العراق في أواخر العهد العثماني

العراق في أواخر العهد العثماني

■ د. لمى عبد العزيز مصطفى
ترجع البدايات الأولى لاهتمام الدولة العثمانية بالخدمات الصحية إلى سنة 1256هـ/1840م ، عندما صدر في هذه السنة نظام الكرنتينة (الحجر الصحي) ، الذي نص على تأسيس دوائر الحجر الصحي في الولايات العثمانية ، علاوة على إنشاء عدد من المحاجر الصحية عند المنافذ الحدودية ومدن العتبات المقدسة.

وفي سنة 1288هـ/1871م صدر (نظام الإدارة الصحية العمومية)، وهو أول نظام يتعلق بالصحة العامة ، حيث ألزمت المادة الأولى منه بلديات الولايات العثمانية بتعيين طبيب ومعاون له في حين حددت المادة الخامسة واجبات هذا الملاك الطبي بمعاينة مرضى البلدة مجاناً، على أن تتكفل البلدية بدفع رواتبهم من ميزانيتها .
واولى هذا النظام جانبا من اهتمامه لنظام الكرنتينة (الحجر الصحي) ، فعلى سبيل المثال ألزمت المادة السابعة منه مأموري دوائر الكرنتينة بوجوب إبلاغ الجهات الرسمية في حالة ظهور وباء ما. وقبل التطرق إلى جهود السلطات العثمانية في إقامة المؤسسات الصحية في الولايات العراقية، لابد من إعطاء لمحة سريعة عن الواقع الصحي المتردي الذي عاشته الولايات العراقية ، حيث أدت البيئة دوراً كبيراً في التأثير في المستوى الصحي فكلما كانت المدينة نظيفة قل انتشار الأمراض ، لكن الحقيقة شيء والواقع الفعلي شيء آخر ، إذ إتسمت الغالبية العظمى من المدن العراقية بقلة نظافتها ، ناهيك عن كثرة البرك والمستنقعات التي لم تبذل السلطات العثمانية أية جهود ملموسة في ردمها .
علاوة على إفتقار المدينة العراقية إلى نظام لإسالة المياه ، إذ كانت مياه الشرب تنقل على ظهور الحيوانات من الأنهار ومصادر المياه القريبة ، ومن الآبار الملوثة داخل البيوت .
كما كان لافتقار الولايات العراقية لنظام تصريف المياه اثر كبير في انتشار الجراثيم والامراض الزهرية ، إذ ان تخزين المياه القذرة مدة طويلة ، وعدم اهتمام الاهالي بتنظيفها بصورة مستمرة مرة كل شهر في الاقل ، أو استخدام المواد المطهرة سببت الروائح الكريهة التي افسد هواء الدور ، وفي بعض الاحيان تتسرب إلى مياه النهر مختلطة مع مياه الشرب ، ناقلة جميع الامراض السارية ، ولم يقتصر الامر على البيوت فقط بل تعداها إلى الاماكن العامة كالخانات والحمامات ، فضلاً عن المدابغ المنتشرة قرب الانهار حيث كانت ترمي فضلاتها فيها فكانت سبباً اضافياً في انتشار الكثير من الامراض ، ومنها التهاب المعدة والامعاء والديزانتري وغيرها من الامراض ، كما شكل وجود الحيوانات الداجنة
وما شاكلها في البيوت سببا اضافيا لانتشار كثير من الجراثيم والمكروبات التي تسبب الامراض. ومما زاد في انتشار الامراض كثرة المقاهي والمطاعم القذرة والمفتقدة إلى ابسط الشروط الصحية .
وقلما وجدنا من الولاة من يهتم بنظافة المدن والاطعمة والمأكولات وتعد مبادرة والي بغداد احمد توفيق باشا سنة 1277هـ/1860م احدى المبادرات الفريدة من نوعها ، عندما أمر القصابين واصحاب المأكولات بوضع ستر من الخام على موادهم للمحافظة عليها من الغبار والذباب .
