المسيري يكتب رحلة التحولات والتحديات

المسيري يكتب رحلة التحولات والتحديات

د. محمد عبدالقادر
ما ان انتهيت من قراءة «الرحلة الفكرية» للدكتور عبدالوهاب المسيري حتى شعرت ان هذا المفكر ـ الفيلسوف قد منحني من عمره خمسين عاماً اضافياً ، هي رحلته العلمية والفكرية التي تحوي من الثـراء والتنوير والابداع ما يعادل قراءة مكتبة بعشرات الكتب والمصادر في شتى فروع المعرفة ، في هذه الرحلة تجد نفسك امام مفكر مبدع وناقد اصيل يمثل حالة متفردة في اهتماماته وانتاجه ورؤاه ، تقرأ المسيري في كل ما يكتب ، فتتفق معه او تختلف ، لكنك -

في كل الاحوال - تشعر انك امام مفكر عميق التأمل ، يشق مسالك جديدة ، ويفتح افاقاً واسعة للفكر الانساني النبيل ، ويقدم اضافات نوعية للثقافة العربية الانسانية على اتساعها وتنوعها.
حمل الكتاب عنوان «رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية» ليقدم سيرة فريدة في بنائها وسردها بالرغم من انها تُصنف تحت نوع «السيرة الذاتية» او ادب السيرة ، والمسيري نفسه يقول انه لا يدري ما اذا كانت نوعاً ادبياً جديداً ام قديماً ام خليطاً منهما ام غير ذلك. وأرى انها سيرة لكاتبها لكنها تختلف عن السير الاخرى في سمتين بارزتين: اولاها انها «غير ذاتية وغير موضوعية» في آن واحد ، ذلك ان المسيري يكتبها كمثقف عربي مصري يسرد رحلته الفكرية ولا يروي قصة حياته الخاصة بتفاصيلها وبالتالي فهي غير ذاتية ، وهي غير موضوعية باعتبارها ترصد تحولات كاتبها في الفكر والمنهج ، وهذه جوانب جزئية - على اهميتها - من حياة المسيري ، علاوة على انها سيرة انتقائية للافكار التي طوّرها ، وللاشخاص الذين أثّروا في حياته.
اما سمة الاختلاف الثانية فهي ان الكاتب قدّم سيرته من خلال موضوعات اساسية ، لا من خلال تسلسل زمني يرصد تاريخيا مراحل حياته وتطوراتها وانجازاتها ، بيد ان الكتابة من خلال موضوعات ليست تقنية «مسيرية» خالصة ، فالمعروف ان المسيري وزوجته د. هدى حجازي قاما بترجمة كتاب «الغرب والعالم: تاريخ الحضارة من خلال موضوعات» وصدر عن عالم المعرفة الكويتية في مطلع عام 1986 ، وتشير السيرة الى ان المسيري ارتبط بعلاقة وثيقة مع مؤلف الكتاب (كافين رايلي) خلال دراسة المسيري واقامته في الولايات المتحدة ، ومن الواضح ان فكرة الكتابة من خلال موضوعات تقنية تأثر فيها المسيري بكتاب (رايلي) ، على ان المسيري ربما كان اول من طبق هذه المنهجية في بناء السيرة على رحلته الفكرية فعرضها من خلال عدد من الموضوعات الكبرى التي تتفرع منها مقولات اصغر وهكذا.
كان لا بد من هذا المدخل حول شكل السيرة التي كتبها المسيري لصلة ذلك بمحتوى الكتاب الذي يضيء الجانب الاهم من حياة هذا المفكر الذي كان وما يزال صاحب مشروع ثقافي ذي ابعاد حضارية إيمانية انسانية يثري الحياة العربية ويصقل جوانب اساسية في الهوية العربية ، لقد قرأت هذا الكتاب بتمعن شديد - وهو يستحق ذلك ، بل يقتضيه - فأيقنت ان المسيري قد اختار دوماً ان يطرق المسلك الصعب وان يرتاد دروب التحدي المستند الى الارادة والعزيمة والثقة بالنفس ، ومن هنا آثرت ان أرصد عالم التحديات الذي اقتحمه المسيري مسلحاً بعقل متقد وعلم واسع وبصيرة نافذة ، وفي مسار التجربة المسيرية يمكن رصد العديد من التحديات لكنها تحديات متجاورة ومترابطة بل متشابكة حيث عمليات التأثير والتأثر تتبادل الادوار وتتكامل فيما بينها.

