الموشحات..في الشعر النجفي... محمد سعيد الحبوبي

الموشحات..في الشعر النجفي... محمد سعيد الحبوبي

د. حسن الخاقاني
عمرت مدينة النجف بأعلامها المبدعين الذين ما ارتضوا الاكتفاء بما خلفه لهم السابقون بل راحوا يحتفرون لأنفسهم طريقا جديدة تبقى شاهدا على جدهم في اكتساب المعارف وتنميتها .لقد كان من بين ما التفتوا له حاجتهم إلى تجديد قوام الشعر وبعث روح جديدة فيه , وتوافق ذلك الشعور مع قدوم الموشح على أيدي زملاء لهم من الموصل الحدباء قدموا إلى هذه المدينة وبثوا فيها فنا جديدا ,

هو فن الموشح , فاقبل عليه النجفيون يتبارون في النظم فيه والافادة من إمكاناته الفنية لاغناء الحركة الأدبية والروح الشعرية الناهضة .
لقد كان دأب هذا البحث أن يرصد إفادة النجفيين من فن الموشح , وكيفية توظيفه لتلبية أغراض فنية وأخرى غير فنية , وقد تباين هذا التوظيف , ونمط الاستعمال بتباين الحقب الزمنية , واختلاف قرائح الشعراء والظروف المحيطة بهم , ولذا جرى عرض أهم الشعراء الذين نظموا في الموشح ليكونوا نماذج لتلك الحقب المختلفة والقرائح المتباينة , ولم يكن من شأن هذا البحث أن يتبع منهجا إحصائيا أو يحاول التسجيل لكل ما اثبت الشعراء في الموشح لان هذا يند عن الإمكان , ولا يتسع له المجال , وذلك لكثرة هؤلاء الشعراء , وكثرة ما تركوا من نظم لا يكاد يحيط به بحث , فضلا عن رسالة أو كتاب , لذا تكون مهمتنا الإشارة إلى هؤلاء الشعراء وطرائق إفادتهم من الموشح ,والسمات العامة التي وسمت الموشح في النجف , لتكون كل هذه الإشارات مفاتيح لدراسات أكثر سعة وأعمق تركيزا في دراسات مستقلة يتصدى لها الباحثون الأكفاء , والطلبة المؤهلون ليسلكوا هذا السبيل الجدد .
لقد حاول البحث أن يركز ضوءا على من لم يظهر اسمه في الدراسات واكتفى بالإشارة للمشهورين , أو الذين اخذوا حصة وافية من الدراسة كالسيد محمد سعيد الحبوبي مثلا , وحاول البحث أيضا أن يركز ضوءا على ما يمتاز به شعراء استعملوا الموشح بطرائق تختلف كثيرا عن الآخرين وكانت مصادر الدراسة في ذلك دواوين الشعراء , أو الموسوعات الشعرية التي ترجمت لبعض الشعراء وأثبتت بعضا من شعرهم ولاسيما (شعراء الغري) للمرحوم علي الخاقاني , أما أهم دراسة تناولت هذا الموضوع بلا منافس فهي : الموشحات العراقية منذ نشأتها إلى نهاية القرن التاسع عشر , للدكتور : رضا محسن القريشي التي تصدى فيها لدراسة الموشحات التي توافق الحقبة الزمنية لهذا البحث وهي القرنان الثالث عشر والرابع عشر الهجريان , وهما مبدأ النهضة الأدبية في النجف الاشرف.
الموشح :
من الفنون الشعرية التي استحدثها العرب في الأندلس ، وقد ساعدت بعض العوامل الفنية والاجتماعية على ظهوره ونمائه , وبقائه حين ماتت, أو تقلصت فنون أخرى ظهرت معه أو بعده .
لقد ارتبط ظهور الموشح بالغناء , ولا شك في أن بنيته تساعده على الاستجابة لهذا الفن , فهو فن شعبي قد يستعمل اللهجة العامية , أو يعتمد أحيانا على أجزاء من أغنيات شعبية , وذلك راجع إلى اختلاط العرب بالأسبان , وتمازج العادات واللهجات , وقد ساعدت الحرية التي وجدها الوشاح في تنوع شكل الموشح واحتماله لتنوع القوافي وإمكان النسج على أكثر من وزن واحد على المضي في النظم عليه توافقا مع الحاجة الدافعة , وإشباعا للرغبة الجامحة في التعبير عن مطالب النفس التي استطابت حياة الترف واللهو في بلاد ميزتها الطبيعة الخلابة , فكان الغزل والخمر ابرز ما نظم فيه الموشح بكلمات رقيقة , يزيدها الإنشاد والغناء جمالا وأثرا في النفوس .
محمد سعيد الحبوبي : ضم ديوانه حوالي تسع موشحات نالت من الشهرة والاستحسان ما جعلها مثار اهتمام الدارسين والمتذوقين في رقعة واسعة من مجالات النشاط الأدبي والنقدي , لا لشهرة صاحبها وعلو كعبه في النظم حسب وإنما لما جرى فيها من ألفاظ رقيقة مستساغة ولما طرقته من جرأة غزلية أعادت إلى الأذهان مواقف شعراء الغزل الحسي وقصصهم وما فيها من قوة السبك وحسن إدارة الحوار .
أما من الناحية الشكلية فإننا (نجد في موشحات الحبوبي طولا واضحا قياسا على ما هو معهود من طول الموشح , فقد تبلغ موشحة الحبوبي بيتا توشيحيا أي ما يعادل في قياس القريض (106) أبيات , ومن الطبيعي إن هذا الطول يحتاج إلى توظيف عناصر متعددة في هيكله مما يسهم في تميز بناء الموشح عند الحبوبي عن بناء موشحات غيره من سابقيه أو مجايليه) ولكنها تجري على نسق واحد متشابه البناء والألفاظ حتى صارت (وكأنها موشحة واحدة مطولة , ولا سيما وهي تلتزم بحرا واحدا هو الرمل , وبعروض وضرب ثابت هو "فاعلاتن , فاعلاتن , فاعلن") وهذا مما ساعد على الجري مع الموشحة في أدوارها المختلفة لسرعة الانسياب مع الوزن , وقلة التكلف في انتظام القافية , فيصبح النظم سهلا يسيرا قد يغري الناظم بالإطالة , وهو ما جعل موشحات الحبوبي كثيرة الأدوار , مكررة الألفاظ والمعاني ولا سيما أنها تجري في غرض محدد هو الغزل أو الخمر أو كليهما معا وفي مناسبات سعيدة , في اغلب الأحيان, تستطيب هذا الغرض تسرية عن النفوس التي تغرق في نشوة روحية وفكرية وفنية يحدثها انتظام الموشح وانسياب الإيقاع فهي تصور تجربة حية , يسندها خيال منتج, حتى كأنها تصدر عن حقيقة واقعة , كما اعتقد بعض الدارسين, وقد أغنى عن الوقوف المفصل عند هذه الموشحات كثرة الدراسات حولها لاشتهار صاحبها بهذا الفن حتى أخمل غيره.

* جزء من دراسة مطولة عن الموشحات في الشعر العراقي