ومن العوامل الاخرى التي أسهمت في تدهور الحالة الصحية تدني المستوى التعليمي ، وانعدام الوعي الصحي لدى الغالبية العظمى من السكان ، واذا كان ثمة من يراجع الطبيب فان ذلك لا يكون قبل استفحال المرض ، وبالتالي لا يتمكن الطبيب من شفائه لفوات الاوان .
ومن العوامل الاخرى التي ساعدت على تفتيش الامراض السارية والوبائية وقوع العراق في مفترق الطرق فضلاً عن قربه من الهند مما جعله عرضه للامراض الوافدة التي كانت تنقل بواسطة القوافل التجارية وقوافل الزوار الاجانب. علاوة على جثث الموتى التي يتم نقلها من ايران وغيرها من البلاد الاسلامية لتدفن في النجف الاشرف وكثيرا ما كانت هذه الجنائز تبقى فترة من الزمن في إنتظار إنجاز المعاملات الرسمية لتأمين مرورها ، مما ترتب عليه الكثير من المحازير الخطيرة .
لم تكن في العراق وحتى ستينات القرن التاسع عشر مستشفيات باستثناء المستشفى الوحيد في ولاية الموصل ، الذي يرقى تاريخ افتتاحه إلى سنة 1260هـ/1844م اما الاطباء فيندر ان يكون هناك اكثر من طبيب في مركز كل ولاية . لذلك اقتصرت ممارسة المهنة على بعض المشعوذين والدجالين وبعض المتطببين الذين لم تتجاوز معرفتهم الحقائق التي تلقوها شفاها ، إذ توسع بعضهم في معلوماته من خلال قراءته بعض الكتب القديمة ، اما بالنسبة للقرى والارياف فقد مارس المهنة اشخاص توارثوها عن آبائهم واجدادهم .
وامام هذه الاسباب ، لم يكن مستغربا انتشار الامراض الوبائية التي كانت تفتك بالسكان فتكاً ذريعا ، فعلى سبيل المثال تفشى وباء الكوليرا (الهواء الاصفر) في الاعوام 1820 ، 1830 ، 1865 ، 1870 ، 1871 ، 1881 ، 1889 ، 1893 ، 1916 ، 1917 .
فيما تفش الطاعون وبشكل وبائي في السنوات 1783 ، 1802 ، 1831 ، 1867 ، 1874 ، 1875 ، 1877 ، 1881 ، 1882. ناهيك عن الامراض المعدية الاخرى ، كالجدري ، والتيفوئيد ، والدايزنتري ، اما الامراض الجلدية فانتشرت هي الاخرى خاصة بين البرد. ولم يكن امام السكان للوقاية من هذه الاوبئة سوى الهروب من المدن الموبوءة إلى اماكن اخرى خالية من المرض فعندما تفشى مرض الطاعون في بغداد سنة 1293هـ/1876م اضطر اهلها إلى ترك المدينة والاقامة في مخيمات في الصحراء وخارجها .

دوائر الحجر الصحي
تشكلت ادارة المجلس الصحي الاعلى في عهد السلطان محمود الثاني عندما قرر الاخير اللجوء الى مساعدة ممثلي الصحة العالميين لمنع انتشار الامراض الوبائية ، خاصة بعد انتشار مرض الطاعون الذي إجتاح العاصمة استانبول سنة 1253 هـ/ 1837م وقد تألفت ادارة المجلس المذكور من ثمانية اعضاء ممثلين للدولة العثمانية ، ومندوبي قناصل روسيا وفرنسا وألمانيا والنمسا والمجر وبريطانيا وبلجيكا واسبانيا وهولندا واليونان والسويد والنرويج وايران.وفي سنة 1256 هـ/ 1840 م صدر نظام الكرنتينة Quarantine أو ما يعرف بالحجرالصحي تلاها اصدار أنظمة وتعليمات فرعية لهذا النظام حتى اصدار نظام الادارة العمومية ، الذي اولى جانباً من إهتمامه لموضوع الحجر الصحي إذ الزمت إحدى مواد هذا النظام مأموري الكرنتينة بضرورة إخطار الجهات الرسمية في حالة ظهور وباء ما.شهدت الولايات العراقية خاصة ولاية بغداد ، إفتتاح العديد من دوائر الحجر الصحي، التي كانت تمارس اعمالها بصورة منتظمة في منتصف القرن التاسع عشر. وقد عنى الوالي مدحت باشا في اثناء ولايته بافتتاح عدد من دوائر الحجر الصحي في مناطق السليمانية وراوندوز وخانقين ومندلي وفي مدن العتبات المقدسة وبعض المدن الكائنة في الطرق الموصلة اليها لكثرة الزوار الايرانيين الذين يفدون لزيارتها، كما منع الايرانيين من الحج عن طريق العراق الى الديار المقدسة ما لم يتزودوا بشهادة السلامة الصحية من دوائر الحجر الصحي الموجودة على الحدود. ثم توالى انشاء عدد من دوائر الحجر الصحي واما ولاية البصرة مثلا ، فضلاً عن مركز الحجر الصحي الرئيس الذي اقيم فيها جرى إفتتاح عدد من دوائر الحجر الصحي ومنها دائرة الحجر الصحي في منطقة أبي الخصيب والفاو.
