا يتعسف,وهو في حركته يتدفق حيوية ولطفا وبشاشة, حتى لكأن الشباب طبع فيه.وهو في صوته القوي النفاذ وعربيته الهادرة يملأ النفوس إعجابا به وانجذابا اليه.كانت الأفكار تجري على لسانه سهلة سلسة,لا تتقطع أوصالها فتتبعثر ولا تزدحم فتتعاظل, وهو إلى ذلك, حاضر الذهن قوي الذاكرة حتى ليحسب كل طالب أن له موقعا منه وحظوة لديه.

وشيئا فشيئا كان يداخل الطلبة شعور غير مألوف بان أستاذهم لم يكن (أستاذ) فقط إنما هو، بعد ذلك، اقرب إلى النفس وأدنى، وان الجدار الموروث الذي يكاد يحجب بين الطلبة وأستاذتهم، والذي ظل قائماً على التهيب والتوقير، وعلى الامتناع عن الإعراب عما في النفس من مشاعر وآراء هذا الجدار كأنه يريد أن ينقض وان يخلي مكانه لطراز آخر من العلاقة عماده الاحترام التلقائي النابع من الثقة والمحبة… انه جدار الحرية أرادته الألباب والأفئدة عوضاً عن الجدار الذي بنته تقاليد الأسلاف، وبقي على الخلف أن يرثه عنهم جيلاً بعد جيل.. كان (عناد غزوان) بهذا المعنى، بشيرا بثقافة غير معهودة فلم يكن يعنيه أن يكون الطالب من هنا أو من هناك، فالطلبة عنده أمة واحدة، إنما يعنيه أن يكون الطالب (طالباً) حقاً، فذلك عنده العلامة الأولى على استعداده للتفتح على فضاء الحرية التي يريدها للجميع، فهؤلاء الطلبة الشباب، على اختلاف مشاربهم، يزخرون بطاقات خلاقة، وينبغي لمناخ الجامعة أن يتيح لهم فرصة التعبير عنها. وهو في ذلك لا ينتحل سمة المبشرين ولا منطق المتفلسفين، فقد كان تلقائياً بطبعه منسجماً مع نفسه، وفي ذلك مكمن جاذبيته وقربه من نفوس طلبته الذين كانوا، على اختلافهم مجتمعين على الإعجاب بأستاذهم مأخوذين به، حتى بلغ بهم هذا الإعجاب أن أصروا على أن يدرسوا على يديه مادة من دروس السنة الرابعة هي (النقد القديم) وكان للقسم رأي آخر، واستقدم محاضراً من كلية أخرى، فأضرب الطلبة عن حضور محاضراته، لولا ما كان من نفوذ رئيس القسم وماله من حصافة ومكانة، فأجابوه وهم غير قانعين.

لم يكن ذلك ليضير بأستاذهم أو يوهن صلتهم به، فقد امتدت تلك الصلة خلال نشاط آخر غير الدرس، لعله أن يكون أقرب إلى ميولهم، أنه الشعر، ومن أولى بالشعر من قسم الآداب؟ وفي الطلبة شعراء أهملتهم السنوات الماضيات، وفيهم من يتطلع إلى صيت الشعر ووجدوا في أستاذهم داعياً متحمساً إلى مهرجان يحتفل بشعرهم فاستجابوا فرحين.

يرى الأستاذ أن الشعر ينبغي أن يعبر عن تجربة الشاعر من غير زيف أو تكلف، وكان هذا مثاراً للخلاف المعهود بين الشعر وبين التقاليد، فمثل هذا الشعر لم يكن ليرضي فريقاً من أساتذة القسم الذين أحفظتهم بعض قصائده، لأنها، بنظرهم لا تراعي حشمة الكلية. ولم تثنهم عن موقفهم محاولات الأستاذ فاضطر أن يستبدل بالقصيدة غيرها، وكان هذا موقفاً له وقعه في نفوس الطلبة.. ومضى المهرجان.. كان فرحة، وكان إحساساً بدم جديد ولهفة إلى مناسبات أخرى.

كانت المناسبة هذه المرة وفاة السياب، الفاجعة التي هزت مشاعر المعجبين بشعره وهم غير قليل ورأوا أن شاعرية السياب الرائدة جديرة أن يحتفي بها، وان تنال ما ينبغي لها من تقدير، وان على قسم الآداب أن يضطلع بالمهمة قبل غيره، فالسياب، أصلا، بدأ طالباً فيه وفيما كانوا يتداعون إلى الأمر، ألفوا أنفسهم كأنهم على موعد مع أستاذهم الذي أغنى الحفل بكلمته في السياب ودعا زميله الدكتور لؤلؤة (رئيس قسم اللغة الانكليزية) فكانت له كلمة عن أثر بعض الشعراء الانكليز في شعر السياب. كما كان للطلبة نصيب في الحفل.. كان حفلا رائعاً وربما كان أول حفل أقيم للسياب بعد وفاته.

بدت الأيام تجري على غير ما كانت عليه، وبدأ العام الدراسي يعدو إلى نهايته مسرعاً، وغدت مشاعر الأسى اشد إيغالاً في أعماق النفوس الحساسة التي كانت تتمنى لو تمسك بالأيام بقوة كي لا تفلت منها، فقد صارت لحياة الكلية وعلاقاتها نكهة أخرى…. لقد انفتح فضاء أصفى وأنقى… الدراسة في هذا الفضاء لم تعد مجرد واجب، ولم تعد العلاقة مجاملة شكلية… فقد غدت الحياة نشاطاً ممتعاً يقصد إليه قصداً، وغدا الطلبة يبحثون عما يزيد حياتهم امتلاء وقرباً من أستاذهم، يسمعونه ويسمعهم.

كان العام يؤذن بالانصرام، ولابد له أن ينصرم، وتصرمت بعده أعوام وأعوام.. لكن عناد غزوان، ظل يتجدد في وجدان طلبته مع الزمن، رمزاً لأفق جديد في حياتهم، لعله كان، على قصره، من أروع ذكريات العمر.

اقرأ ايضا

عناد غزوان انموذجاً أكاديمياً رصيناً

عقيل مهدي يوسف قبل أكثر من ثلاثة عقود، انفتحت أكاديمية الفنون الجميلة على كلية الآداب، …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *