ماذا قال علي الوردي عن شارع الرشيد الرشيد.. شارع يروي تاريخ بغداد

ماذا قال علي الوردي عن شارع الرشيد الرشيد.. شارع يروي تاريخ بغداد

ميادة داود

متوازياً مع نهر دجلة، وبخط متعرج يمتد شارع الرشيد التراثي، ليحكي تاريخ العاصمة العراقية بغداد منذ أوج ازدهارها في العهد العباسي، وصولاً إلى آخر الولاة العثمانيين الذي شق الطريق لأهداف حربية، ليتحول إلى أيقونة الثورات وواحداً من أهم شوارع المدينة.

يتجاوز طول شارع الرشيد الثلاث كيلومترات من منطقة الباب المعظم (إحدى بوابات بغداد القديمة في العصر العباسي) إلى منطقة الباب الشرقي حيث موضع بوابة أخرى كانت تسمى باب كلواذا.

يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، في كتابه "لمحات من تاريخ العراق الحديث"، إن بغداد في العهد العثماني "لم تكن تحتوي على شارع بل كان فيها أسواق مسقوفة ودروب وأزقة يتصل بعضها ببعض. وأول شارع فيها هو شارع النهر الذي شقه ناظم باشا عام 1910، وفي الواقع لم يكن شارعاً لضيقه وعدم استقامته بل أشبه بالزقاق».

دفعت عوامل عدة خليل باشا إلى شق الشارع، بحسب الوردي "أهمها العامل العسكري، فقد كانت متطلبات الحرب تقتضي بفتح الشارع لتسهيل مرور المدافع والمعدات الحربية من بغداد إلى الجبهة حيث كان الطريق يدور حول المدينة ويلاقي الجنود في ذلك مشقة الحر صيفاً ومشقة الوحول شتاءً».كما كان العامل المادي حاسماً، فشق الشارع أيام السلم يكلف الحكومة أموالا طائلة لتعويض أصحاب الدور المهدومة، أما في أيام الحرب فهو لا يكلف الحكومة إلا قليلا إذ أنها تستطيع تعويض أصحاب الدور بسندات تُدفع بعد الحرب ولم يكن في مقدور أحد أن يعترض على ذلك".

البدايات

بدأ العمل بشق شارع الرشيد في مايو 1916، يضيف الوردي: «حينها استدعى رئيس البلدية رؤوف بيك الجادرجي أصحاب الدور التي سيخترقها الشارع، واتفق على أن يدفع لهم مبلغا يعادل إيجار دورهم لسنة واحدة على أن يفاوض لشرائها بعد انتهاء الحرب».

الإجراءات التي اتخذها رئيس البلدية كانت سببا لانتشار التذمر بين السكان، "لأنه دفع لهم المبلغ بالنقود الورقية، ولأن موظفي البلدية ومهندسيها كانوا كغيرهم من موظفي ذلك الزمان يتأثرون بالمحسوبية والوساطة والرشوة"، بحسب الوردي.

يتابع: "هذه الأمور مجتمعة أدت إلى حصول تغييرات كثيرة في تخطيط الشارع حسبما توحي به تلك المدفوعات، وبالنتيجة أصبح الشارع يسير بخط متعرج».

ويصف الوردي الفترة الزمنية التي تطلبها افتتاح الشارع بـ"الوجيزة" لتتوافق مع ذكرى إعلان الدستور (23 يوليو 1916).

أطلق على الشارع حينها اسم "خليل باشا جادة سي" وكُتب هذا الاسم على قطعة من الكاشي المزجج وُضعت على جدار "جامع السيد سلطان علي».

وعلى الرغم من ذلك الافتتاح، إلا أن الشارع بحد ذاته لم يكتمل عمله فقد كان كما يقول الوردي، "حتى سقوط بغداد (11 مارس 1917)، مليئاً بالحفر يعلوه التراب، فلم يهتم المسؤولون بتسوية أرضه أو تبليطه وكانت الدور مهدمة على جانبيه».

وما إن دخل الإنجليز إلى بغداد، حتى بدأوا يبلطون الشارع لتسهيل نقلياتهم فيه، وأطلقوا عليه اسم "الشارع الجديد"، ولكن القطعة التي تحمل اسمه ظلت مكانها لسنوات، ولم يتم رفعها إلا في الثلاثينيات من قبل أمانة بغداد في العهد الملكي، ويتم تغيير الاسم إلى "الرشيد" نسبة للخليفة العباسي هارون الرشيد.

تناغم وتنوع

يذكر عباس البغدادي في كتابه «بغداد في العشرينيات»: «ما إن انتهى تبليط شارع الرشيد حتى أصبح المتنزه الأمثل لأهالي بغداد وخصوصا سكان الكرخ، والسعيد منهم من يحصل وقت العصر على محل خال في تخت إحدى القهاوي المشرفة على الشارع».

وعلى أثره، "بدأ الناس يعمرون أملاكهم الواقعة على الشارع إما بشكل مقاه أو دكاكين أو مخازن. أما في الأعياد أو في المراسيم الملكية أو في قدوم زائر أجنبي فليس من السهل أن يجد الإنسان موضع قدم، إذ تكون بغداد بأجمعها وسكان الألوية قد تجمعوا في الشارع"، وفق البغدادي.