اما عن الملاك الاداري لهذه الدوائر ، فعلى سبيل المثال لا الحصر تألفت دائرة الحجر الصحي في بغداد لسنة 1329 هـ / 1911 م من مفتش وهو طبيب ورئيس كتاب وكاتب ومضمد وعدد اخر من العمال ، في حين تألفت دائرة الحجر الصحي في خانقين من طبيب ورئيس كتاب وثلاثة كتاب.
دأبت دوائر الحجر الصحي على إتخاذ الاجراءات اللازمة تجاه الاشخاص والسفن الوافدة الى العراق ، من خلال حجز الزوار القادمين لمدة (10) أيام ، وكانت تلك الاجراءات تزداد شدة في اثناء انتشار الامراض فخلال المدة المحصورة ما بين الاعوام 1896-1900 تم حجز (409) سفينة تجارية ، كما خضع للعزل والتطهير ثمانية الاف مسافر وعشرون الفا من أطقم السفن. في حين وصل مجموع المستفيدين من خدمات دوائر الحجر الصحي 14.363 مسافراً سنة 1324 هـ / 1906 م كان من ضمنهم 4.929 من العراقيين. كما شملت إجراءات الحجر الصحي الرزم والطرود البريدية التي تم انزالها الى كمرك الحجر الصحي حيث تم تطهيرها قبل نقلها.
وفي سنة 1327هـ /1909م اصدرت وزارة الصحة في استانبول بعض التعديلات على قواعد الحجر الصحي ، اعقبها تعديل اخر سنة1331 هـ/ 1913م ، قضى بتاسيس موقف للحجر الصحي في جميع مراكز الالوية وغيرها من التعليمات.
بالرغم مما اكتنف عمل هذه الدوائر من سلبيات . فقد نجحت والى حد ما في ضوء إمكانتها المتاحة ، في الحد من انتشار الامراض الى حدما ، فلو سمحت السلطات المعنية انذاك للوافدين من المناطق الموبوءة بالدخول الى العراق ، من دون اتخاذ الاجراءات الوقائية اللازمة تجاههم لكان من المتوقع ان تقضي هذه الامراض الفاتكة على اعداد كبيرة من السكان .

