نور العين الريحاني

نور العين الريحاني

قال لها نجيب الريحاني:"تروحي تيجي تتجوزي تتطلقي، فانت لي وحدي.. وانا احبك على كدة".. كانت فاتنة زمانها، يتتسابق الناس للتمتع بفتنتها عندما تظهر على المسرح فتقابل بالهتاف والتصفيق.. فاين هي اليوم من هذا الزمان.. الزمان القلب الغدار.. فهل تعرفها؟

عندما تحدثت الينا عن ماضيها، فتحت صندوقا قديما تملؤه ذكريات نصف قرن من الزمان، فانطلقت الذكريات كما ينطلق المارد من القمقم!
وكان المارد الذي حبسته الفنانة العجوز في قمقمها الخشبي، ماردا من الورق، كان كتلة هائلة صفراء من الصحف والمجلات القديمة، والخطابات الزرقاء التي اكتسبت زرقتها الحائلة بالتراب.
وكانت المجلات تتحدث عنها ايام مجدها وثرائها وفتنتها. اما الخطابات الزرقاء الحائلة فكانت همسات عشاقها او صرخاتهم، عشاق شبان، شاخوا الان ومسح النسيان حتى الذكريات من قلوبهم. وعشاق شيوخ، بهرهم منذ خمسين او اربعين عاما حسنها الفاتن، ولكن اعمارهم خذلتهم، ففارقوا دنياهم وقلوبهم تتلظى بالحسرة والوجد!
آه من الشباب الفاتن، عندما يتحول الى ذكريات شائخة!
وآه من المجد الكبير، عندما يتحول الى قصاصات من الصحف القديمة!
وآخ من الحب المشبوب، عندما يتحول الى بقايا رسائل غرامية غارقة في التراب!
لا شيء بقى في يدها من تلك الدنيا العريضة، دنيا الشباب والمجد والثراء والحب، دنياها التي كانت تمرح فيها قبل ثلاثين او اربعين عاما!
انها تحيا حتى الان، ويراها الناس يرونها على الشاشة، او المسرح، في ادوار تستغرق دقيقة او نصف دقيقة، فلا يعرفون حتى اسمها، ولا يلاحظون الا شيخوختها. وراغ وجهها من كل اثار الجمال!
لقد انفقت"صالحة"كل رأسمالها من الجمال، كما انفقت رأسمالها من الذهب والفضة!
ولم يبق لها الان – كما تقول – الا"الستر"!
والستر الذي بقى لها، لا يتعدى بضعة جنيهات تقبضها من نقابة المهن التمثيلية، كل شهر، وبضعة جنيهات اخرى تتقاضاها على ادوارها الصغيرة المتناثرة في الافلام والمسرحيات.
**
اسمها صالحة قاصين
قبل ثلاثين عاما كان اسمها لا يمر بالاسماع وحدها، بل يمر كذلك بالقلوب كانت حينذاك من اشهر ممثلات المسرح وجميلاته، وكانت تكسب مائة جنيه ذهبا في الشهر، والهدايا الثمينة تغمرها كسيل لا ينقطع.
اما القلوب التي كانت تحيط بقدميها فلم تكن تحصيها عددا، كانت قلوبا متنوعة شديدة التباين.
قلب العمدة الثري، مع قلب الشاب الفقير، مع قلب الفنان الكبير.
آه!.. قلب الفنان الكبير، ان اسمه لم يمت بعد، مع ان القلب وصاحبه ذابا في التراب منذ سنوات.
تقول صالحة:"كان نجيب الريحاني يجعل قلب الفنان الكبير، وكان قلبه يزاحم قلوب الاخرين ممن يملكون الثراء والجاه والشباب، وفاز قلب الريحاني في معركة الحب التي خاضها في سبيلي"!
ان قصة حب الريحاني لصالحة قاصين، لا يكاد يصدقها الذين يرون صالحة الان!
ولكنها – مع ذلك – قصة صحيحة، عاش فيها الريحاني واكتوى بنارها، وغيرت مجرى حياته، وخلقت منه اكبر ممثل كوميدي في الشرق!
وهذه هي القصة.
منذ نصف قرن التقى الريحاني وصالحة عندما كانت تعمل في غرفة غزيز عبد.
كانت في الخامسة عشرة من عمرها جميلة، خفيفة الظل، تداعب كل من حولها ومن اجلها، كان الريحاني يقتطع من قوته ثمن تذكرة المسرح كل ليلة، ليراها تمثل بضع دقائق، ثم ينصرف.
ولم يكن الريحاني قد اصبح ممثلا حينذاك، كان موظفا بشركة السكر في الحوامدية.
ولما ضاقت ميزانيته باتمان التذاكر، عرض نفسه على صاحب الفرقة، ليكون من الممثلين الكومبارس، فيتاح له ان يرى معبودته وراء الكواليس ساعتان لا دقائق فقط!
هكذا دخل الريحاني دنيا المسرح، وهو لا يدري انه يدخل من باب اعدته له الاقدار وبدا يلاحق"صالحة"ويغار عليها وهي لا تأبه لحبه الا قليلا.
وعندما تستبد به وساوس الغيرة، يظن ان صالحة تحب غيره، وان هذا"ألغير"يزورها في بيتها فيرابط الريحاني على سلم البيت طوال الليل ليمنع المنافس من المرور ولو بالقوة!.
وذات يوم ذهب الريحاني الى بيت صالحة فوجدها على المائدة تتغذى مع ضيف لا يعرفه، فسرق الريحاني حذاء الرجل ورمى به بعيدا في ركن من الشارع!
