عبد الوهاب المسيري.. العقل الموسوعي الإسلامي في بحثه عن الإنسان

عبد الوهاب المسيري.. العقل الموسوعي الإسلامي في بحثه عن الإنسان

د. هبة رؤوف عزت
يستوقف المتجول في عالم عبد الوهاب المسيري الأوجه المختلفة لهذا المفكر، فمن كتاباته في الأدب الإنجليزي، لسيرته الذاتية التي هي مسيرته الفكرية، إلى نقد ونقض الفكر الصهيوني والتأريخ للجماعات اليهودية، إلى قصص الأطفال التي نال عنها جوائز عديدة، إلى كتاباته الصحفية

التي تبسط للقارىء المفاهيم الكبرى وتربطها بالظواهر التي يعيشها في ظل العولمة، لكن يظل هناك منطق متصل وروح متجانسة في كل ما كتب عبد الوهاب المسيري، وهو أنه كان مفكراً إنسانياً.
ويمكن اعتبار الخيط الناظم في فكر المسيري هو تقديم الرؤية الإنسانية التي تميز المنظور التوحيدي الإسلامي حتى وإن لم يستخدم المفاهيم المألوفة أو يفرط في الاستشهاد بالآيات والأحاديث، فقد نفذ المسيري إلى قلب المنظومة المقاصدية وفهم أن المقصد الأعلى هو تأكيد إنسانية الإنسان من خلال تأكيد تنزه الله الذي ليس كمثله شيء، والتمييز بين الإنساني والطبيعي والغيبي وإدراك الفارق بين هذه المستويات التي حاولت المنظومة العلمانية اختزالها في مركزية الإنسان ومساواته بالطبيعة، وإقصاء سؤال الألوهية والربوبية من التفكير.
لذا فقد صاغ المسيري هذه الفكرة بلغة يفهمها السياق الثقافي وأسهم في جدل نقد الحداثة الذي مر في فترة الثمانينيات بجدل الدولة الدينية في مواجهة العلمانية ، ولا بد من الاعتراف أن المسيري قد نقل هذا الجدل نقلة نوعية بتحليل العلمانية في منظورها الفلسفي وتقديم خطاب إسلامي جديد يعيد الاعتبار للإنسان ودوره سيرا على نهج مفكرين من أمثال مالك بن نبي وعلى شريعتي.
لقد أكد المسيري في كتابيه "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" و"دفاعاً عن الإنسان" أن ثمة أسبقية الإنساني على الطبيعي، لأن الإنسان قادر على تجاوز النظام الطبيعي المادي وعلى تجاوز ذاته الطبيعية المادية، ولأن فيه بعدا غيبيا يستعصي على الاختزال والتشييء.
إذا مُحيَ هذا الفارق حينئذ تسري على الإنسان القوانين المادية الحتمية التى تسري على الطبيعة والمادة، مما يعني تقويض الإنسان وتفكيكه ورده إلى ما هو دونه، أي المادة.
فالأساس الفلسفي للإنسانية الإلحادية أساس واه، فمع غياب الله أو تهميشه يتحرك الإنسان داخل السقف المادي وحده، لا يمكنه الفكاك منه ويتحول إلى كائن طبيعي (مادي) فيفقد ما يميزه كإنسان (حرية الاختيار-المقدرة على التجاوز…إلخ).
لا يحفظ للإنسان إنسانيته سوى الإله سبحانه وتعالى، فوجوده هو ضمان إنسانية الإنسان. فالإيمان بإله متجاوز مفارق للمادة يعني أنه يوجد داخل الإنسان ما يميزه عن الكائنات الطبيعية المادية الأخرى.
من هنا فإن سمات الإنسانية الإسلامية هي تأكيد الفارق بين الإنسان والطبيعة ورفض النموذج المادي باعتباره النموذج الذى يودي بالإنسان، فمشروع الحداثة فهو مشروع تأسيسي يعيد تركيب المجتمع على أساس أنه غابة يتصارع فيها الإنسان مع الحيوان، والإنسان مع الإنسان، والإنسان مع الطبيعة، فهى الحرب للجميع ضد الجميع، وهذا ما أفرز فى نهاية ما نسميه الحداثة الداروينية.