تقويم واقع الخدمات الصحية في العراق 1869-1914
لم تكن الاوضاع الصحية في العراق ابان العهد العثماني باحسن حال من الولايات العربية الرازحة تحت السيطرة العثمانية فالامراض الوبائية كانت تضرب أطنابها بين السكان من دون ان تبدي السلطات العثمانية جهودها لاتخاذ الوسائل الكفيلة لوقف هذا التدهور في الحالة الصحية والذي يمكن ان يعزى سببه الى :
- قلة المستشفيات في الولايات العراقية ، علاوة على تركزها في مراكز الولايات الرئيسية وعلى وجه الخصوص ولاية بغداد. فيما لم يرد أي ذكر للمستوصفات الصحية طيلة مدة السيطرة . وبالتالي ظلت باقي السناجق والأقضية محرومة من هذه الخدمات مع ما ترتب على ذلك من تردٍ للاحوال الصحية ، وانتشار الامراض خاصة الوبائية التي كانت تفتك بالسكان ، فعلى سبيل المثال كان مرض الهيضة (الكوليرا) أحد الاوبئة التي اجتاحت العراق وللاعوام 1871، 1889، 1893، 1899...الخ واودت بحياة اعداد كبيرة من السكان.وكانت المستشفيات الموجودة ، غير قادرة بامكانياتها المحدودة ، على إداء الواجبات المناطة بها بسبب إفتقارها الى الامكانيات المادية والفنية ، كما ان عناية الولاة بها لم تكن متواصلة ، كما حدث ذلك لمستشفى الغرباء الذي تولى مدحت باشا إنشاءه عندما تعرض للاهمال بعد عزل الوالي المذكور ، وإقتصر الاهتمام بهذه المستشفى على جهود فردية قام بها بعض الولاة للنهوض بواقع هذا المستشفى ونخص منها بالذكر جهود الواليين قدري باشا ونامق باشا ، في حين وصل الاهمال ببعض هذه المؤسسات الى الدرجة التي لم تصلح معه بنايتها لاستخدامها كمستشفيات بسبب ضيق المكان وعدم لياقته وافتقار بعضها الى الادوات الطبية. علاوة على بدائيتها ناهيك عن افتقار الكثير منها الى الادوية الكافية .
- من المشاكل الاخرى التي واجهت الخدمات الصحية قلة التخصيصات المالية ، وإنعدامها في احيان كثيرة . فعلى سبيل المثال لم تكن هناك اية تخصيصات مالية للصحة ضمن ميزانية ولاية الموصل سنة 1311هـ/1893م ، وإذا كان هذا حال مراكز الولايات الرئيسية فما بال الاقضية والنواحي ، مما اثر سلبا في واقع الخدمات الصحية المقدمة . ولمواجهة هذه المشكلة لجات الكثير من المستشفيات الى الاعتماد على التبرعات المقدمة كاحد الموارد الرئيسية لتمويل نفقاتها.
- ولم تكن في الولايات العراقية اية مؤسسات تعليمية طبية ، اذ لم تقم اية جهة طبية وطوال سنوات السيطرة العثمانية بانشاء اية مراكز طبية لذلك إقتصر اعتماد المستشفيات على الاطباء الاتراك وبعض الملاكات الاجنبية . فقد ذكرت جريدة (الزوراء) في احد اعدادها قائمة باعداد الاطباء الاجانب الموجوين في ولاية بغداد اواخر القرن التاسع عشر والذين لم تتجاوز اعدادهم العشرين طبيباً ، منهم الدكتور (ادلر) وهو طبيب نمساوي كان مستخدماً في الجيش العثماني ، ثم انتقل الى منزله في محلة رأس القرية حيث افتتح عيادته هناك وكان يعالج المرضى بالوسائل الطبية الفنية والطبيب الثاني (لازار) وهو نمساوي عمل موظفا في البلدية ، ومارس الطب في رأس القرية ، اما الطبيب الثالث فيدعى (يانقو) ، وكان طبيبا عسكريا ، ثم استقال واخذ يمارس الطب في عيادته ، والدكتور (أش) في محلة التوراة والدكتور (لبي).فضلا الى عدد اخر من الاطباء الاجانب الذين كانوا يفدون الى بغداد بين فترة واخرى ، وغالبا ماتولت الصحف العراقية الاعلان عن مجيئهم ، نذكر منهم الدكتور (فرنسيس أنلي) وزوجته المختصين بمعالجة الاسنان والدكتور (يوسف كنعان) اخصائي العيون .ومع هذا العدد القليل من الاطباء ، كان هناك عدد من العراقيل حالت دون تقديمهم الخدمات الطبية للسكان ، منها قلة معرفتهم باحوال البلاد ، فضلاً عن عدم معرفتهم اللغة العربية ، بالاضافة الى قلة خبراتهم الطبية واما الاطباء الاتراك فكان غالبهم من العسكريين . وبالتالي حتمت الضرورات العسكرية عدم استقرارهم في مكان واحد . وحتى الاطباء الاجانب الذين وفدوا للعراق ابان تلك المرحلة فإنهم لم ياتوا خصيصاً لممارسة مهنة الطب وانما كانت لهم اهداف اخرى . فقد عمل القناصل البريطانيون على دعم الجهود الطبية كنوع من التمهيد للنفوذ السياسي للبلاد وجمع المعلومات عن السكان وميولهم ، وكمثال على ذلك التقارير التي قدمها بعض اطباء المقيمية البريطانية في بغداد خلال تجوالهم في العديد من المناطق . كما افادت الدوائر البريطانية ابان حملتها على العراق سنة 1333هـ/1914م من المعلومات التي قدمتها المس بيل عن العراق خلال انتدابها من السلطات المحتلة للعمل ممرضة في الفرات الاوسط .
