محاولة تأليف حزب للحركة الديمقراطية سنة 1941

محاولة تأليف حزب للحركة الديمقراطية سنة 1941

■ وسام هادي التميمي
وقفت العناصر التقدمية والديمقراطية والشيوعية ، منذ هجوم ألمانيا على الاتحاد السوفيتي في (22 حزيران 1941 ) موقفاً مؤيداً لجبهة الحلفاء ، فأصبح هناك مجال لعمل القوى اليسارية في العراق ، والسلطة لا تجرأ على كبتهم ؛ كون الاتحاد السوفيتي أصبح حليفاً لبريطانيا المهيمنة على الحكم في العراق .

حاول عزيز شريف وبعض العناصر التقدمية والشيوعية ، الإفادة من هذه الظروف، بتأليف حزب سياسي علني ، فعقد اجتماعاً في أواسط (تشرين الاول 1941)، حضره كل من عزيز شريف ، ومحمد صالح بحر العلوم ، وناظم حيدر وغيرهم من العناصر التقدمية؛ ويوسف سلمان يوسف (فهد) وعبد الله مسعود القريني، وداود الصائغ ، وذنون أيوب من الحزب الشيوعي ، تمخض عن هذا الاجتماع فكرة تأليف حزب سياسي يوحد وجهات النظر الفكرية والسياسية بين الطرفين .
فقدم عزيز شريف طلباً إلى وزارة الداخلية في (1 تشرين الثاني 1941)، لتأليف " حزب الوحدة الوطنية الديمقراطي " ، وضمت الهيئة المؤسسة بالإضافة إلى عزيز شريف ، كل من محمد صالح بحر العلوم ، وناظم حميد ، وعبد الرحمن العطار ، وداود الصائغ ، وقاسم أحمد عباس ، وعبد الله مسعود القريني ، وأوضح طالبو التأسيس أن تقدمهم بهذا الطلب ما هو إلاّ بادرة تعبير عن الرأي العام العراقي ، لتجاوز انكماش الحياة الديمقراطية بوجه عام ، وانعدام الحياة الحزبية بوجه خاص.
جاء في منهاج الحزب أهداف رئيسة غايتها تعزيز الحركة الوطنية الديمقراطية وإنعاش الاقتصاد الوطني ، ففي مجال السياسة الداخلية أكد المنهاج على أن غاية الحزب إجراء إصلاح عام في جميع نواحي الحياة العراقية ؛ سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ،على وفق تخطيط علمي مدروس ، يضمن تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية والمدنية ، ومنح الأقليات العراقية حق التعليم بلغتها وممارسة تقاليدها بكل حرية ، والسماح للعمال بتأليف النقابات ، ومطالبة الحكومة بالالتزام بقانون العمال المرقم (72 لعام 1936) المعدل ، ودعا الحزب إلى جعل الانتخابات النيابية على درجة واحدة ، وبشكل مباشر ، وتأليف جبهة وطنية موحدة بالتعاون مع الأحزاب والمنظمات الشعبية .
أما في مجال السياسة الخارجية ، فقد جاء في المنهاج دعم سياسة العراق الخارجية ، وتوحيد البلاد العربية بدولة ( اتحادية فيدرالية )، لتحقيق دفاع مشترك مع الحكومات العربية ، إضافة إلى ضرورة إقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي كونها عضو في الجبهة الديمقراطية العالمية التي تضم بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية .
الملاحظ أن منهاج الحزب المقترح تأليفه ، احتوى على جوانب إيجابية عدة ، لكن الطلب رفض من وزارة الداخلية في (29 تشرين الثاني 1941) ، ولم تكتفِ الوزارة في ذلك ؛ بل اعتقلت أحد موقعي الطلب وهو عبد الله مسعود القريني، وأرسل إلى سجن الفاو ، وصف عزيز شريف هذا الحزب بأنه كان مشروعاً وطنياً ذا مبادئ ديمقراطية ، إلا أن الخلافات بين الهيئة المؤسسة حالت دون مواصلة عمله ، ويرى سالم عبيد النعمان ، إن الخلاف كان أيديولوجياً بسبب تباين وجهات النظر ، لاسيّما وأن الديمقراطيين التقدميين كانوا يرفضون الانصياع لأوامر الحزب الشيوعي ، الذي كان أصلاً صغير الحجم وليس له قوة تأثير تقنع القوى الأخرى على العمل السياسي .