وقد ربط المسيري بين الفلسفي الفكري والتحليل السياسي، فقد رأى كيف ساعد على هيمنة هذا النموذج الفكري على العالم تزايد نفوذ الدولة القومية ذات السلطة المطلقة كما صورها هيجل، وانتشار النظريات السياسية التى ظهرت لتبرير هذا الوضع، واتساع نطاق القطاع الاقتصادي التجاري، وشيوع النظريات العقلانية المتطرفة والنفعية. وجوهر كل هذه النظريات مادي، فهى تجعل هدف الوجود غاية مجردة إنسانية مثل الدولة (فى المجال السياسي) أو القانون العام (في المجال العلمي والتحليلي بشكل عام) أو الربح ومراكمة الثروة (فى المجال الاقتصادي) والمنفعة الشخصية (فى المجال الأخلاقي).
وقد تابع المسيري التيارات الإنسانية في الغرب التي تراجع مسلمات الحداثة وتبحث عن استعادة إنسانية الإنسان واعتبرها جزءا من جبهة الدفاع عن الإنسان وجزءا من هذا التوجه الذي يحتل فيه الإسلام موقعاً فريدا، وبذا منح الرؤية الإسلامية وأفقاً جديداً يستعيد فكرة حلف الفضول، فهؤلاء يدركون أن الانتصارت التي تحققها حضارتهم باسم الإنسان الطبيعي/ المادي تؤدي إلى وأد شيء مهم جدا في الإنسان، شيء لصيق بإنسانيته، نسميه "القبس الإلهي"، ولكنهم لا يسمونه.. وإنما يدورون حوله، ويتجلى بشكل خفي في كتاباتهم، ولذا، فإن المسيري قد نعته بأنه "الإله الخفي" في الكتابات النقدية الغربية.
وما الحديث عن "حتمية الميتافيزيقا" إلا حديث عن الإله الخفي. فقد لوحظ أن الإنسان مهما بلغ من مادية فإنه لا يقبل المادة المتغيرة إطارا مرجعيا، وإنما يبحث عن مركز للعالم، وعن إطار، وعن أرض ثابتة يقف عليها وعن كليات تتجاوز الأجزاء. وقد أدرك نيتشه أن هذا تعبير عن الإله الخفي، واختار مصطلح "ظلال الإله" ليشير اليه. وقد أدرك فلاسفة ما بعد الحداثة ذلك، ولذا فإن مشروعهم لا يتلخص في الهجوم على الميتافيزيقا الدينية أو المثالية وحسب، وإنما في تحطيم فكرة الحقيقة نفسها حتى تتم إزالة " ظلال الإله" وتحطيم الميتافيزيقا بلا رجعة. وكان حلمهم المقترح هو التخلص من ثنائية المطلق/ النسبي لصالح مطلق نسبي (ثابت متغير).
فتظل هناك ثنائيات الخير والشر، والمقدس والمدنس، والمطلق والنسبي النابعة من إدراكهم الفطري لثنائية الإنساني والطبيعي/ المادي. ولذا تؤكد العلاقات الإنسانية الفطرية نفسها بطريقة تتحدى النموذج المادي الفعال وبطريقة غير مباشرة كان يفترض التخلي عنها بحيث تخضع مثل هذه العلاقات للتفاوض وبحيث يحل محلها علاقات تعاقدية عقلانية صلبة. ولكن العلاقات الإنسانية الفطرية، مع هذا، تستمر وتؤكد نفسها. وهو تأكيد يبين أن العنصر الرباني في الإنسان لا يمكن محوه.
ومن الممكن القول أن هذا العنصر الرباني اللصيق بإنسانية الإنسان وفطرته، وهو عنصر يأخذ شكل الإله الخفي -هو ما يمنع النموذج الطبيعي/ المادي من التحقق الكامل، ومن الوصول إلى اللحظة النماذجية الكاملة ونقطة الصفر المادية.
