انتفاضة سنة 1952...وكيف سقطت وزارة مصطفى العمري؟

انتفاضة سنة 1952...وكيف سقطت وزارة مصطفى العمري؟

■ فاطمة عدنان شهاب الدين
توسعت شقة الخلاف بين البلاط الملكي والاحزاب السياسية التي طالبت منذ ايام وزارات توفيق السويدي الثالثة ونوري السعيد الحادية عشر بضرورة تعديل قانون الانتخابات، بجعله انتخاباً مباشراً على درجة واحدة وشددت حملتها مطالبة بالتعديل بعد تأليف وزارة مصطفى العمري فقدمت الاحزاب الوطنية مذكرات الى الوصي عل عرش العراق الامير عبد الاله في 28 تشرين الاول 1952.

ولما ظهر للاحزاب السياسية ان فكرة تعديل قانون الانتخاب بمرسوم يميز جعلها على درجة واحدة مع ضمانات حريتها بعيدة المنال، اعلنت في 2 تشرين الثاني 1952 مقاطعتها للانتخابات الجديدة ودعت الشعب الى العمل على احباطها وعرض رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي على الوصي ان يجتمع بساسة البلاد ورؤوساء الاحزاب ليقف بنفسه على الاراء في هذه المذاكرات.
وتم عقد هذا الاجتماع في البلاط الملكي في 4 تشرين الثاني 1952 وكان برئاسة الوصي ، حضرة كل من توفيق السويدي ونوري السعيد وجميل المدفعي وعلي جودت الايوبي وحكمة سليمان وطه الهاشمي وارشد العمري وصالح جبر ومحمد الصدر من رؤساء الوزارات السابقين ، وكامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي ومحمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال واحمد مختار بابان رئيس الديوان الملكي الذي انفض دون الانتهاء لنتيجة ايجابية.
ورأى مجلس الوزراء في الوضع المتأزم ما يستدعي الحكمة.فاعلن رئيس الوزراء ببيان له من دار الاذاعة في 16 تشرين الثاني بان الوزارة تتبنى مبدأ الانتخاب المباشر وانها تواصل العمل لتحقيق الاصلاح واعداد اللوائح القانونية لتعديل قانون الانتخابات لترفعها الى البرلمان الجديد وانها قررت تأليف لجنة تضم كبار خبراء القانون والادارة لانجاز تلك اللائحة وان يساهم فها ممثلون الاحزاب وبالفعل فقد دعت الوزارة في 17 تشرين الثاني كل الاحزاب لانتداب من يمثلها في وضع لائحة الانتخاب المباشر.
الا ان الاحزاب وبضمنها حزب صالح جبر "الامة الاشتراكي" رفضت تعاونها باستثناء حزب نوري السعيد "الاتحاد الدستوري" الذي اظهر استعداداً للتعاون مع اللجنة، اخذت الاحزاب الوطنية تشعر بعد حادث (اجتماع البلاط) بان واجبها قد تضاعف كثيراً وان مسؤولياتها تجاه الرأي العام قد ازدادت ويضاف الى ذلك انها اصبحت بوضع تعرقل به عمل الخير فمن يريد ان يعمل في وقت يشتد فيه ضغط الرأي العام . بضرورة تأليف جبهة وطنية موحدة لتجابه الوضع السياسي بما يقتضي الحال لذا عقد اجتماع في 17 تشرين الثاني حضره ممثلين عن حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي والجبهة الشعبية المتحدة وانصار السلام وكانت حصيلة هذا الاجتماع تشكيل هيئة ارتباط بهدف التنسيق فيما بينها لضمن وحدة العمل عند التحرك ضد الحكومة.

انتفاضة 23 تشرين الثاني 1952

ارتأت كلية الصيدلة والكيمياء في بغداد ان تدخل تعديلات على نظامها الداخلي بجعل الطالب المعيد في بعض الدروس معيداً في كافة مواضيع صفه . "نص تعديل الفقرة (ج) من المادة (34) من هذا النظام "على الطالب المعيد اعادة كافة مواضيع الصف الذي يرسب فيه" . فعد طلاب هذه الكلية التعديل اجحافاً في حقوقهم ، حملهم على الاحتجاج فالاضراب عن الدوام اعتباراً من يوم 26 تشرين الاول 1952 ، وقد اتسع الاضراب فشمل كليات اخرى كالطب والحقوق والتجارة وغيرها تضامناً مع كلية الصيدلة والكيمياء حتى يلغى التعديل المذكور.