اعتقد أن الاختلاف بين وجهات النظر ليس هو السبب الوحيد في عدم مواصلة الحزب نشاطه ؛ بل السبب هو موقف السلطة الرافض لتأليف هذا الحزب ، ومع ذلك يمكن عدّ فكر حزب " الوحدة الوطنية الديمقراطي " هو البداية الحقيقية لعزيز شريف في تأليف حزب سياسي علني في المستقبل .
توقفت صحيفة الأهالي عن الصدور في (حزيران 1937) ، وخلال مدة التوقف من (1937-1942) ، اقتصرت العلاقة بين أفراد الجماعة على اللقاءات الشخصية ،وأيد جماعة الأهالي حركة ( مايس 1941)، لأنها حركة وطنية ضد النفوذ البريطاني في العراق .
اشتدَّ ساعد الحركات التقدمية واليسارية في العراق ، بعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي ، لأن هذه الحركات كانت موجهة ضد المخططات النازية والفاشية منذ البـداية ، فأصبـحت بعض الصحف والمجلات منبراً لنشر الأفكار اليسارية ، ومنها مجلة " المجلة " ومجلة " المثل العليا"، وكان عزيز شريف ، ينشر آراءه وتطلعاته السياسية في هاتين المجلتين قبل عودته إلى جماعة الأهالي .
بدأ أعضاء جماعة الأهالي يعيدون نشاطهم ، وضمت هذه الجماعة أولاً كل من كامل الجادرجي ، ومحمد حديد ، وعبد الفتاح إبراهيم ، وكانت باكورة أعمالهم قبل الأتفاق على إصدار الصحيفة ، اشتراكهم بإعداد مذكرة كان في النية تقديمها إلى وزير الدولة البريطاني ستافورد كريبس (Stafford Kripps) ، خلال مروره بالعراق ، في (آب 1942) ، في طريقه إلى الهند ، إلاّ أنه لم يزر العراق ، لذا لم تقدم هذه المذكرة ، وتعد تلك المذكرة بمثابة دراسة سياسية مهمة لأوضاع العراق، وآراء القوى اليسارية والتقدمية منها، إذ دعت إلى محاربة الفاشية والقيام بالإصلاحات الداخلية وتطبيق الدستور والسماح بتأليف الأحزاب السياسية .
اتفق هؤلاء الثلاثة على إصدار صحيفة صوت الأهالي ، لكن عبد الفتاح إبراهيم طرح شرطين أصرَّ على تحقيقهما قبل إصدار الصحيفة ، الشرط الأول هو إدخال عزيز شريف إلى الجماعة ؛ والشرط الثاني أن يكون عبد الرحيم شريف رئيساً لتحرير الصحيفة ، وقد وافق كامل الجادرجي على الشرطين، أما رأي محمد حديد بدخول عزيز شريف، إلى جماعة الأهالي فيتلخص بقوله ،" كان لدى عزيز شريف نشاط سياسي مستقل باتجاه تقدمي ، وتم الاتفاق على انضمامه إلى الجماعة، وأخذ يشتـرك في اجتماعاتها وقراراتها ، وأول عمل قام به هو سعيه إلى تعيين عبد الرحيم شريف رئيس تحرير الصحيفة ، كموظف معين وليس كموجه لسياسة الصحيفة وخطتها " .
على أية حال اتفق كامل الجادرجي ، ومحمد حديد، وعبد الفتاح إبراهيم، على دخول عزيز شريف ، وعبد الرحيم شريف ، إلى جماعة الأهالي ، وصدر العدد الأول من صحيفة صوت الأهالي في (23 أيلول 1942) ، وعدّت صدورها امتداداً لها عندما كانت تصدر خلال الأعوام (1932-1937) ، لذلك حمل العدد الأول رقم 76 إلى جانب اسمها واسم صاحبها ومديرها المسؤول كامل الجادرجي ، وجاء في المقال الافتتاحي الذي بعنوان : ( خطتنا ) " لسنا نريد اليوم غير ما أردناه بالأمس، أننا ننشد تحقيق نظام مقبول على أسس المساواة في الحقوق والواجبات للجميع ، وفسح المجال لتنظيم الناس لإبداء الرأي ، أمام ساسة الحكم ، ويحول دون التفريط بالمصالح العامة لتحقيق المصالح الخاصة ، واحتكار النفع لفئة من دون الشعب ، أننا ندعو إلى العمل لإنقاذ الشعب من عيوبه وفقره وذله .. أننا نريد حكومة الشعب من الشعب إلى الشعب ، نريد الديمقراطية ، أمنية هذا الشعب وما يصبو إليه " ، كما أوضح المقال خطر الفاشية على الشعوب وضرورة العمل على مكافحتها عن طريق حركة جماهيرية منظمة.
كان يشرف على تحرير الصحيفة ، ومقالها الافتتاحي ، كل من أسهم في إصدارها ، إضافة عدد من الديمقراطيين والاشتراكيين والشيوعيين ، فأصبح لصحيفة صوت الأهالي دورَُ بارزَُ في مكافحة الفاشية وبيان خطرها بسلسلة من المقالات التي تنشرها الصحيفة ، أضافة إلى عدد من الكتب تعرف " برسائل الأهالي " حيث وصف عبد الفتاح إبراهيم الفاشية بأنها حركة رجعية تقوم على العنف والإرهاب ، تهدف إلى غرض واحد هو الحكم الدكتاتوري المطلق ، بينما عزا عزيز شريف، سبب الحرب العالمية الثانية إلى رغبة النظام الفاشي والنازي السيطرة على حقول النفط في القوقاز وإيران والمشرق العربي.
يبدو أن الخلاف الأيديولوجي بين أعضاء الهيئة المؤسسة للصحيفة سرعان ما انعكس على الصحيفة نفسها ، فانقسمت على قسمين بحيث كان كامل الجادرجي، ومحمد حديد من جهة ، وعزيز شريف ، وعبد الفتاح إبراهيم من جهة أخرى ، وكان القسم الأول هدف أن تكون الصحيفة وسيلة تعبير تؤدي إلى تكوين رأي عام تقدمي ، وتهيئته لتكوين حزب عندما تنضج الظروف ؛ أما القسم الثاني رأى أن تكون الصحيفة وسيلة مباشرة لتكوين حزب يسبق تكوين الرأي العام ، وفي الوقت نفسه إخراج المعارضة السياسية للسلطة من أسلوب الاعتدال إلى أسلوب الهجوم المباشر ولاسيّما في النواحي الاقتصادية .
في (8 كانون الثاني 1943)، قدَّم كامل الجادرجي، مذكرة لبقية أفراد جماعة الأهالي تطرق فيها إلى أسباب الخلاف حول فكرة تأليف حزب سياسي ، إذ أشار إلى عدم موافقة السلطة على تأليف حزب في الوقت الراهن ، وأنه لم يحبذ فكرة قيام البعض بتشكيلات سرية ، إضافة إلى مشاكل الصحيفة ولاسيّما مشاكل التحرير المالية ، وموقف مدير الدعاية السلبي من الصحيفة ، كما ناقش الجادرجي في مذكرته فكرة عزيز شريف ، بأن تقوم الصحيفة بنشر آراء الكتّاب الذين يرغبون في الاساهم بتحريرها، دون المساس باسمائهم ويكون النشر على مسؤولية الكاتب وبتوقيعه الصريح ، إذ رأى كامل الجادرجي أن هذه الفكرة سوف تضعف من الشخصية المعنوية للصحيفة، خاصةً وأن هؤلاء الكتّاب معروفين بأنهم شيوعيون، ويرجع محمد حديد سبب الخلاف بين جماعـة الأهالي إلى تحيز عزيز شريف، لآراء وتصرفـات أخيـه عبد الرحيم شريف المتطرفة ، الذي عُين مديراً لتحرير الصحيفة ، لاسيّما وأن الأخير ، كان وضعه سلبياً ، فهو لا يداوم كما أنه منهمك بأشياء أخرى كالترجمة وكتابة أشياء أخرى لا تخص الصحيفة أثناء وجوده في الإدارة ، مما أدى إلى الاستغناء عن خدماته ، وهذا ما أثار حفيظة عزيز شريف، أما عبد الفتاح إبراهيم، فيعزى الخلاف إلى الجادرجي نفسه ، إذ يقول " كان منهج كامل الجادرجي يقوم على المناورات نتيجة لعمله في السياسة ، بينما كنا نسير على اتجاهاتنا الفكرية فحدث الخلاف" ، وفي (12 كانون الثاني 1941)، قدَّم عبد الفتاح إبراهيم مذكرة أيدهُ فيها عزيز شريف، وعبد الرحيم شريف، تضمنت رغبتهم بتأليف حزب سياسي وتحويل هيئة الصحيفة إلى جمعية سياسية تضم كافة المؤمنين بفكرتها ويتعاونون في تحريرها .