تحدي الذات
«والتحدي» الذي أقصده في سياق هذه المقالة هو حالة من الاستعداد او هدف يسعى شخص ما الى تحقيقه وهو يعي حجم المصاعب التي تحول دون الهدف لكنه يحشد طاقاته وموارده وعزيمته لتحقيقه بالوسائل النبيلة ، واما «الذات» فتعني هنا الهوية والتميز والابداع والتجاوز ، وقد سعى المسيري الى تحقيق ذاته في صباه عبر مشاركته في الحركات الطلابية ، ثم انضمامه لجمعية مصر الفتاة وفي انتمائه فيما بعد لحركة الاخوان المسلمين ، ثم خروجه منها والتحاقه بالحزب الشيوعي المصري في منتصف الخمسينيات حتى نهايتها ، وكأن هذا الشاب اليافع كان يبحث مبكراً عن طريق يؤدي من خلاله دوراً لمجتمعه ووطنه وأمته ، في اول الطريق لم يرق له فكر الاخوان التقليدي ، فغادره ليختار الفكر الماركسي ، ليجد فيه بعد سنوات فكراً مادياً خالصاً لا يستجيب لمفهوم «الانسان ـ السر» ، او «الانسان الرباني» فأعرض عنه وغاص في عوالم الفلسفة والادب قارئاً ومحاوراً ناقداً يتفاعل بقوة مع ما يقرأ ، يحلل ويقوّم ، يقبل ويرفض بحثاً عن مستقر ، وبدا لي ان المسيري - من خلال سيرته - شديد التأمل في كل ما يرى ويقرأ ويسمع وهو دائم التأمل في ذاته وافكاره ومقولاته ونماذجه التحليلية ، ولا يجد غضاضة في تجاوزها وتطويرها اذا ما غدت بحاجة الى اعادة النظر.
حين عاد الى مصر حاملاً درجة الدكتوراه من الولايات المتحدة كان عليه ان يتحدى ذئاباً ثلاثة: ذئب الثروة (ينتمي المسيري لعائلة تجارية ثرية) ، وذئب الشهرة والذئب الهيجيلي المعلوماتي ، فيقول انه تغلب على الذئب الاول بان وظفه في خدمة مشروعه الفكري واستبدل به المعرفة والحكمة ، وحقق الثانية بسرعة شديدة حين وجد نفسه كاتباً في الاهرام وعضواً في لجان وطنية عديدة اما الذئب الثالث فقد تغلب عليه بصعوبة ، لكني أشك في ذلك.