وكانت صالحة تسافر الى الاقاليم مع فرقتها، فتدفع الغيرة نجيب الريحاني الى ترك عمله والسفر وراءها، ليراقب تصرفاتها ويمنع منافسيه من مجرد التحدث اليها!
واذا عاقه امر جلل عن السفر ورائها، ارسل اليها برقيات وخطابات، طالبا ردا عاجلا على كل برقية وكل خطاب، فاذا تاخرت عن الرد على واحد منها، فاجأها الريحاني في"عقر"دارها وقد استبد به الغضب ومزقته الغيرة.
وخطابات الريحاني الى صالحة تكشف جانبا من شخصيته المتعددة الجوانب. انه يقول لها في احدى رسائله"العاجلة"هذه الكلمات الملتهبة:
"يا حياتي، ضاقت بي الدنيا، لا ارى الحياة معنى بعيدا عنك، انت نور عيني، فكيف يفارق النور العين؟ انت محرك لساني.. فكيف اتكلم وانت بعيدة عني؟. انت روحي فكيف تفارق الروح الجسد؟.. انا الان اعمى، اخرس، اطرش، عودي الى فقط سئمت الوحدة، تعبت من الحزن واريد ان افرح برؤيتك.."!
وكتب القدر فصلا جديدا في قصة الريحاني وصالحة.
وكان زوجها الاول هو هذا الفصل الجديد، لقد تزوجت صالحة رجلا اختاره لها ابوها، واقام لها الشيخ سلامة حجازي"فرحا"ضخما استمر سبعة ايام بلياليها، وتبارى فيه المطربون والممثلون واهل الفن جميعا.
ولكن الزوج مات بعد ستة اشهر، وعادت صالحة حرة طليقة، وعاد الريحاني يطاردها بحبه وغيرته.
وكان الريحاني يقول لها دائما..
"تروحي، تيجي، تتجوزي، تتطلقي، فانت لي وحدي، وانا احبك على كدة"!
ولكن الزوج الثاني، انتزع صالحة من الفن ثماني سنوات. كان يحبها، وكان يرفض ان تستغل بالفن، وكانت اشبه بحبيسة في داره ومن وراء الاسوار التي اقامها الروح الثاني حول صالحة استطاع نجيب الريحاني ان يتسلل اليها ويطاردها بحبه وغيرته من جديد!
وكان لا بد ان يتكشف الريحاني، لانه لم يكن يتستر في مطارحتها لواعجه وهيامه، فوقع الطلاق بين صالحة وزوجها، وعادت الى الفن، والى الريحاني عادت الى الريحاني عودة اطفأت كل ظمئه القديم، وكل غيرته الجائحة. عادت اليه، ممثلة في فرقته، يستطيع ان يراها في كل لحظة، وان يمنع عنها حتى نظرات العيون.
ولم يكن الريحاني يستطيع ان يتزوج صالحة، فقد كان الدين يفرق بينهما، وكانا عاجزين عن تخطي هذه العقبة.
ووجد الريحاني ان مصلحته تقتضي السفر الى امريكا في رحلة للعمل والكسب، فتزوج بديعة مصابتي وسافر معها.
وعاد الريحاني من امريكا، وعادت معه زوجته بديعة مصابتي.
وبحث عن صالحة، فقيل له انها في بيت الزوجية الثالث.
لقد تزوجت صالحة الرجل الثالث الذي عاشت معه احدى عشرة سنة، كانت اسعد فترة في حياتها.
**
ظل قلب الريحاني يحفظ لصالحة مكانا فيه، رغم تقلباته الكثيرة، وكانت النساء يدخلن قلبه، ويخرجن منه، وبقى مكان صالحة محفوظا، لمجرد الذكرى، ان كان الحب قد خمدت جذوته على مر الايام.
وتحول الريحاني الى رجل"ذواقة"لا يقف عند امرأة واحدة، الا ريثما يتذوق حبها، ثم يفارقها الى غيرها.
لقد انتهى عهد شبابه الاول، حين كان يحب فيغار ويتقد ويخلص في حبه ويصمد سنوات وراء سنوات!
اصبح شهيرا جدا، وانهال عليه الثراء، وغرق في التجارب، وفهم الدنيا فهما حادا شديد الحدة، وتقدم به العمر، كما تقدم بمحبوبته القديمة، فتحول حبه لها الى ذكرى، الى نقطة عطر كامنة في زاوية عميقة من قلبه!.
***
ان صالحة تعيش الان في حجرتها الصغيرة بحديقة منزل جورج ابيض بحدائق القبة، وقد استاجرت هذه الحجرة في دار الفنان القديم، لكي تعيش دائما في جو الفن.
انها تطبخ لنفسها، وتوازن ميزانيتها المتواضعة، وتتسلى احيانا بقراءة الخطابات الغرامية التي اكتست التراب!
وعلى جدران حجرتها صور شبابها متناثرة في هدوء حكيم، كانها تفكر في الزمن الطويل الذي انقضى عليها دون ان تتغير، بينما تغير"الاصل"حتى محاه التغيير!
شيء واحد تندم عليه صالحة حتى الان، فقد خاصمت نجيب الريحاني في ايامه الاخيرة.. كعادتها في مخاصمته ايام الشباب.. ومرض الريحاني فلم تتنازل عن خصامها لتزوره مرة واحدة.. ومات الريحاني، دون ان تراه!..
وهذا هو الندم الذي ياكل قلبها!.

زينب حسن