واعلن الطلبة المضربون عن تأييدهم لمطالب الاحزاب السياسية التي وردت في مذكراتهم المرفوعة للبلاط لانهم المعبر الحقيقي عن مطالب الشعب وطالبوا الحكومة الاستجابة لها.
وفي حقيقة الامر كان الطلبة المضربون ينتمون الى الاحزاب السياسية المعارضة فلا غرابة اذا ما اعلن هؤلاء الطلبة عن تأييدهم لمطالب الاحزاب لان هذه الاحزاب كانت قد زودتهم بتعليمات مسبقة تؤكد عليهم الاستمرار بالاضراب ثم دفعتهم للقيام بتظاهرات ضد الحكومة بهدف الضغط عليها والاستجابة لمطاليبها.
وقد هزأ وزير الصحة عبد الرحمن جودة بالاضراب فلم يعره اهتماماً ، فلما استمر بضع ايام ، اضطرت الوزارة الى ادخال تعديل اخر في 16 تشرين الثاني الغت بموجبه مواد التعديل السابق.
والظاهر ان تدبير وزارة الصحة لم يرضِ عماد كلية الصيدلة والكيمياء فحدث مالم يكن في الحسبان ، اذ دخل واقتحم اربعة اشخاص قيل انهم مجهولون حرم كلية الصيدلة والكيمياء في اليوم المذكور وانهالوا على الطلبة ضرباً ولكماً وعندما خرج بقية الطلاب من صفوفهم اشتبكوا مع الاشخاص المهاجمين فاسفر الاشتباك عن اصابة عدد من الطلاب بجروح منوعة ، ولما حضرت الشرطة الى الكلية قبضت على ثلاثة من المعتدين بينما فر الرابع.
وكان المعتقد ان عميد الكلية واحد المعيدين قد حرض هؤلاء الاشخاص على الاعتداء على طلاب الكلية .
فاعلن الطلاب ان هذا الاعتداء كان مدبراً ، وان الذي دبره ، هو عميد الكلية الدكتور يحيى عوني صافي ، وبعض الاساتذة ، وانهم يعلنون الاضراب العام حتى يأخذ العدل مجراه ويقصى العميد ومن ساعده عن الكلية.
وقد استغلت الاحزاب السياسية الوطنية ومنظمات الطلبة تلك الحادثة فانتشر الاضراب وشمل كليات ومدارس اخرى بالرغم من عزل العميد مؤقتاً تضامناً مع كلية الصيدلة والكيمياء وان الاضراب سيستمر حتى تجاب مطاليب الطلاب في هذه الكلية.
رابطة الشباب القومي
وهكذا ما اعلنت الكليات تضامنها وتوسع الاضراب وانتقل كل شيء الى الشارع بعد ان ظهر من خلال تطور الحدث ان الحكومة هي التي تريد الاصطدام بالناس على هذا الشكل ولكن لسوء حظ الحكومة والبلاط ان الامور تطورت الى شيء لم يسبق له مثيل في العراق.
وكان لابد للحكومة من تهدئة الرأي العام ، واختلاق الاسباب لدخول المجهولين الى حرم الكلية المصان ، فأصدرت البيان الرسمي :
"نشرت بعض الصحف اخباراً وتعليقات مختلفة حول حادث الشجار الذي وقع في كلية الصيدلة والكيمياء وقد ذكرت الجهات الرسمية المختصة ، ان حقيقة الحادث المذكور هي ان احدى الطالبات لم تشترك في الاضراب الذي جرى اخيراً في تلك الكلية . فلما انتهى الاضراب اخذ بعض الطلاب في الكلية المذكورة يؤنبون تلك الطالبة ، على عدم اشتراكها في الاضراب ، مما حفز اخاها ورفيقين له على المجيء الى كلية الصيدلة والكيمياء ، والتشاجر مع اولئك الطلاب ، فأصيب البعض بجروح مختلفة ، وقبض على المعتدين ، واوقفوا بقرار من حاكم التحقيق. هذا ولا يزال التحقيق مستمراً في هذه القضية ولسلامة التحقيق ، مهدت عمادة الكلية الى احد الاساتذة وكالة ومن ذلك يتضح جليا ان الدوافع في هذه الحادثة شخصية بحتة".
أ. هـ . مدير الدعاية العام
لم يكن اضراب كلية الصيدلة والكيمياء حدثاً مفاجئاً وغير مرتبط بتطور واشتداد تأزم الاوضاع الداخلية في البلاد ، وانما كانت الاحداث الوطنية عبارة عن سلسلة مرتبطة احداها تكمل الاخرى .