تحدي المؤسسة التعليمية البيروقراطية
يتصف حديث المسيري عن المؤسسة التعليمية المصرية (مدارس وجامعات) بالنقد المرير والسخرية اللاذعة ، ففي زمن مضى كان التعليم مجانياً وممتعاً ، لكنه غدا بالتدريج غير مجاني بسبب ثقافة الدروس الخصوصية التي سادت - وما تزال - سلوك المجتمع المصري حتى اصبح التعليم «لا علاقة له بالتعليم» بل اصبح مجرد اكتساب القدرة على اجتياز الامتحانات ، ولم يركن المسيري في صباه الى المناهج والمقررات المدرسية اذ لم يجد فيها ما يطفىء ظمأه للمعرفة (الذئب الهيجلي) ، فانطلق الى المكتبات والاصدقاء يقرأ ما تقع عليه يداه في الادب والسياسة والفلسفة ، ويبدو انه في مرحلة الشباب الاولى قد قرأ الكثير من الادبيات الماركسية وأفاد منها في تدعيم اتجاهاته نحو مقارعة الظلم والفساد الاجتماعي ، ويشتد نقد المسيري حين يتناول التعليم الجامعي ويعتبره مسؤولا عن «تأخير تكوين المثقف في العالم العربي» ، وهو امر يعيق التنمية الانسانية ، لا بل انه يرى ان التعليم في مصر قد اصبح اشبه بنكتة باهظة التكاليف ، وبخاصة في ميدان الدراسات العليا ، اذ يفرض الاستاذ على طلابه اراءه وتحليلاته مثلما يفرض مذكراته التي يعدها لهم لشرائها ، حتى ان آفة الدروس الخصوصية قد بلغت ساحات الحرم الجامعي ، والنقد الاشد يطول الرسائل العلمية الجامعية وموضوعاتها التقليدية التي ترفض الجديد كما ترفض الاراء الشخصية للطلبة ، ناهيك عن اسلوب المحاضرات التلقينية ، في جامعة الاسكندرية تأثر المسيري - طالباً - بأستاذته (د. نور شريف) التي كانت تصغي اكثر مما تُلقي وتحاور اكثر مما تحاضر ، وتعقل اكثر مما تنقل ، وتحث ولا تحبط ، وهي ذات الاساليب التعليمية التي خبرها المسيري طالباً في الولايات المتحدة ، واتبع الطريق ذاته حين عاد استاذا للادب الانجليزي والمقارن في كلية بنات عين شمس ، وواجه في هذا السياق الكثير من العراقيل والعقبات البيروقراطية الجامعية.

التحدي المعرفي
اتسمت ذهنية المسيري - كما اسلفت - بالحراك المستمر والحرص على تجاوز الذات كلما انفتحت امامه آفاق اكثر رحابة وعمقاً ، لقد تجاوز مناهج التحليل احادية البعد في فهم الظاهرة الانسانية المركبة ، وطور لاحقاً تلك المسافة الفاصلة بين الانسان والطبيعة ، والخالق والمخلوق ، والجسد والروح ليصل الى اقتناع بالثنائيات الكونية الاساسية ، فالكون متنوع متعدد لا متجانس وهذا مناقض للاحادية المادية التي ترى جوهراً واحداً للانسان والطبيعة.
وفي منهجه المعرفي يرى المسيري ان دراسة اية ظاهرة انسانية تستلزم بالضرورة ادراك ظروفها التاريخية والاجتماعية لمعرفة الاسباب التي تقف وراءها ، ومن هنا لا يؤمن المسيري بفكرة القانون العام او القانون الواحد او الاجابات النهائية ، وعليه رفض ما أسماه «الموضوعية المتلقية ـ السلبية» وصك مفهوم «الموضوعية الاجتهادية» التي تؤمن بقدرة العقل الانساني على توليد المعرفة وانتاجها وابداعها.
انها حالة من التحدي العقلي المتواصل وصولاً الى نماذج معرفية تفسيرية للظواهر الانسانية ، والنموذج المعرفي كما يراه المسيري عبارة عن بنية تصورية او خريطة معرفية يجردها العقل من وسط كمّ هائل من العلاقات والتفاصيل والحقائق ، يستبعد بعضها ، ويُبقي على البعض الآخر فيصوغ منها نسقاً عاماً.
وفي هذا السياق قدم المسيري نماذجه المعرفية المهمة في العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة واشكاليات التحيز ، والجماعات الوظيفية وتطبيقها على الجماعات اليهودية والصهيونية وغير ذلك مما لا يتسع له المجال.