كانت الروح الإسلامية إذاً عند المسيري لا تنفصل عن الرؤية الإنسانية وعندما وصل إلى مرحلة تحوله للمنظومة الفكرية الإسلامية كان ذلك عن طريق اهتمامه المبكر بالبحث عن كينونة الإنسان في المذاهب والمعارف الفكرية المختلفة، فصادف الماركسية وأعجبه جنوحها للعدالة والمساواة، لكن شعر بالغربة في ماديتها المفرطة، حتى تمكن من التعرف على المنظور المعرفي التوحيدي الإسلامي، ومن هذا المدخل رفض مادية المعرفة الغربية وأشار إلى ضرورة تأسيس فقه للتحيز، وأسس جهداً بنائياً من خلال نقد ونقض بعض المصطلحات الفكرية والمعرفية والمنهجية والبحثية، ثم دعوته لمراجعة مسلمات العلوم التي انبنت على فلسفة الحداثة..واستعادة الإنسان في رؤيتها.
وقد إستطاع من خلال الناظم الاسلامي الإنساني أن يؤسس لمعالم خطاب إسلامي جديد يتجدد وفق حاجات الأمة وضروراتها وفقه النهوض الذي يتعلق بكيانها. في صراعها الفكري من أجل تحرير الإنسان وليس من أجل تأسيس دولة فقط كما ذهبت تيارات الإسلام السياسية.
ومن هنا فقد تكون لديه معجمه المفاهيمي، وواجه المصطلحات التى تفشت فى عضد الأمة وحذر من مصطلحات العدو وتسربها، ونبه إلى وحدات تحليل جديدة، وربط النماذج المعرفية بالتعامل المنهجي، وانتقد ما يمكن تسميته بالسببية الصلبة وتحدث بصفة دائمة عن النسق المفتوح والرؤية الواسعة واستهدف جوهر الإنسان الذي يخرج المعاني التي تتعلق بالثقافة والحضارة على شاكلته (النظام المعرفي، الخرائط الإدراكية، الخرائط المعرفية، المفاهيم التفسيرية،..الخ)، كما قدم المسيري نماذج وأدوات تفسيرية غاية في الأهمية ومقولات لتفسير الواقع وتقويمه بل وتغييره، وكانت له أجندة بحثية شاملة وعامرة فهو دائم الحديث عن مشروعاته العلمية المنفتحة والمفتوحة، وركز على أهمية الخريطة الإدراكية والنماذج الفكرية والمعرفية، مؤكدا أن المعركة الحقيقية الآن هي معركة المعاني؛ حيث يتم تكوين الصورة الإدراكية أو الخريطة المعرفية وعمليات إبقاء بعض عناصر الواقع وتضخيمها ومنحها مركزية واستبعاد أو تهميش البعض الآخر حسب معايير النموذج الداخلية وبعده المعرفي الكلي والنهائي، فصياغة النموذج؛ عملية مركبة وإبداعية؛ تتضمن عمليات عقلية عديدة متنوعة، وظل يكتب حتى فارق الحياة راضيا مرضيا في علمه وفي عمله دون أن يهمل الوظيفة الكفاحية للعالم بنزوله الشارع السياسي ضد الاستبداد بالسلطة ودفاعاً عن المشاركة الشعبية في صنع السياسة.
ولم يكن دورانه مع مقصد الإنسانية يماثل الميل الليبرالى إلى الفردية، فالمجتمع عنده كيان مركب متماسك يتسم بقدر من الوعي وله أسبقية على الفرد مهما بلغت درجة ابداع هذا الفرد، فالفرد ينتمي إلى المجتمع وليس المجتمع هو الذي ينتمي إلى الفرد، إلا إذا كان مجتمعا شموليا، والمنظومة العلمانية الشاملة ليست مقصورة على العالم الغربي فهي رؤية للكون اكتسحت العالم بأسره وحولته إلى مادة استعمالية بحيث تصبح كل الأمور متساوية، كل الأمور نسبية، إلا أن الرؤية للعالم وتميزها هو الذي يخرج المعرفة ويشكل الثقافات ويؤسس الحضارات، ومن هنا اهتم المسيري بالنماذج المعرفية والبناء الحضاري من مثل: المنهج ـ المفاهيم ـ الخرائط ( الإدراكية ـ المعرفية ـ الذهنية ـ الفكرية ).