أما رأي عزيز شريف ، من هذا الخلاف ، فقد أوضحه في مذكرة قدمها إلى هيئة الصحيفة في (18 كانون الثاني 1943)، جاء فيها : " تلقي الحركة اليسارية في العراق ، مقاومة شديدة من القوى الرجعية على اختلاف عناصرها ، وتجابه المطبوعات اليسارية عقبات كثيرة من هذه القوى التي استفادت كثيراً من الانشقاقات التي حدثت في صفوف اليسار لان الانشقاقات آلة فاعلة بيد العناصر الرجعية تخنق بها الحركة اليسارية ، فمن واجب اليساريين أن ينظروا إلى هذا بكل ما يستحق من عناية .... لقد ظهرت مطبوعات يسارية متفرقة بين حين وآخر ، وفي اليسار الآن مطبوع هو جريدة الأهالي ، وأنها تهم جميع اليساريين لأنها وسيلة للتعبير عن رأيهم ، فهل أنها مشروع مطبوع ؟ أم إنه مشروع كيان سياسي وأساس لحزب ؟ لهذا نرى أن يُقسم الذين يعينهم بقاء الجريدة إلى فريقين، الفريق الأول: جماعة الجريدة وهم يسمون في بعض الأحيان الهيئة المؤسسة ، ومن يتعاون معهم على أساس العلائق الشخصية ، والفريق الثاني : ويشمل سائر الهيئات والكتل والأفراد اليسارية على اختلاف أسمائهم التي يسمون بها " ، ويرى سالم عبيد النعمان ، أن ما زاد من هوّة الخلاف بين عزيز شريف وكامل الجادرجي،هي الجلسة التي عقدت بينهم بحضور عبد الفتاح إبراهيم ، إذ كان عزيز شريف غير مقتنع تماماً بأقوال الجادرجي من أن الظروف غير ملائمة لتأليف حزب ، وإذا بكامل الجادرجي يخرج عن طوره ويتفجر غضباً ، موجهاً كلاماً قاسياً وعنيفاً مصحوباً باتهامات باطلة تجاه عزيز شريف من الصعب السكوت عليها ، فنهض عزيز قائلاً: " أنت تريد أن تطردني " ولم يجب الجادرجي ، فترك عزيز الجلسة ولم يَعُد إلى صحيفة الأهالي .
مهما يكن من أمر لم تؤدِ محاولات الإصلاح في جماعة الأهالي إلى نتيجة، فانسحب عزيز شريف وعبد الرحيم شريف في (23 آذار 1943)، وأسسا مع عدد من التقدميين " رسائل البعث "، أما عبد الفتاح إبراهيم فقد انسحب هو الآخر في (حزيران 1943) ، وأسس " جمعية الرابطة الثقافية " .
الظاهر أن الخلاف بين التكتلين يعود إلى محاولة التكتل الأول محاباة السلطة القائمة والتقرب إليها ، بعد مقابلة كامل الجادرجي للوصي في (2 تشرين الثاني 1942) عن طريق عدم نشر أفكار العناصر اليسارية ضمن صفحات الصحيفة، ورفض تأليف حزب يضم تلك العناصر ، أما التكتل الثاني فكان يريد أن يجعل الصحيفة أداة بيد العناصر اليسارية المتطرفة .

دور عزيز شريف في إصدار رسائل البعث :

بعدَ الخلاف الذي حدث بين أعضاء جماعة الأهالي ، قام عزيز شريف بالتعاون مع بعض التقدميين بتأسيس دار البعث العراقي في (نيسان 1943) ، لإصدار " رسائل البعث " ، وهذه الرسائل عبارة عن كتب وكراريس تحمل في طياتها الأفكار اليسارية الوطنية ، التي تدعو إلى التحرر القومي والحياة الديمقراطية، وفضح السياسة الاستعمارية للدول الأجنبية .