ويرفض المسيري كلاً من المادية الخالصة والمثالية الخالصة ، ويرى ان كلاً بمفرده مفهوم واحدى اختزالي ، اما حين يتقاطع المفهومان فاننا ندخل عالماً مركباً أبعاده هي عالم الانسان والاسرار ، كذلك يرفض المسيري مفهوم النسبية في طغيانه على جوانب الحياة كافة فيصيب القيم والمقدس والاخلاق بما ينزع القداسة عن العالم ويجعل كل الامور متساوية ، وفي هذا الصدد يرى ان مفهوم النسبية هذا قد فرغ الانسان الامريكي من الداخل وألقاه في مهب الريح.
والمسيري شديد النقد للحداثة الغربية وهو يقول ان نقده لهذه الحداثة «متأثر الى حد كبير بالنقد الغربي لهذه الحداثة ، وهو ما أفدت منه أيما افادة» ، وهو يؤمن بما أسماه «النسبية الاسلامية» ومفادها ان يؤمن الانسان بأن هناك مطلقاً واحداً هو كلام الله ، وما عدا ذلك هو اجتهادات انسانية ، اي ان كل ما هو انساني نسبي في علاقته بالمطلق الذي يوجد خارجه.

التحدي الحضاري
لعل من ابرز ملامح المشروع الفكري للمسيري رؤيته للحضارة الغربية التي هي في تصوره حضارة النموذج العقلاني المادي ، لا العقلاني فقط ، اذ استبعدت الكثير من العناصر الاخلاقية والانسانية لتسبيط الواقع بغية التحكم فيه ، ويرى ان منجزات هذه الحضارة انما هي ثمرة نهب موارد العالم الثالث وان هذه الحضارة ـ الحداثة ـ النهضة الغربية انما تمت على حساب العالم بأسره ويورد في هذا السياق مقطعا من قصيدة للسياب يخاطب فيها لندن ويقول:
ماذا سأكتب يا مدينة ـ فعلى ملامحك العجاف تجوب اخيلة الضغينة
سأقول انك توقدين ـ مصباح عارك من دم الموتى وجوع الاخرين
واستنادا الى رؤيته هذه تجاوز المسيري استخدام مصطلح «التراكم الرأسمالي» وصك بديلا عنه مصطلح «التراكم الامبريالي» ويرى ان اية محاولة لتفسير معظم الظواهر الغربية دون استرجاع لمفهوم الامبريالية كمقولة تحليلية ما هي الا محاولة ناقصة الى حد كبير ، ويستشهد بمقولة لجارودي يقول فيها ان الحضارة الامبريالية الغربية قد «خلقت قبرا يكفي لدفن العالم».
على ان من يقرأ كتابات المسيري حول الحضارة الغربية قد يتفق مع جوانب منها ويختلف في اخرى ، وذلك ان المسيري يركز على رموز اساسية في الفكر الغربي مثل نيتشه وداروين وماركس وويليام جيمس وآدم سميث وغيرهم اضافة الى سياسات وممارسات غربية مرفوضة بالفعل ، لكن تلك الحضارة - بالرغم من سلبياتها العديدة ، قدمت انجازات علمية وانسانية لا يمكن تجاهلها ، بحيث يصبح اصدار حكم ادانة قاطع امرا عسيرا. على ان المسيري يقول في سيرته ان الحضارة الغربية الحديثة قد بدأت انسانية هيومانية ، ولكنها اصبحت معادية للانسانية ، وانه من ثم يمكن الحديث عن حضارتين غربيتين حديثتين: واحدة متمركزة حول الانسان ، والاخرى متمركزة حول المادة.
وتقديري ان العداء للانسانية مرتبط مباشرة بالمؤسسة السياسية ، العسكرية الامنية ، الاعلامية الغربية ، والامريكية بخاصة ، اي بصانعي القرار السياسي الغربي ، وهذا امر قائم يمكن بسهولة قبوله والدفاع عنه ، وليس بالضرورة ان يمثل هؤلاء الحضارة الغربية بوجوهها ومكوناتها ومنجزاتها كافة، ولعل السنوات الاخيرة تشير بالملموس الى حجم المعارضة الشعبية الغربية للممارسات العدوانية للزعامات السياسية والعسكرية الغربية.