وشق شارع الرشيد طريقه وسط أهم المناطق التراثية وبعض من أهم أسواق بغداد التجارية والترفيهية والصناعية، محتضناً أصحاب المهن والحرف والأسواق، أشهرها "شارع النهر" و"سوق الشورجة" و"السوق العربي" و"سوق السراي"، و"سوق هرج" الذي يعرض البضاعة القديمة والمستعملة.

كل هذا التنوع كان مصحوباً بنمط سكاني فريد جمع كل الطوائف والأديان على جانبيه ما بين مساجد المسلمين وكنائس المسيحين ودور عبادة لليهود والأيزيدين والصابئة.

ويتميز شارع الرشيد بتنوعه المعماري والحضاري والأدبي والفكري والديني، ويعتبر واحداً من أكثر شوارع بغداد اكتضاضاً وموطناً للأدباء والمفكرين ورجال الدين والسياسة والشعراء.

شُيدت فيه المدارس منذ العصر العباسي، أشهرها المدرسة المستنصرية التي تعود إلى الخليفة العباسي المستنصر بالله. وغير بعيد عنها بنى العثمانيون مبنى القشلة كمقر للمدرسة الموفقية سنة 1861م، لتكون هذه البناية لاحقاً مقراً للولاية ودوائرها الرسمية.

تاريخ سياسي

شهدت حدائق القشلة التي بنيت في العهد العثماني تتويج فيصل الأول عام 1921 ملكاً على العراق بعد نحو عام من انطلاق شرارة احتجاجات عارمة غير بعيد عن المكان ضد الاحتلال الإنجليزي من جامع الحيدرخانة في شارع الرشيد، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1827. وهو الحفل الذي وثقت مجرياته كاميرا المس بيل، المستشارة البريطانية التي عشقت شارع الرشيد وسكنت بيتاً بغدادياً مطلاً على نهر دجلة، ومجاوراً لمقر المقيمية البريطانية في محلة السنك، وتوفيت في البيت نفسه عام 1926.

كتب شارع الرشيد تاريخ العراق السياسي طوال عقود الثلاثينيات والأربعينيات للاحتجاج على الوضع المعيشي، أو للتنديد باتفاقيات حكومية كما حدث في احتجاجات الوثبة عام 1948.

كما شهد سحل جثة الوصي عبد الإله خال الملك غازي بعد مذبحة قصر الرحاب التي أطاحت بالعهد الملكي عام 1958 على يد الجنرال عبد الكريم قاسم، الذي تعرض هو نفسه لمحاولة اغتيال بعدها بعام واحد في شارع الرشيد نفسه، واشترك فيها صدام حسين حين كان شاباً، قبل أن يتحول إلى الدكتاتور الذي حكم العراق لأكثر من 30 سنة.

وفي نوفمبر عام 2019 تحول الشارع من جديد إلى ساحة معركة بين محتجين غاضبين على السلطة بسبب الفساد وتردي الوضع الاقتصادي وشحة الخدمات والقوات الأمنية التي دافعت عن النظام بعنف.

الحركة الأدبية والفنية

يَعتبر باسم عبد الحميد في كتابه «شارع الرشيد» أن الشارع كان «بمثابة البوابة التي دخلت من خلالها بغداد إلى العصر الحديث، لا سيما عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث استعملت الماكنة والسيارة وانتشرت أولاً في شارع الرشيد».

يضيف: "كما تسابقت إدارات الصحف لتحصل على موطئ قدم فيه، وشهدت مقاهيه سجالات سياسية ومبارزات شعرية في مقاه سميت على أسماء روادها من الشعراء، مثل مقهى الزهاوي والرصافي والجواهري».

ونمت دور السينما والمقاهي والمطاعم "حتى أصبح (الرشيد) على امتداده مركزاً رئيساً للتجارة بين العاصمة بغداد وجميع مناطق العراق، كما شهد إحياء السيدة أم كلثوم أولى حفلاتها الغنائية في زيارتها الأولى للعراق عام 1932"، بحسب عبد الحميد.

يتابع: "وشهدت سينما سنترال أول نزال مصارعة بين البطل العراقي مجيد لولو والألماني الهركريمر عام 1935».

وسجل عبد الحميد أسماء العديد من المطربين العراقيين اللذين غنوا في مقاهي الشارع، منهم عفيفة إسكندر وسليمة مراد وناظم الغزالي ومحمد القبانجي.

وخلال تلك الفترة كما يروي عبد الحميد، "ظهرت أولى وسائل الإعلان والجذب الطريفة للعروض السينمائية، حين كان أصحاب السينمات يسيرون موكبا محمولاً في عربة تجرها الخيول وكان يجلس بجانب الحوذي مهرج ويغطي وجهه بقناع ضاحك وبيده لوحة تحمل صورة البطل واسم الفيلم».

وفي العربة "يجلس أعضاء الجوق الموسيقي الذين يعزفون ويغنون بأسماء السينما والأفلام التي تعرض فيها وكانت العربة تقطع الشارع عدة مرات ذهابا وإيابا لتثير سرور الناس"، يتابع عبد الحميد.

عن موقع (ارفع صوتك)