عتبات لرؤية مضاعفة..تأملات في اللوحة التشكيلية بين عالمين.. المرئي وغير المرئي

عتبات لرؤية مضاعفة..تأملات في اللوحة التشكيلية بين عالمين.. المرئي وغير المرئي

بغداد/ أوراق
يسعى الباحث والناقد صلاح صالح الى تعميق الرؤية في الحركة التشكيلية واثرائها في الثقافة العربية المتعطشة الى المزيد من الانساق النظرية الضرورية التي بلغ تراكم نماذجها حدا متقدماً قصر عنه الدرس النظري لجعل التواصل مع الفن التشكيلي تقليداً راسخاً في المشهد الثقافي الراهن، وذلك من خلال كتابه (عتبات لرؤية مضاعفة) والصادر عن دار (المدى) للثقافة

والنشر مركزاً اهتمامه في حركة الصورة من المجاز الى توضعها المادي ومن الانتفاع بها كسياق يجعل معرفة الشيء بصرياً مقدمة لامتلاكه من خلال الحاجة الى الصورة ومتعة تأملها ومحاولات شحن اللوحة بوصفها جزءاً من العالم المرئي والآليات التخيلية التي تنتج حالة مزدوجة من التجادل والتواصل العميق بين العالمين المرئي وغير المرئي بما يعزز الحساسية الجمالية في تلقي الفن التشكيلي عبر الوقوف على تطور حركة الصورة ودلالتها في المعتقدات والطقوس الدينيّة والاجتماعية والإيديولوجيّة. ففي استقصائه التاريخي للصورة في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام يؤكّد المؤلّف معرفة العرب لأشكال وأنواع من الصور التي كان بعضها يؤدي دوراً نفعياً مثل صور المعبود أو ما يوازيها من صور القديسين بقصد التقرب إليه، وبعضها الآخر كان يؤدي دوراً جمالياً تمثّل في الأشكال الممنوحة للحلي وأغراض الزينة، والنقوش على الأواني والأدوات، وجدران الموسرين والقصور القليلة في مناطق الاستقرار. وإذا كانت هناك بعض اللوحات المرسومة على الجدران والداخلة في نسيجها بدافع الحاجة للانتفاع بها آنذاك مثل رسوم الحيوانات على جدران الكهوف استعداداً لصيدها أو تخليداً لواقعة الصيد ذاتها، فإن تعليق اللوحات الفنية على تلك الجدران بقصد المتعة الجمالية المحضة لم يكن سائداً بعد.. ومن ذلك الاستقصاء لجذور الصورة ينتقل إلى تعريفها فيرى أنها في اللغة تعني الشكل والصفة والنوع، وتطلق على ما يرسمه المصور بالقلم أو بآلة التصوير. وإذا كانت اللغة قادرة على صياغة المرئي ومفهوم اللامرئي فإن قدرة الصورة تكمن في تحويل المرئي واللامرئي إلى كيان محسوس ماثل هنا.. والآن وفيما تجمع الفنون الحرفية بين النافع والجميل فإن الرسم يُعدّ من الفنون الجمالية الصرفة.. ويعيد المؤلف نشوء التصوير إلى أسباب عدّة، يرى أهمّها في مقاومة الإنسان لفكرة الفناء والزوال. فغريزة المحافظة على النوع زمناً أطول من الفترة المتاحة له على قيد الحياة تدفعه لإقامة نُصب حجري، أو تمثال خشبي، أو رسم صورة فنيّة. وتحتل الصورة بوصفها عملاً جذَاباً من الناحية البصريّة موقفا متميّزا في هذا السياق. إذ تبدو أشبه بالمولود. ويرى المؤلف أن الشعراء الجاهليّين برعوا في الرسم بالكلمات بدلاً من الخطوط والأوان، فكانت هناك مجموعة من اللوحات الحيّة التي تواترت في قصائدهم: كالحصان والناقة والمرأة ومشاهد الصيد والفارس والرجل الكريم والصورة الذاتية. وفي هذا الضرب من التصوير تتضح المعالم الدقيقة لفكرة اللوحة بشكلها البصري الراهن