على ان المسيري لا يرفض الحداثة بالمطلق ، ويرى ان الحداثة الجديدة المطلوبة هي تلك التي تتبنى العلم والتكنولوجيا ، ولا تضرب بالقيم او الغائية الانسانية عرض الحائط ، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب ، تنمي وجودنا المادي ولا تفكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود ، تعيش الحاضر دون ان تنكر التراث.

تحدي الصهونية
يخال الى من لا يعرف المسيري عن قرب انه استاذ في العلوم السياسية او التاريخ او علم الاجتماع بالنظر الى نشاطه الواسع في مجابهة الصهيونية وانجازاته الفكرية والاعلامية الغزيرة حولها. والحقيقة ان المسيري - قبل تقاعده الاكاديمي - كان استاذا للادب الانجليزي المقارن في كلية بنات عين شمس ، ثم في جامعة الملك سعود وجامعة الكويت فيما بعد ، وهذه مسألة مثيرة للانتباه ، على اية حال لاستاذ في الادب خصص جانبا يسيرا من حياته وفكره للمهمة الاكاديمية دونما تقصير ، وكرّس الجزء الاكبر منها في دراسة الصهيونية واليهود واليهودية ، وانفق من ماله الخاص الكثير ليتمكن من انجاز مشروعه التاريخي ، وأزعم ان المسيري يقف اليوم في مقدمة المفكرين والمتخصصين العرب في الشأن الصهيوني ، بل ازعم انه اعمق من كتب في هذا الموضوع تأطيرا وتنظيرا وتفسيرا في الساحة العالمية قاطبة ، ولم يكن اطراء مجانيا وصف د. انيس صايغ للمسيري بانه «مؤسسة في رجل ، ورجل في مؤسسة».
والحقيقة ان ما انجزه المسيري في ميدان الصهيونية كمجال معرفي عبر تفكيك مقولاتها وهدم مرتكزاتها التاريخية ومبرراتها الايديولوجية ، انما يمثل اختراقا اصيلا وشاملا للفكر الصهيوني برمته ، ويكفي ان نشير هنا الى «الموسوعة» التي قدم فيها المسيري رؤية فكرية فلسفية شاملة للمفاهيم والمقولات والاطروحات الصهيونية والادوار الوظيفية لجيبها الاستيطاني في فلسطين وللجماعات اليهودية في اربع ارجاء الارض ، ووصوله الى حقيقة موجزها ان الصهيونية معادية للتاريخ والانسان والقيم ، وان تأييد الغرب لاسرائيل انما هو خدمة لمصالحها اولا ، وجزء من نمط فكري اكبر راسخ في الوجدان الغربي ، والايمان الكامل بالبراجماتية المستندة الى ارضية داروينية صلبة شرسة والايمان الكامل بشريعة القوة والغاب والامبريالية والعنصرية لا شريعة العقل والعدالة ، وما عدا ذلك ليس سوى تبريرات لا تصلح لتفسير هذا التأييد ، ولا يؤمن المسيري بمسألة النفوذ اليهودي واليد الحديدية اليهودية ويراها أساطير لا سند لها في التاريخ والواقع ، كما لا يعترف بوجود ثقافة يهودية او شعب يهودي ، ولا يؤمن ببروتوكولات حكماء صهيون ، ويرى ان الغاية الكبرى منها تثبيت تصورات وهمية في الذهنية العربية تؤدي الى احباطهم ، وتصورات اسطورية في اذهان الصهيونية من شأنها ان تُبقي العربي منكسرا من داخله. وهو لا ينكر «المحرقة» بل يراها في اطارها التاريخي كجزء من التاريخ الاوروبي ، بمعنى انها ليست تجربة يهودية عامة ، بل تجربة اوروبية خاصة.