طرأت بعض الزيادة على اعداد الاطباء عندما التحق الرعيل الاول من الاطباء العراقيين ، من خريجي الكليات الطبية مثل كلية حيدر باشا باستانبول ومدرسة دمشق الطبية وكلية الطب الفرنسية في بيروت للعمل في المستشفيات العراقية. وابرز هؤلاء الاطباء علي فكري البغدادي داؤد جلبي وحنا خياط وعبد الله الدملوجي . ومع ذلك فإن تخرج هذه الملاكات الطبية لم يضع حداً للمشكلة إذ عانى كثير من الاقضية من النقص الحاد في عدد من الملاكات الطبية ومنها على سبيل المثال لا الحصر اقضية الشامية وبدرة وعانة ومندلي والسماوة .
أما بالنسبة لاطباء الاسنان فلم يكن في العراق عموما اطباء بهذا الاختصاص حيث اسندت هذه المهمة الى الحلاقين .
- وامام قلة الاطباء المؤهلين لممارسة مهنة الطب ، وبسبب ضعف الوعي الصحي لدى العراقيين راجت ممارسة من كان يطلق عليهم المتطببون وكان اغلبهم من الدجالين والمشعوذين اشتهر منهم حكيم حداد ، وهو متطبب لايحمل شهادة طبية جاء إلى بغداد من ايران وسكن محلة الطاطران سنة 1303هـ/1885م فذاع صيته ، والسيد احمد الذي سكن محلة الدهانة ، والاسطة عباس الذي اشتهر بممارسة الجراحة النسائية ، اما من النساء فقد اشتهرت المدعوة فرحة خاتون في ممارسة طب العيون .
ولم يكن في امكان الدوائر الصحية ، بامكاناتها المتواضعة اتخاذ الاجراءات الكفيلة للحد من انتشار الامراض والاوبئة حتى وان وجدت بعض الاجراءات فيمكن القول بانها كانت بدائية وعقيمة . فعندما حدث طاعون سنة 1293هـ/1876م اكتفت السلطات المحلية وكاجراء وقائي ، بعزل المناطق التي حدثت فيها الاصابة ، ومنعت أي اتصال بين المناطق المصابة، مما هدد سكانها بالهلاك ولا سيما وان المنازل العراقية كانت تتسم بكثرة السكان ولم تكن هذ الاجراءت الوقائية تطبق على الجميع إذ كانت العائلات الفقيرة تحبس حتى يقضى عليها الوباء في حين كان الاغنياء والموسورون من السكان ورجال الحكم والقناصل يهربون بعيداً عن الناس والمرضى معهم الخيام ومواد التموين إلى خارج المدن .