أسهم في إصدار هذه الرسائل مع عزيز شريف ، كل من توفيق منير ، وناظم الزهاوي ، وعبد الرحيم شريف ، وقد انضم سالم عبيد النعمان، معهم ممثلاً عن الحزب الشيوعي الذي رحب بفكرة هذه الرسائل ، وكان هذا بداية التعاون بين عزيز شريف ، ويوسف سلمان يوسف (فهد) الذي سرعان ما انتهى في بداية عام 1945، بعد الخلاف حول تأليف حزب سياسي يضم التقدميين الشيوعيين، وقد اتخذ عزيز شريف من مكتب في دائرة رعاية القاصرين في بغداد مقراً لدا ر البعث العراقي ، إذ كان ناظم الزهاوي مديراً لتلك الدائرة ، وأثناء عمل عزيز شريف ، في إصدار " رسائل البعث " ، كان يعمل قاضياً في محكمة جزاء بغداد ، ولكنه ظل يغذي تلك الرسائل بالأفكار التي تتماشى ومنهج عمل الجماعة الجديدة المنشقة عن الأهالي أثناء عمله الوظيفي ، وكانت هذه الرسائل في بداية إصدارها عبارة عن مقالات تكتب باليد وتوزع على نطاق محدود على المقربين من ذوي الأفكار الماركسية ، ويتناقلوها بسرية ، ثم تمزق بعد ذلك خوفاً من بطش السلطة ، وبعد تأسيس جمعية الرابطة الثقافية ، أخذت مجلة " الرابطة " تنشر هذه المقالات .
أولى عزيز شريف اهتماماً بالقضايا العربية عند إصدار " رسائل البعث " ، وتحديداً موقفه من النضال العربي في سوريا ولبنان ، في عهد الانتداب الفرنسي (1920-1946) ،حيث رأى عزيز شريف ، أن هناك سببين كان لهما أثر بالغ في تقرير مصير الحركة الوطنية التحررية في سوريا ولبنان . السبب الأول : يكمن في مستوى التطور الذي بلغه الشعبان من الناحية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، مشيراً إلى أن سوريا بلد زراعي وفيه من مظاهر مخلفات النظام الإقطاعي الكثير ، لكن هذه المظاهر لا تبلغ على ما نجده في العراق إلاّ نادراً ، سواء من ناحية أساليب عيش الفلاح ، والواجبات المفروضة عليه ؛ أما لبنان فقد أضمحلت فيها مظاهر الإقطاع والآراء والعادات المتصلة بها ، فغدى مجتمع أقرب إلى التحضر والمدنية من البداوة والإقطاع ، والمجتمع السوري سائر في هذا الطريق ؛ والعراق في بداية تحقيق هذا الانتقال . وعزا عزيز شريف ، هذا البون في المجتمعات العربية إلى سببين الأول: يعود الى اختلاف المستوى الثقافي والاقتصادي بينهم ؛ فالأمية تكاد تكون ممحوة من لبنان ، والذين يقرأون ويكتبون في المدن السورية كُثر ، بينما الأغلبية في العراق من الأميين . أما الاختلاف الاقتصادي فنجد العراق يعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة والتجارة ، وغالبية التجار يعملون وسطاء في استيراد البضائع الأجنبية وتوزيعها ، أو تصدير المنتوجات الزراعية ، لهذا فأن مصالحهم مرتبطة مباشرةً بالمصالح الاقتصادية الأجنبية ، عكس سوريا ولبنان التي طرأت عليها نواة الصناعة الوطنية بعد انتهاء الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1933 ، فكانت مصالحهم تتناقض مع مصالح الفرنسيين .
أما السبب الثاني : هو تطور الجهاد الوطني في سوريا ولبنان ، من أسلوب المطالبة السلمية لحقوقهم بالاستقلال والوحدة إلى أسلوب الكفاح المسلح. وبهذا الصدد تطرق عزيز شريف، إلى المطامع الاستعمارية الفرنسية التي ترجع إلى عام 1861م ، إذ أعلنت فرنسا حماتيها للأقليات المسيحية في لبنان ؛ ورغبتها بالسيطرة الكاملة على سوريا ولبنان أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ، بعقد اتفاقية سايكس ـ بيكو مع بريطانيا عام1916 ، وصولاً إلى عقد مؤتمر سان ريمو في إيطاليا في (نيسان 1920) ، الذي فرض استعماراً جديداً على الدول المنسلخة عن الدولة العثمانية باستعمار جديد باسم الانتداب ، فكان نصيب سوريا ولبنان الانتداب الفرنسي .