وتسرد السيرة الكثير من المواقف والنشاطات الاعلامية للمسيري في الولايات المتحدة ويشير الى انه تلقى شخصيا سيلا من الخطابات من جماعة كاخ الصهيونية وصلته في خريف عام 1983 تطلب منه التوقف عن نشاطه المعادي والا اردوه قتيلا ، وفي 21 ـ 2 ـ 1984 اعترف كاهانا لصحيفة «ايديعوت احرونوت» بأنه هو الذي ارسل تلك الرسائل ، وعندها اخذت الاجهزة الامنية المصرية الامر على محمل الجد ووفرت للمسيري حماية شخصية ، ان المسيري الذي اخذ على عاتقه تحدي الصهيونية فكرا وممارسة ، تبنى بالمقابل القضية الفلسطينية التي تحولت - حسب قوله - نقطة الثبات والتجاوز ، ذلك انها قضية الحق فيها واضح غير مُبهم ، ولا يمكن للانسان ان يرفضها الا من منظور دارويني مادي شرس.
واتسعت في ضميره تلك القضية لتصبح رمزا للتاريخ الانساني بأسره ، ولا بد هنا من الاشارة الى ان المسيري كتب دراسة حول الانتفاضة الاولى هي اهم ما كُتب عنها حتى اليوم.

التحدي الديني
اشرت فيما سبق الى ان المسيري عاش تجربة تحول في مرحلة فكرية معينة من المادية الى الفلسفة الاسلامية ذات البُعد الايماني الانساني ، وتبقى السمة الاساسية للمسيري انه فيلسوف ايماني الاقتناع ، انساني النزعة والرؤية.
يقول الكاتب: «لقد لازمني داء التأمل عبر حياتي ، ولم يولد الايمان داخلي الا من خلال رحلة عقلية طويلة ، ولذا فايماني ايمان تأملي عقلي لم تدخل عليه عناصر روحية ، والى ضرورة اللجوء الى مقولات فلسفية اكثر تركيبة» على ان تجاوز المسيري لفكر الماركسي لا يعني انكار رؤيتها للمجتمع ، فهو ما يزل يعتقد بان الماركسية «رؤية كلية نقدية للواقع ، ترى الواقع في ترابطه وفي كليته ، وترفض رؤية سطح الاشياء بحساباتها الحقيقية ، بل تحاول النفاذ الى بنيتها الكامنة او جوهرها ، ثم تطرح رؤية ثورية باسم الجوهر او «قوانين التاريخ» متجاوزة الحقيقة المادية القائمة».
وحول العلاقة بين العلمانية والدين والدولة ، لا يرى المسيري غضاضة في الفصل بين الدين والدولة ، ويطلق على هذه الوضعية مفهوم «العلمانية الجزئية» وفي حوار اجريته معه قال المسيري ان «العلمانية احتلت الجزء الاساسي في مشروعي الفكري ، فقد قيل لنا ان العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة ، وهذا تعريف لا بأس به ، وانا لا مانع عندي من فصل الدين عن الدولة اذا كانت الدولة تعني مجموعة الاجراءات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية ، فانا ومعي كثير من المفكرين الاسلاميين لا نحب ان نرى المشايخ يهرولون في طرقات وزارتي الخارجية والدفاع ويصدرون الفتاوى بخصوص الامور الفقهية التي لا يعرفها غير المتخصصين ، ولا احب ان اجلس في لجنة تناقش استراتيجية مصر القادمة خلال القرن الحادي والعشرين ويجلس الى جواري احد الشيوخ الذي لا يعرف الا اقل القليل عن الاستراتيجية».
على ان المسيري يميز بين هذه العلمانية الجزئية ، وما يسميه «العلمانية الشاملة» التي تعني في فلسفته فصل القيمة عن الحياة ، بحيث يصبح العالم مادة استعمالية لا قداسة لها ، تسري عليه قوانين مادية واحدية صارمة لا تميز بين الانسان والطبيعة. ان المسيري الذي خاض تحديه الذاتي المعرفي في مسألة التحول ، كان عليه ان يتلقى نقدا شديدا من رموز اليسار التقليدي ، ونقدا مريرا من رموز الاصولية الاسلامية الذين يرون في اطروحة العلمانية الجزئية مغامرة قد تخرجه من دائرة الدين.