فقد تطور اضراب الكليات سريعاً ، فاصدر رئيس مجلس التعليم العالي بياناً في 20 تشرين الثاني ناشد فيه الطلاب بان لا يستمعوا الى الجماعات الصغيرة التي اضربت عن الدراسة وقد جاء في البيان :
"ان جماعات صغيرة من طلبة المعاهد العالية اضربت عن الدراسة ، واخذت تحرض الكثرة الراغبة في الدراسة على الانقطاع عن الدروس" .
وناشد رئيس المجلس الطلاب بان لا يستمعوا الى هذه الجماعات الصغيرة التي تعمل ضد مصلحتهم ، ودعاهم "الى الدوام المنتظم ، والعودة الى الدراسة في جو يسوده الهدوء والنظام".
وقد كان لهذا البيان الاثر في ازدياد الجو توتراً مرة اخرى بسبب مطالبة الاحزاب بالانتخابات النيابية المباشرة ، ووجوب اصلاح الاحوال الداخلية جذرياً وموقف البلاط والحكومة من ذلك كله ، فحدثت اصطدامات مسلحة استغلته الاحزاب الساية ومنظمات الطلبة وانتشر الاضراب بين الكليات والمدارس الاخرى.
واجتمع الطلبة مرة اخرى في 21 تشرين الثاني وقاموا بالتظاهرات والقيت الخطب والهتافات التي عبرت عن مشاعر الرأي العام . وتوجهوا الى باب المعظم ومنطقة "الفضل" حيث وقعت بينهم وبين قوة "الشرطة السيارة"اشتباكات بالحجارة والعصي مما ادى الى وقوع عدد كبير من الجرحى بين الطرفين وقد استمت الاشتباكات بالقسوة البالغة من جانب الشرطة التي قابلها المتظاهرون بهجمات مضادة اكثر عنفاً . وكانت تهتف جماهير الطلبة "نريد خبزاً لا نريد رصاصاً " وهو تعبير عن حالة الغلاء الفاحش التي اجتاحت البلاد انذاك .
وفي صباح يوم السبت الموافق 22 من تشرين الثاني 1952 صحت بغداد بقيادة طليعتها الواعية الممثلة في شباب العراق الجامعي ، الناقم على الاوضاع الشاذة ، الكاره للحكم الفسوق ، وهو يردد الهتافات المعبرة عما يعج في نفوس ابناء الشعب ، وما يتفاعل في اوساطهم ، وكانت الكليات ، ومختلف المدارس الثانوية على ميعاد في اعلان الاضراب.
وتجمع طلابها في معاهدهم وترديدهم الهتافات الوطنية ، ثم خروجهم على شكل مظاهرات .
وكانت الساحة المقابلة لمبنى كلية العلوم والاداب ملتقاها ، حيث تجمعت قوات الشرطة وحدث الاشتباك الاول .. وجمعت الشرطة فلولها من كل مكان ، وكانت الشوارع الرئيسية تعج بسيارات الباص ، الملائى بالشرطة الذين يرتدون الخوذ الفولاذية ، فحدث اشتباك كانت اسلحة الصراع فيه العصي والحجارة ، وقد انتهى بتفريق المتظاهرين بعد ان اصيب عدد من الجانبين بجراح مختلفة... وجاءت الانباء بعد ذلك تشير الى التحام المتظاهرين بالشرطة في المنطقة الممتدة بين ساحة زبيدة ، ومحلة الفضل من شارع غازي ... وبعد الالتحام الذي حدث بين الجانبين ، ثارت الطلقات النارية ، وسقط عدد من المتظاهرين جرحى ومصابين باصابات خطيرة .. وذكر ان احد ضباط الشرطة اطلق النار من مسدسه فأصاب طفلاً نقل الى المستشفى الملكي وهو في حالة خطرة".
وكان لحزب الاتحاد الدستوري "حزب نوري السعيد وخليل كنه وجماعتهما" لوحة معلقة على مقره تحمل اسم الحزب ، فاذا بالمتظاهرين يرفعونها ويعلقونها على مدخل باب المبغى العام ، امعانا في اهانة الحزب والمنتمين اليه.