من هنا فإن الخطاب الإنساني الذي قدمه المسيري هو خطاب إسلامي بامتياز، فقد عَرَف الدكتور المسيري الخطاب الإسلامي بأنه ليس كلام الله الذي يسمو على الزمان والمكان، وإنما هو اجتهادات عقول المسلمين داخل الزمان والمكان. ومن ثم فهو – أيضاً- متعدد ومتنوع، وتاريخ الحضارة التي بناها المسلمون هو تعبير عن هذه الكثرة والتعددية، وتحدث كذلك عن مستويات لهذا الخطاب:
1 - خطاب إسلامي ظهر مع دخول الاستعمار العالم الإسلامي، وحاول أن يقدم استجابة إسلامية لظاهرتي التحديث والاستعمار، وقد ظل هو الخطاب المهيمن حتى منتصف الستينيات، وهو ما نشير اليه بالخطاب الإسلامي القديم، والذي يعادي الغرب دون أن يفهم منطقه الفلسفي بل يكتفي بمقاومة تجليه الاستعماري.
2 - خطاب آخر كان هامشيًا، ولكن معالمه بدأت تتضح تدريجيًا في منتصف الستينيات، وهو ما نشير اليه بالخطاب الإسلامي الجديد. ونقطة الاختلاف بين الخطابين هي الموقف من الحداثة الغربية لا باعتبارها ضد الشعوب المستعمرة بل باعتبارها ضد الإنسان في جوهره (وهو ما يؤدي لحروب الإبادة باشكالها)
كما يصنف الخطاب من حيث الجمهور إلى:
(1) الخطاب الجماهيري (أو الاستغاثي أو الشعبي): وهو خطاب القاعدة العريضة من الجماهير الإسلامية التي شعرت بفطرتها أن عمليات التحديث والعلمنة والعولمة لم يكن فيها خير ولا صلاح لها، كما لاحظت أن هذه العمليات هي في جوهرها عمليات تغريب سلبتها موروثها الديني والثقافي، ولم تعطها شيئًا في المقابل، لكنها لا تصوغ رؤى فكرية.
(2) الخطاب السياسي: وهو خطاب بعض أعضاء الطبقة المتوسطة ممن شعروا –أيضًا- بالحاجة إلى عمل إسلامي يحمي هذه الأمة. وقد رأوا أن العمل السياسي هو السبيل إلى هذا، فقاموا بتنظيم أنفسهم على هيئة تنظيمات سياسية لا تلجأ للعنف، تتبعها تنظيمات شبابية ومؤسسات تربوية، واهتمام حملة هذا الخطاب يكاد ينحصر في المجال السياسي والتربوي.
(3) الخطاب الفكري: هو الخطاب الذي يتعامل أساسًا مع الجانب التنظيري الفكري داخل الصحوة الإسلامية.
وتحدث عن استجابات الخطاب الاسلامي لتحدي الحداثة الغربية مفرقا في ذلك بين موقف الخطابين القديم والجديد في ذلك الأمر وأن كلا الجيلين -القديم والجديد- لم يؤسسا منظومتهما الفكرية انطلاقًا من المنظومة الإسلامية فحسب، وإنما نتيجة تفاعلهما مع الحضارة الغربية في الوقت ذاته، وهذا أمر طبيعي؛ فهي الحضارة التي فرضت سيطرتها على العالم في تلك اللحظة التاريخية، واكتسبت مركزية بحكم الانتصارات العسكرية التي حققتها، وطرحت رؤيتها في كل المجتمعات، وفرضت نفسها باعتبارها مستقبل البشرية جمعاء. وألقت بالتحدي الذي كان على الجميع الاستجابة له، وباختلاف نوع التحدي وحدَّته اختلفت الاستجابة، وقد وجد المصلحون الأوائل جوانب إيجابية كثيرة في هذه الحضارة الغربية، بل إنهم انبهروا بها، وهذا ما عبر عنه الشيخ رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده ولذا كانت استجابة الجيل الأول للتحدي الغربي هي: كيف يمكن أن نلحق بالغرب؟
لكن ظهر بعد ذلك نقد إسلامي للحداثة، وهذا النقد الإسلامي للحداثة يختلف عن أشكال نقد الحداثة في بقية العالم؛ إذ أنه يدرك مدى ارتباط منظومة الحداثة الغربية بالإمبريالية الغربية، ويدرك صعوبة فصل الواحد عن الآخر (والإمبريالية كانت هي أول تجربة لنا مع الحداثة، والاستعمار الاستيطاني الصهيوني هو آخرها ولا ينفك عنها). كما أن النقد الإسلامي للحداثة يتسم بأنه متفائل لأنه يطرح حلولاً على عكس النقد الغربي للحداثة فهو متشائم عدمي. يطرح الشروط الأساسية لتطوير المشروع الحداثى الإنسانى العربى، فضلا عن المنطلقات الأساسية البنائية لهذا المشروع.