المستمد من مجمل السياق التاريخي للثقافة البصريّة، وفي تأطيره الأوروبي بشكل أكثر تحديداً. ويتوقف المؤلف عند عدد من المشاهد البصريّة مثل مشهد الظعائن في معلّقة زهير بن أبي سلمى وصورة المرأة ذات الجمال المثالي في معلّقة النابغة وصورة طائر الطاووس الجميل الزاهي الألوان. ويدرس المؤلف في هذه الوقفة الرؤية البصرية للوحة في مشهد الظعائن عند زهير ورسم الإطار المكاني وعناصر الطبيعة والزمان والتفاصيل في المناظر الطبيعيّة والتلوين والخطوط وتكوين المشهد الكلّي. ثم يدرس المنظر الخلفي والإطار في رسم الصورة المتجردة عند النابغة، والوضعيّة العامة، والأصابع وحركة اليد والشعر والعيون والشفتين واللثة والأسنان ورسم الصورة الشخصية البورتريه. ويتناول الثراء اللوني في رسم الطاووس من خلال نص الإمام في نهج البلاغة.. وهو بذلك يفتح باباً جديداً في دراسة النّص الأدبي التصويري، خارج السياق البلاغي والمجازي المعهود في الدراسات السابقة لهذه النصوص. محلّلاً ومستنتجاً ومعلّلاً ما تتضمنه وما توحي وتشي به من مقدرة تصويرية بارعة.. وبسبب بعض الاشكالات الدينية اضطر الرسامون المسلمون إلى قطع الصلة بين الصورة المشهدية البصرية ووشائجها الواقعية قطعاً باتّاً مجسدين هذه القطيعة في فن الريازة الزخرفة الذي برعوا فيه وتفنّنوا بأشكاله وأساليبه. وينتقل المؤلف من العصرين الجاهلي والإسلامي إلى العصر الحديث فيرى أن التشكيل العربي المنجز خلال القرنين المنصرمين مظهر من مظاهر التفاعل الثقافي الشامل مع الغرب الاستعماري. ويأخذ عليه أنه اكتفى بالتأثّر وتلقي التأثيرات حتى انفرد بالاتكاء كلياً على مجمل ما أنتجه الغرب في هذا المجال، ومن هنا يبدو التراث البصري العربي بعيداً حتى الآن عن التأثير في حياتنا المعاصرة، ويحدد معاناة التشكيل العربي في ثلاثة بنود منها غربة التذوق الناجمة عن الأمية المنتشرة، وشبهة التحريم وندرة النقد المشتغل على التشكيل. وهو يدعو إلى تفعيل وتراكم الدراسات المتعلّقة بالتشكيل لإنجاز ثلاثة أمور تتعلّق ببناء الفنّان التشكيلي بناء معرفياً متيناً إلى جانب بنائه حرفياً. وكذلك مايتعلّق بالعملية التربويّة والمناهج المدرسية التي تباشر تعليم التلاميذ أصول تذوق هذا الفن لردم الفجوة بين المتلقي واللوحة. ويحدد المؤلف أبرز الصعوبات في إخضاع الفن للمعايير ومنها الصعوبة النظرية الفكرية والصعوبة الاجتماعيّة والصعوبة الجمالية والصعوبة الفردية وفي مواجهة هذه الصعوبات يقترح عدداً من المعايير التي يمكن أن تُحدث نقلة على مستويي الإنتاج والتلقّي البصري على حد سواء ومنها التواصل مع التراث والمحلية والتقنية والتجريب.. وعبر رصد نظري وميداني لواقع اللوحة التشكيلية في المجتمع ومؤسسّاته يتوقف المؤلف عند مفهوم اجتماعية اللوحة واجتماعية فن الرسم ورعاية الدولة له وواقع التربية الفنية، وكليات الفنون الجميلة، ومراكز الفنون التشكيليّة ونقابة الفنون الجميلة والأنشطة الخاصة وصالات العرض واقتناء اللوحات وغير ذلك مما له صلة وثيقة بإنتاج وتذوق وتسويق اللوحة الفنيّة. ثم يوازن بين واقع التشكيل المحلّي والتشكيل العالمي عبر التركيز على مفهوم المحلية والعالمية والصلة بينهما.