ورفع المتظاهرون الهتافات وشعارات ضد الحكومة والانكليز وطالبت استقالة الحكومة واجراء انتخابات مباشرة "وكانت الهتافات تتعالى لتسقط حكومة العمري" ، "تسقط الانتخابات المزيفة" ، "يسقط الخائن عبد الاله" ، "ويا ايها المستعمرون الانكليز والامريكان ارحلوا عن بلادنا".
لما عجزت الشرطة المحلية عن تفريق الطلاب وانهاء اضرابهم وتحولت مظاهراتهم الى نطاق سياسي شعرت السلطات العليا بمدى خطورة الوضع واقتنعت بأن النظام العام اصبح مهدداً بالخطر فأوعزت الى وزير الداخلية اتخاذ الاجراءات الضرورية لقمع التظاهرات ، فطلب الى امرية القوة السيارة المرتبطة به ، بكتاب المستعجل ، ان تهيئ قوة كافية لتولي معالجة الموقف المتأزم فعملت على :
‌أ.يكون الفوج الاول – ناقصاً فصيل الاسناد – بأمرة متصرف لواء بغداد ، ويتلقى الاوامر منه ، ويجري توزيع سراياه كما يلي:
1.السرية الاولى مفرزة غازات الفوج الرابع الى معاونية شرطة الكرخ .
2.السرية الثانية الى معاونية شرطة السراي.
3.السرية الثالثة الى معاونية شرطة العبخانة مفرزات غازات فوج الوشاش الاولى .
4.يكون مقر الفوج السادس في مركز شرطة السراي ليتلقى اوامر بواسطة مدير شرطة بغداد من المتصرف .
‌ب.يتسلح الافراد بالسلاح مع الخوذة الحديدية.
‌ج.ينقل الافراد بالسيارات اللوري التي هيئت من قبل امرية السرية النقلية الالية.
‌د.اتخذت رئاسة الصحة التدابير الصحية اللازمة للاسعاف.
هذه الخطة التي وضعتها "امرية القوة السيارة" بأمرها المرقم س.أ.و924 و المؤرخ في 22 تشرين الثاني 1952 فلما عرضت الى وزارة الداخلية ، طلبت "الوزارة" بكتابها المرقم س2422 والمؤرخ في 22 تشرين الثاني 1952 تعديل الفقرة (ب) من الخطة ، وتسليح الافراد بالعصي والهراوات ، بدلاً من السلاح والخوذ الحديدية ، فقد كان مصطفى العمري "رئيس الوزراء" القائم بمهام وزارة الداخلية من الاداريين الافذاذ الذين يحسبون لكل امر حسابه الدقيق .
وهكذا اضيفت قوة مؤلفة من الفوج الثالث بعد ان زودت بالعصي والهراوات ووضعت تحت امرة معاونية شرطة السراي ، كما ارسلت محطة لاسلكي الى معسكر الصالحية واخرى لمقر القوة السيارة ، فلما نزلت هذه القوة الى الميدان اصطدمت بالمتظاهرين.
واستعملت القوة قنابل الغاز المسيل للدموع ، وكانت معارك واشتباكات ، وكانت جروح وقتول واذا بالمتظاهرين يرفعون مذكرات جماعية تتضمن المطالبة الاتية :
1.الغاء الاجور الدراسية .
2.تأييد مذكرات الاحزاب السياسية .
3.تأييد مذكرة لانصار السلام كانوا قد رفعوا الى البلاط الملكي من قبل.
اصدرت الحكومة بياناً اوضحت فيه حرصها على تفادي الاضطرابات وناشدت المتظاهرين الى الحفاظ على المصلحة العامة وقد جاء في البيان.
"في صباح هذا اليوم ، قامت جماعة من طلاب المدارس بمظاهرة ، فاندس بينهم بعض المتطرفين ، وكان قسم منهم يحمل المسدسات والالات الجارحة ، فعملت الشرطة المجردة من السلاح الى تفريق المتظاهرين ، صيانة للامن وحفظاً للنظام ، الا ان المتظاهرين هاجموهم فجرح 38 من الشرطة و 14 من الاهلين بينهم قتيل واحد"

موقف وزارة المعارف

"وارتأى المسؤولون في وزارة المعارف ايقاف الدراسة في المعاهد العالية عسى ان يحول ايقافها دون تجمع الطلاب ، وتجدد المظاهرات ، فـ"قرر مجلس التعليم العالي ايقاف الدراسة في المعاهد العالية ابتداء من صباح الاحد المصادف 23 تشرين الثاني 1952 الى اشعار اخر" .