ويشير المسيري الى موضوع التسامح الديني ويستحضر ذلك الزمان المصري الذي سادته روح التسامح بين المسلمين والاقباط وعلاقة المحبة التي كانت تربط المصريين ، ويشيد بدور المعلمين الاقباط في دمنهور «حيث نشأ» ويقول هذا ويشعر بغصة في الحلق متسائلا ما اذا كان بالمستطاع اعادة انتاج تلك الروح في المجتمع المصري «الحديث» الذي «أصيب بعض افراده بلوثة في موضوع الدين». والمسيري ، الذي يرى ضرورة ربط الدين بالسلوك ، يستغرب ان يرى في الجامعة - على سبيل المثال - «فتاة محجبة ، متمسكة بأهداب الفضيلة ، لكنها لا تتورع عن الكذب على الاستاذ والغش في الامتحان» ، ويفسر هذا السلوك بقوله ان المفهوم التقليدي للقيم الاخلاقية يركز على تفعيلها في مجال الحياة الخاصة وحسب ، وان الحياة العامة تقع خارج نطاق الاخلاق.

التحدي الادبي
لعل غزارة الانتاج الذي قدمه المسيري في ميادين الحضارة والمعرفة والصهيونية قد حجب جانبا مهما من منجزاته الادبية. علما ان هذه الميادين مضافا اليها الادب ، تمثل مجالات معرفية مترابطة في فكر المسيري، وهو يقول انه مما ساعد في ترسيخ النموذج المركب للانسان في وعيه الباطن دراسته للادب ، اذ يكاد الادب يكون التخصص الوحيد الذي ما يزال ينظر الى الانسان كانسان ، ككل مركب لا يمكن رده الى عنصر او عنصرين في الواقع، ولا يمكن تفسيره في ضوئهما:
ويتمثل التحدي الابرز الذي واجهه المسيري في حياته الادبية الاكاديمية حين قرر ان يقارن - في رسالته للدكتوراه - بين كل من «ويردز ويرث» و«يتمان» في جامعة تجرز بالولايات المتحدة ، وخلص فيها الى ان ويتمان الذي يسمونه في الولايات المتحدة شاعر الديمقراطية الامريكية ، «انما هو في واقع الامر شاعر الشمولية والفاشية وموت التاريخ والانسان». اذ يرى المسيري ان ويتمان رأى في امريكا الفردوس الارضي ، قمة كل التطور التاريخي السابق ، دولة العالم والتكنولوجيا التي ستهدم التاريخ وتعلن نهايته ، قبل ان يصدر فوكوياما رأيا كهذا في اواخر الثمانينيات مبشرا بانتصار الليبرالية المؤدي الى نهاية الطريق.
واكاد اوقن ان رأيا كهذا لا يروق لكثير من المثقفين والادباء والعرب «وبالطبع للشاعر الكبير سعدي يوسف الذي ترجم شيئا من «اوراق العشب» لويتمان» فكيف يكون حال الاساتذة الامريكيين الذين يرون في ويتمان زعيما للثورة الشعرية الامريكية ، على ان المسيري يسجل للمجتمع الاكاديمي الامريكي قدرته على تحكيم الاصول العلمية في البحث الاكاديمي بصرف النظر عن الاراء الشخصية للمحكمين والمهتمين ، هؤلاء الذين منحوه - وان على مضض - درجة الدكتوراه في الادب.