وتحدث المسيري عن سمات الخطاب الإسلامي الجديد الذي تحتاجه الأمة اليوم للنهضة، ومعالمه هي:
- رفض فكرة المركزية الغربية.
- الرؤية المتكاملة والانفتاح النقدي.
- خطاب جذري توليدي استكشافي.
- يصدر عن رؤية معرفية شاملة.
- القدرة على الاستفادة من الحداثة الغربية.
- القدرة على إدراك أبعاد إنسانية جديدة.
- القدرة على اكتشاف الإمكانات الخلاقة للمنظومة الإسلامية.
- تأسيس معجم حضاري متكامل ومستقل.
- إدراك المكون والبعد الحضاري للظواهر والأشياء المستحدثة.
- تأسيس رؤية إسلامية مستقلة في التنمية.
- الإيمان بالحركة والتدافع كأساس للحياة.
- إدراك مشكلات ما بعد الحداثة.
- تجاوز الإطلاقات المتناقضة والسماح بالتعددية.
- القدرة على الرؤية المتكاملة للشريعة ومقاصدها وإنزالها على الواقع المعاصر.
- القدرة على صياغة نموذج معرفي إسلامي والاحتكام اليه.
- الاهتمام بالأمة كياناً يتجاوز الدولة المركزية.
- محاولة تطوير رؤية شاملة للفنون الإسلامية.
- تجاوز المنظور الغربي في قراءة التاريخ.
وفي مجمل أعماله يدعو المسيري الى إقامة نسق فكري عربي إسلامي يقوم على الثنائية والتجاور والإنسان الروحاني الديني الرباني مقابل الإرث الغربي المادي الطبيعي الجسدي.
إن الخطاب الإسلامى عند المسيري كان لابد من أن يكون إنسانياً، والمسلم المرتبط بالفطرة يجب أن يكون ربانياً وعالمياً، ذلك هو المنطلق الذي آمن به الدكتور المسيرى، حينما أكد إنسانية الإسلام وعالميته، ورحلته الفكرية والمعرفية كانت محاولة للبحث عن الإنسان ، ذلك أن الوصف الأدق لرحلته هو وصف ” رحلة البحث عن الحقيقة ”، فرغم التحولات التى مر بها، فإن مكونات رؤيته وعناصرها الأساسية لم تتغير ، رغم تغير بعض الأسس الفلسفية ، ورغم تغير المنهج. حتى ذهب البعض إلى العامل الإنسانى أو ” المشترك الإنسانى ” هو مفتاح العالم النقدى للمسيرى وهو الذي منح رؤيته الإسلامية سمتها الأصيل في نقدها للغرب وكشفها للمشروع الصهيوني واحتفاءها باللغة والمجاز وإعادة صياغتها لرؤى الأطفال في قصصه البسيطة وحفاوته بالمقاومة التي تتحدى حسابات الهيمنة والقوة الغاشمة، وسيره في مظاهرات الديمقراطية يواجه خوذات الأمن وهراوات الشرطة.
حياة ثرية ودروس كبرى وعالم من المفاهيم والقضايا يحتاج إمعان نظر وميراث من الحكمة يحتاج ورثة يبنون على ما قدم، وشخصية فريدة تعلمنا منها التواضع والصبر والتسليم للقدر والعزة بالله والشموخ في أزمنة الإنكسار.