كما قرر مجلس المعارف بجلسته المنعقدة يوم 22 تشرين الثاني 1952 ايقاف الدراسة في جميع مدارس العاصمة على اختلاف درجاتها رسمية كانت او اهلية او اجنبية الى اشعار اخر.
امتدت المظاهرات الى مناطق بغداد الاخرى وبعض مدن العراق مثل كربلاء ، والحلة ، والنجف ، والديوانية فالناصرية والبصرة فقد كان في هذه المدن اعضاء بارزون في الحزبين السياسيين المعروفين حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطية يستغلون تلك الاحوال ، وينفتحون في تلك الجذوة كي يزيدوها خرماً.
فقدت الاحزاب السياسية السيطرة على المتظاهرين وضعف افراد الشرطة امامهم . الذين استؤنفو المظاهرات في غالبية مناطق بغداد اذ شملت شارع الرشيد والكفاح والفضل والكرخ والميدان والباب الشرقي وباب المعظم ورفع المتظاهرون شعارات ضد الحكومة والمستعمرين البريطانين وطالبوا باستقالة الحكومة ويرددون شعارات بسقوط حكومة مصطفى العمري وسقوط الوصي عبد الاله الذي وصفوه بالخائن.
ثم رفعوا شعارات تطالب برحيل الامريكان والبريطانين من البلاد.
بالاضافة الى خروج ، طلاب المعاهد العالية ، وطلاب المدارس المختلفة ، ومعهم العمال والكسبة ، يحملون الواحاً كتب عليها شعارات استفزازية وكلمات حفزت الشرطة للوقوف امام المتظاهرين واضطرتهم الى استعمال القنابل المسيلة للدموع ، فاذا باحد الطلاب يتلقى احدى تلك القنابل ويقذف بها على الشرطة ، واذا بالمتظاهرين يحرقون "مكتب الاستعلامات الامريكي" المقابل لسوق الصفارين بشارع الرشيد ، انتقاما لفلسطين وموقف امريكا منها.
واذا بجماعة اخرى تحاصر مخفر الشرطة الكائن في باب الشيخ وتقتل شخصين من افراده وتضرم النار فيه وان امرأة من الجنس المعبر عنه باللطيف تنتزع خرقتها التي تستر بها عورتها ، وتشبعها بالنفط وتحرق بها المخفر الذي حوصرت به افراد الشرطة وانقطعت النجدات عنهم" .
واذا بالناس يعتدون على "شرطي مكلف بالمحافظة على الامن ، فيجتمعون عليه وهو اعزل من السلاح ، وتتكاثر عليه الخناجر والسكاكين ، ويسحق ويهشم رأسه ، ويمثل به ، ويسحب في شوارع بغداد ، ثم تلقى عليه المواد الملتهبة ويحرق" ، مما دل على وجود هوة سحيقة بين الشعب والحكومة ، تمثلت فـي التمثيل بهذا الشرطـي المسكين ، عنوان هيبة الحكم وعز شرفه...".
وبعد ان سيطر المتظاهرون على مركز العاصمة ، وبعد ان هاجموا مقر جريدة (عراق تايمس Lraq Times) التي كانت تصدر باللغة الانكليزية ، واحرقوا مكاتبها، وكذلك مكتب الخطوط الجوية البريطانية لما وراء البحار ، ومكتب شركة نفط العراق البريطانية وهاجم المتظاهرون ايضا مقر حزب نوري السعيد ومجلس الاعمار.
وفي ذلك اليوم بعث السفير البريطاني ببغداد تروتيل برسالتين شفويتين الى رئيس الوزراء مصطفى العمري طالباً منه اتخاذ كل التدابير الضرورية لحماية الرعايا والاملاك الاجنبية.
لقد كان الهياج معبراً عن الوضع السياسي في العراق حيث كانت الطبقات المثقفة والفقيرة في المدن في حالة ثورة ضد الحكومة والنفوذ الاجنبي ، ولم تتمكن الشرطة من اعادة النظام في تلك الساعات ادرك الوصي ان زمام الامر قد فلت من يد الحكومة فاراد ان يعيد اليها اعتبارها وكلف حكمة سليمان بان يؤلف وزارة يختار اعضاءها بملئ حريته ولكن حكمة سليمان رفض التكليف لاعتقاده بان الوصي لا يكف عن التدخل بشؤون الوزارة.
فاستدعى الوصي جميل المدفعي وعهد اليه بتأليف الوزارة وما كادت الجماهير تسمع بذلك وتعرف ان المدفعي كلف بتأليف الوزارة الا وبدأت تهتف بسقوطه.