أشار عزيز شريف أن السياسة الفرنسية في سوريا ولبنان ، اعتمدت طوال عهد الانتداب (1920-1946) ، على أساس تجزئة البلاد إلى كيانات سياسية إدارية متعددة ، مستغلين التباين الإقليمي والطائفي والمذهبي بين الشعبين ، وهذه السياسة تعرف " بفرّق تسد " فقسموا البلاد إلى دول متعددة وهي دولة لبنان الكبير بعد استقطاع أربعة أقضية من سوريا ، ودولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين، وفصل لواء الإسكندرونة عن سوريا وأعطائه إلى تركيا ، وأوضح عزيز شريف ، أن الفرنسيين لم يكتفوا بسياسة التجزئة ؛ بل لجأوا إلى إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، التي كان لها تأثير واضح على بلاد المشرق العربي ، فعملوا على تأسيس المدارس التبشيرية وتقريب الطائفة المارونية إليهم ، ذلك بتعيينهم بالوظائف العليا ، مؤكداً إن السياسة الفرنسية اخفقت في تحقيق غايتها ؛ لأنها لم تجد أساساً ذهنياً وأيديولوجياً يُعتمد عليه .
رأى عزيز شريف أن الثورة السورية الكبرى (1925-1927)، كانت مرحلة مفصلية من مراحل النضال العربي في سوريا ،مبيناً أن أسباب هذه الثورة لا يمكن حصرها في سياسة المندوب السامي الفرنسي الجنرال سراي السيئة، بل أنها منبعثة من التناقض الشديد بين مطالب الفرنسيين،ورغبة الشعب العربي بالوحدة والاستقلال، وقد أستشهد عزيز شريف بنداء زعيم الثورة سلطان باشا الأطرش الذي ألقاه في (23 آب 1925) ، من أجل الحصول على الدعم المادي والمعنوي لديمومة الثورة التي انطلقت من دير الزور ، وامتدت إلى كافة أنحاء سوريا ، مؤكداً على الرغم من اخفاق الثورة نتيجةً لاستخدام الجيش الفرنسي أبشع الأعمال وحشية وانتقاماً بحق الشعب السوري ، ونضوب قوى البلاد المادية والعسكرية ؛ مع ذلك فقد حققت الثورة بعض المكاسب ، منها إعلان العفو عن الوطنيين في بداية عام 1928 وإلغاء الأحكام العرفية ، ووضع الرقابة عن المطبوعات وأهم من هذا كله إجراء الانتخابات للجمعية التأسيسية لوضع دستور للبلاد .
فضلاً عن ذلك فقد انتقد عزيز شريف ، من يقول أن سوريا أكثر وطنية من لبنان ، وأن لبنان أكثر ديمقراطية من سوريا ، معللاً ذلك بأن طريق الديمقراطية والحرية واحد ، فلا يمكن تحقيق استقلال بمعزل عن الحرية ، وأن الفرق الوحيد إن وجد فهو نابع عن سيطرة الديمقراطية في لبنان من أجل إرضاء الرأي العام بسبب تنوعها الطائفي والمذهبي ، أما سوريا فأنها تتمتع بنوع من الاندماج الاجتماعي .