وحين اتفق مع استاذه د. مصطفى بدوي على اعداد رسالة الماجستير عن اثر الشعر الرومانتيكي وبودلير على جماعة ابولو وناجي تحديدا ، يقول المسيري ان ذئب المعرفة الهيجلي قد بدأ ينهشه فراح يقرأ عيون الادب العربي قديمه وحديثه ، والمازني والعقاد وطه حسين وغيرهم ليهيئ لنفسه ارضا صلبة من المعرفة الادبية.
في الولايات المتحدة تأثر المسيري بأستاذه ليونيل تريلنج بل فكر ذات يوم في ان يكتب عنه رسالته للدكتوراه ، هذا الناقد الامريكي الشهير الذي آمن بأن المجتمعات الحديثة تقضي على انسانية الانسان وفرديته وتدجنه وتؤدي الى زيادة التنميط وهيمنة النماذج الآلية على الحياة الانسانية بأشكالها كافة.
وتأثر الكاتب ايضا بمدرسة النقد الجديد ومقولاتها الفلسفية والنقدية ، واعجب بماير ابرامز ورينيه ويليك وتشومسكي الذي اجرى معه حوارا فكريا مهما في مصر. واعجب بمحفوظ والطيب الصالح ، وفي الفن كان من اوائل من اكتشفوا فيروز ، ولم يحسن الاستماع لام كلثوم ، واعجب بالفن الانطباعي والعمارة الاسلامية وحول منزله الى متحف للحضارة.
اما على صعيد المساهمة في الادب الفلسفي ، فقد قدم المسيري ترجمات مهمة لنماذج من شعر المقاومة ومختارات من قصائد محمود درويش الذي يكن له اعجابا شديدا وتقديرا عاليا ، لا بل انه يقول ان شعر درويش جعل المسيري يشعر ان الانسان الفلسطيني هو الانسانية جمعاء ، والنضال الفلسطيني رمز للانسان في عالم واقعي مادي. يقول المسيري: في عام 1965 قرأت لاول مرة اشعار محمود درويش. من اعماق الارض المحتلة جاءنا صوت امير شعراء العرب في العصر الحديث يقول:
أسأل حكمة الاجداد ـ لماذا تسحب البيارة الخضراء ـ الى سجن ، الى منفى ، الى ميناء ـ وتبقى رغم رحلتها ـ وبرغم روائح الاملاح والاشواق ـ تبقي دائما خضراء».
ويرى المسيري ان شعر درويش يفيض بروح جهادية تنطلق من مقدرة الانسان على التجاوز ، وان ظهور درويش بحد ذاته كان بالنسبة للمسيري اشبه بمعجزة ، فهذا هو شاعر الهوية العربية يصدح بالغناء بالعربية الفصحى في ارضه برغم وجود دولة استيطانية احتلالية قوية مسلحة تبذل قصارى جهدها لان تلغيه ، وتلغي تاريخه وتنكر وجوده.
وكان المسيري دائما يخوض مسيرة التحدي الادبي ، فيكتب الشعر وادب الاطفال ويحلق ، بين الحين والاخر ، في عالم كان يطمح فيه ذات يوم الى ان يكون واحدا من نقاده الكبار ، لكنه آثر ان يحاصر الصهيونية بدلا من ان تحاصرنا ، وان يكرس شيئا من وقته الثمين للادب ، وكان في ذلك كله مبدعا بلا شك.
وختاما ، ويبدو انه ليس لجهد هذا المفكر من ختام، فان قيمة هذه السيرة تتمثل في تأمل حياة رجل قدم نموذجا فريدا في ادارة عقله ووقته وموارده وحياته ومعرفته لكي ينتصر للقيم الانسانية الكبرى في مواجهة الظلم والفكر الفاسد، مبشرا بقدرة الانسان على التجاوز، ان العقود التي قضاها المسيري ناسكا في محراب المعرفة، لم تصرفه عما يجري حوله، فاسلمت له «كفاية» قيادتها في الاونة الاخيرة باعتزاز وثقة ولكم هو جدير بحمل هذه الراية.
ـــــــــــــــــ
جريدة الدستور الاردنية
25-01-2008