واستدعي بعض السياسين الى البلاط لاستشارتهم حول الوضع منهم محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال ، فقال كبة "ان العلاج هو النزول عند ارادة الشعب وتلبية مطالبه".
بعد اخفاق المدفعي بتأليف الوزارة اتصل الوصي عبد الاله بالفريق الركن صالح صائب الجبوري رئيس اركان الجيش السابق لتأليف الوزارة الا انه رفض ايضاً ان يشرك نفسه بالحياة السياسية.
واثثناء هذه الاتصالات لتأليف الوزارة بلغت المظاهرات اوجها في بغداد وبعض المدن العراقية ولم تتمكن الشرطة من اعادة الامن والنظام ، لذلك دعي الجيش للتدخل بأوامر عدم اطلاق النار ولكن نور الدين محمود رئيس اركان الجيش اخبر الوصي بأن النظام لا يستعاد ما لم يسمح للجيش باطلاق النار ، لذلك استدعي الوصي رئيس الوزراء مصطفى العمري ووزير الداخلية ووكيل وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش ومتصرف لواء بغداد لبحث الموقف وظهرت معضلة قانونية حول من يملك الصلاحية لاعطاء الامر الى الجيش باطلاق النار على المتظاهرين ، فمتصرف لواء بغداد او حسب قانون اللواء لا يستطيع اعطاء هذا الامر لوجود الاعلى منه هو وزير الداخلية.
كما بين وزير الداخلية ووكيل وزير الدفاع انه لا يستطيع اصدار مثل هذا الامر بدون اذن من قبل رئيس الوزراء او مجلس الوزراء . وذكر الوصي بانه راغب باصدار الامر الى رئيس اركان الجيش ولكنه ذكر انه شرعياً لا يستطيع ذلك بصورة مباشرة كل هذه الصعوبات القانونية كانت قد ظهرت بينما كان نور الدين محمود رئيس اركان الجيش منتظراً الامر للعمل.

استقالة وزارة مصطفى العمري

غير انًّ تطور الاحداث وتقديم مصطفى العمري استقالته بعد ان عد الاتصالات التي اجراها الوصي ببعض الشخصيات السياسية بدون علم منه لتأليف الوزارة جاءت طعنة للثقة التي منحت له .
كما شعر ان بقائه بالسلطة سيؤدي به الى ان يتحمل المسؤولية لوحده اضافة لرفضه منطق استخدام السلاح ضد المتظاهرين كما اعتبرها فرصة للتخلي من المسؤولية التي بدأ خطرها يتصاعد فقدم استقالته.
وفيما يلي كتاب استقالة الوزارة.
سيدي صاحب السمو الملكي العظيم :
اني لما تشرفت بثقة سموكم الغالية بتأليف الوزارة ، كانت خطتي ان تجري الانتخابات وفق القوانين المرعية ، في جو مشبع بالصفاء ، مع التزام الوزارة بالحياد التام . غير ان الظروف الخارجية والداخلية خلال هذه الفترة قد تغيرت ، وان بعض العناصر السياسية في العراق قد استغلت الوضع فاخرجته عن حالته الاعتيادية ، ولما كنت راغباً منذ تأليف الوزارة في ان اتجنب الاجراءات القاسية التي يتطلبها الوضع غير الاعتيادي ، فاني استرحم ان تقبلوا اعفائي من المسؤولية ، شاكراً لسموكم الايادي البيضاء التي اسديتموها علي ، واني ما زلت يا سيدي تحت تصرف سموكم لي الشرف بان اكون خادم سموكم المطيع المخلص" .
21 تشرين الثاني 1952
مصطفى العمري.
ان تطور الاحداث حثت الوصي لدعوة نور الدين محمود لتأليف الوزارة بالرغم من ان الوصي كان حذراً خلال السنوات العشر الماضية من الجيش وحاول ابعاده عن السياسة منذ احداث 1941 لكنه في تلك اللحظة الخطيرة اصبح مقتنعاً اكثر من أي وقت مضى بان تكليفه لاحد قادة الجيش المخلصين للعائلة الهاشمية اصبح امراً لا مفر منه وهو الحل الامثل لحماية العرش من التهديد الذي بان يشكله خطر الاضطرابات وفي الساعة الخامسة مساء يوم 23 تشرين الثاني عام 1952 تقرر تكليف نور الدين محمود الذي لم يبدي هو الاخر اعتراضه.