أعرب عزيز شريف، عن تضامنه مع الحركة الوطنية في سوريا ولبنان التي ظلت تكافح حتى عام 1936 ، إذ عقدت فرنسا معاهدة صداقة مع سوريا ، ومعاهدة متشابهة مع لبنان ، باستثناء بعض المواد التي تشير إلى الأقليات والمشاكل الإقليمية الخاصة بها، وعدَّ عزيز شريف هذه المعاهدات خطوة إلى الأمام لتحقيق الاستقلال ، على الرغم من الثغرات التي تضمنتها ، مشيراً إلى دور حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية ، في تحقيق بعض المطالب للقوى الوطنية في سوريا ولبنان ، وبعد قيام الحرب العالمية الثانية ، وسقوط فرنسا بيد الألمان في (حزيران 1940)، تشكلت حكومة فيشي، فأصبح الوضع السياسي في سوريا ولبنان متذبذب ، وكان لزاماً على القوى الوطنية أن تساند الحلفاء ،كما أشاد عزيز شريف ، بدور الاتحاد السوفيتي في مساعدة هذه القوى للتخلص من الحكم النازي المتمثل بحكومة فيشي ، بوصفها الدولة الراعية لحق الشعوب في تقرير مصيرها ، موضحاً أن الحلفاء وجدوا شعباً جلداً يريد التخلص من هذا الحكم للحصول على الاستقلال ، وفعلاً استطاعت القوى الوطنية في سوريا ولبنان الحصول على استقلالهما بعد سقوط حكومة فيشي واعتراف دول كثيرة بهذا الاستقلال ، وظلت الدولتان تمارسان الحكم في غاية المرونة والحذر حتى دخلتا مؤتمر السلام في سان فرانسيسكو ، كدولتين مستقلتين .
كما تطرق عزيز شريف ، إلى دور الأحزاب السياسية في سوريا ولبنان في قيادة الحركة الوطنية ، وبهذا الصدد قال : كنت أحد المدعوين للحضور في المؤتمر الأول للمحامين العرب المنعقد في دمشق في (12 آب 1944) ، وسألت أحد المحامين السوريين من أعضاء الكتلة الوطنية ، عن أكثر الأحزاب فعالية في قيادة ودعم الحركة الوطنية في سوريا ولبنان ، فأجاب " أنه الحزب الشيوعي " ، إذ رأى عزيز شريف ، أن الحزب الشيوعي السوري، كان يسير على سياسة صحيحة ، ويمتلك إدراكاً ووعياً حقيقيين ، وأنه ليس حزب العمال والا الفلاحين كما يظن البعض ، بل هو حزب كل طبقات الشعب ، بينما الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان موحداً مع الحزب الشيوعي السوري ، فقد عدّه عزيز شريف أكثر فعالية وتقدماً ، لأنه شهد اندفاعاً قوياً للانضمام إليه أكثر من سوريا وختم عزيز شريف قوله ،" لقد كان مؤتمر المحامين العرب مؤتمر أهل القانون أولاً ، ولكنه صار مؤتمراً للمناضلين المنادين بالاستقلال والحرية ، فقد انتقل إلى منبر سياسي عولجت فيه جميع القضايا التي تهم العرب وفي مقدمتها الاستقلال والحرية ".
لم يقتصر نتاج عزيز شريف الفكري على القضايا الوطنية والسياسية ، بل أصدر كراساً من سلسلة " رسائل البعث" ، بعنوان : ( العنصرية بين المرجعية والعلم)، تضمن هذا الكراس ترجمة مقالات صحفية لآراء وتحليلات أبرز علماء "الانثروبولوجي" علم الإنسان ، وعلم " الانثولوجي " وهو علم دراسة أسباب اختلاف الصفات الجسمية بين البشر والشعوب ، وتصنيفها على أساس أحوالها ومميزاتها الثقافية ، وعلم " المورفولوجي " وهو العلم الذي يبحث في أشكال الكائنات الحية ، وعلم " البايولوجي " علم الحياة، ويتناول الكائنات العضوية الحيوانات والنباتات وأوصافها ووظائف أعضائها وأصولها وتوزيعها .
من خلال الإطلاع على ما كتبه عزيز شريف ، في سلسلة " رسائل البعث " نجده يمتلك ثقافة واسعة ، وفكر متنور وغير محدد ، بالإضافة إلى بُعد نظر في الموضوعات التي تناولها ، وبقى عزيز شريف يعمل على إصدار رسائل البعث ، حتى عام 1945 ، سافر خلالها إلى سوريا ولبنان ، واتصل هناك بخالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري ، وطرح عليه رغبته بتأليف حزب سياسي داخل العراق ، لكن خالد بكداش رفض هذه الفكرة ، عموماً كانت هذه الرغبة قد تحققت بتأليف حزب الشعب في (2 نيسان 1946)، وهو موضوع البحث في الفصل القادم.