وتجدر الاشارة إلى ضيق افق بعض الولاة ورفضهم إتخاذ الاجراءات الوقائية للحيلولة دون انتشار كثير من الامراض ، فعلى سبيل المثال رفض عبد الرحمن باشاإبان ولايته الاولى (1875-1877) ، على اثر انتشار وباء الطاعون سنة 1293هـ/1876م الاجراءات الوقائية التي كان قد اقترحها طبيب القنصلية البريطانية كولفيل ، الا انه سرعان ما عدل رايه امام ارتفاع الوفيات ، وتكرر حدوث الوباء في السنة التالية(*)، إذ تم اخراج ما يربو على ثلثي سكان بغداد ، وكانت معظم الوفيات بين الذين فضلوا البقاء في بيوتهم . وعلى العكس من ذلك عرف بعض الولاة جهودهم في الحد من انتشار الامراض الوبائية فعلى اثر انتشار وباء الكوليرا (الهواء الاصفر) بادر والي بغداد ناظم باشا(1910- 1911 م) إلى تشكيل لجنة صحية (قومسيون) في بغداد ، اسندت اليها مهمة اتخاذ التدابير الصحية الواقية للحد من تفشي هذا الوباء داخل ولاية بغداد ، منها العناية بنظافة المدينة وتطهيرها ، ورفع القمامة من البيوت والطرق وتعيين اطباء داخل المدينة وخارجها وفحص الفواكه ، واتلاف الفاسد منها والمحافظة على نظافة مياه نهر دجلة وتحذير الاهالي من القاء الاوساخ او غسل الملابس وما اشبه ذلك كما وضع الحجر الصحي في اطراف الولاية التي ياتي منها الـداء لمنع سريانه . وتعزيزاً لهذه الاجراءات قام ناظم باشا باغلاق المدارس جميعا خوفا من انتشار المرض بين الطلبة . ولا يخفى الدور الذي اضطلعت به الصحف العراقية في مجال التوعية الصحية للوقاية من الامراض الوبائية في حال انتشارها .
- اما بالنسبة لدوائر الحجر الصحي ، فلم تكن في مستوى المسؤولية لضعف امكانياتها المادية والفنية ، المتمثلة في بناياتها المتداعية ، غير المستوفية للشروط الصحية. والتي هي عبارة عن خيام وصرائف . أقيمت فوق ارض رطبة يلاقي نزلاؤها الأمرين لا من حيث رطوبتها فحسب بل لما يقدم فيها من الطعام الرديء ، والماء العكر لدرجة ان بعض الاصحاء كانوا يقعون صرعى المرض تحت رحمة الظروف المناخية السيئة .
وعلى الرغم من اعتراف القائمين على دوائر الحجر الصحي بعدم ملاءَمة الخدمات المقدمة في هذه الدوائر في ظل الظروف الراهنة ، الا انهم كانوا غير قادرين على علاج الوضع ، إذ لم تلق النداءات المستمرة إلى العاصمة العثمانية (إستانبول) ، بضرورة تشكيل لجان صحية لاعادة بناء عدد من المحاجر الصحية اية نتائج ايجابية. فضلا عن ذلك اتسم الجهاز الذي يشرف على قرارات الحجر الصحي بالفساد والرشوة ، فرجال الامن والجنود والموظفون استغلوا هذه الدوائر لايجاد مصدر رزق يدر عليهم المال الوفير . فكان بامكان الزوار رشوة هؤلاء الموظفين والحصول على بطاقات السماح بالدخول إلى البلاد .فيما يرى أحد الباحثين ان اجراءات الحجر الصحي التي بالغت السلطات العثمانية في تطبيقها كانت تاخذ طابعاً سياسياً تبعاً لعلاقة الدولة العثمانية بالحكومات الاجنبية) .
كان ضعف اجراءات الحجر الصحي مدعاة إلى مطالبة جريدة (الزوراء) ، بضرورة تشكيل لجان مؤلفة من مفتش الحجر الصحي وعدد من الاطباء ورؤساء البلديات لضمان تطبيق اجراءات الحجر الصحي ، والزام مفتش الحجر الصحي باتخاذ التدابير اللازمة بمقتضى ما لديه من تعليمات في المجال الذي فيه المرض وكذلك في حق الاشخاص .حاولت الدولة العثمانية تحسين المستوى الصحي لعموم ولاياتها من خلال اصدارها لعدد من القوانين ، منها تعليمات منع الامراض السارية لسنة 1330هـ/1911 ، وتعليمات منع سريان الحمى التيفوئيدية سنة 1331هـ/1912م والامراض الزهرية سنة 1332هـ/1913م .