آخر مقالات الفريد فرج..كيف عرفت آرثر ميللر؟

آخر مقالات الفريد فرج..كيف عرفت آرثر ميللر؟

أطفأت مسارح برودواي نيويورك أضواءها وأغلقت أبوابها اعلانا للحداد ليلة وفاة الكاتب المسرحي الأمريكي الأول آرثر ميللر‏(1915‏ ـ‏2005)‏ وبرودواي هو حي المسارح في نيويورك‏,‏ ولعله أن يكون أكبر حي للمسارح بمدينة في العالم قياسا على عدد الدور المسرحية فيه وعلى تعداد جمهوره‏.‏

وآرثر ميللر كان من أكبر‏..‏ ولعله أكبر كتاب المسرح في العالم اليوم قياسا على رأي معظم الدارسين والنقاد‏,‏ وقياسا على اقبال الفرق المسرحية في أنحاء العالم على انتاج مسرحياته بلغتها أو بلغات أخرى عديدة‏,‏ بما في ذلك اللغة الصينية حيث قدمت دار مسرحية في بكين مسرحيته وفاة بائع متجول ودعت المؤلف لإخراجها بنفسه‏.‏وقد حصل ميللر على جوائز كثيرة أهمها جائزة بوليتز‏(1949)‏ وهي أرفع جائزة أدبية في الولايات المتحدة‏,‏ وجائزة نقاد الأدب‏(1949)..‏ وذلك في مناسبة عرض مسرحيته وفاة بائع متجول‏,‏ ونال جائزة توني وهي أرفع جائزة مسرحية أمريكية‏,‏ وجائزة أوليفييه الانجليزية لأحسن مسرحية في العام لمسرحية البوتقة التي قدمها المسرح القومي البريطاني سنة‏1990,‏ ومنحته الدكتوراه الفخرية جامعات هارفارد الأمريكية وأكسفورد البريطانية‏,‏ كما افتتحت جامعة انجليا الشرقية مركزا للدراسات الأمريكية باسمه‏.‏
ولعل في حياة آرثر ميللر عدة محطات اتصل فيها الاعلام العالمي به حتى شاهدنا صورته وأنباءه على الصفحات الأولي للصحف المصرية والصحف العالمية‏.‏
أولي هذه المناسبات كان الاهتمام العالمي الفائق بمسرحيته وفاة بائع متجول‏,‏ والمناسبة الثانية كانت استدعاءه للتحقيق أمام لجنة السيناتور ماكارثي الشهيرة ضمن عشرات الكتاب والمخرجين ورجال السينما والفن للتحقيق فيما سمي بالنشاط المعادي لأمريكا وكان في حقيقته تحقيقا في ميول يسارية للفن والأدب وسينما هوليوود‏,‏ وكان هذا وجها من أوجه الحرب الباردة أساء لسمعة الديموقراطية الأمريكية إساءة بالغة‏..‏ ولعلي أعود إلى الحديث عن ادانة آرثر ميللر باهانة الكونجرس‏(كذا‏)‏ والحكم عليه بخمسمائة دولار غرامة والحبس شهرا مع ايقاف التنفيذ‏(!)‏
والمحطة الثالثة التي دفعت باسم آرثر ميللر إلى صدر الاعلام هي زواجه المثير بنجمة هوليوود الفاتنة مارلين مونرو الذي استمر خمس سنوات من‏1956‏ إلي‏1961‏
والمحطة الرابعة كانت عرض مسرحيته الرائعة وفاة بائع متجول في برودواي واحياؤها سنة‏1999‏ بمناسبة مرور خمسين سنة على عرضها الأول سنة‏1949‏ والاستقبال الحافل لها من الجمهور والنقاد‏.‏
وفي الأدب‏(الأنجليزي‏)‏ الأمريكي ثلاثة مسرحيين يعتبرون من العمالقة وهم يوجين أونيل‏(1888‏ ـ‏1953)‏ وقد فاز بجائزة نوبل للأدب عام‏1936,‏ ويعتبر الأب الروحي للمسرح الأمريكي‏.‏
والكاتب المسرحي الأمريكي الثاني هو تنيسي وليامز‏(1911‏ ـ‏1983)‏ وقد عاصر وزامل آرثر ميللر‏,‏ وأشهر مسرحياته عربة اسمها اللذة التي حققت نجاحا فائقا على المسرح في برودواي سنة‏1947,‏ وقط فوق صفيح ساخن‏(1955),‏ وقد كان نظير ميللر في الفوز بجائزة بوليتزر الأدبية وجائزة توني المسرحية‏,‏ وقد انتجت هوليوود معظم مسرحياته‏..‏ وكانت في قمة النجاح في السينما كما في المسرح‏.‏
فالمسرح الأمريكي قام على ثلاثة أعمدة أحدثت نقلته إلى القمة في القرن العشرين‏.‏

ولكننا لم نعرف ذلك في الجامعة‏,‏ وإنما اجتهدنا لمعرفته بجهدنا وحبنا للأدب المسرحي‏.‏
في أوائل الخمسينيات تعرفت بالكاتب المسرحي ميخائيل رومان‏,‏ وكنت التقي به في مقهي كان يرتاده في شبه انتظام في حي التوفيقية بالقاهرة‏.‏
لم أكن كتبت للمسرح بعد ولم يكن قد كتب أولي مسرحياته الدخان التي عرضها المسرح القومي‏1962‏
كنا نتحدث عادة عن المسرح بمصر وفي العالم‏,‏ فقال لي عرضا أنه قد ترجم مسرحية وفاة بائع متجول وأنها ستنشر قريبا‏..‏ فأثار حديثه فضولي فأراد من كرمه أن يشبع فضولي فأعطاني نسخة مكتوبة على الآلة الكاتبة لترجمته للمسرحية‏..‏ فلما قرأتها أثارت شغفي بمعرفة الكاتب وزميله تنيسي وليامز والرائد يوجين أونيل‏,‏ وكان ذلك هو الباب الذي دخلت منه إلى أدب القصة للمبدع هيمنجواي ومعاصره شتاينبك وغيرهما بعد ذلك‏.‏
وربما يكون من المفيد اعادة نشر المسرحية في ترجمة كاتب مسرحي قدير مثل ميخائيل رومان‏,‏ وانتاجها بمسرحنا القومي‏.‏ وإن كنت أتمني أيضا أن يقوم المشروع القومي للترجمة بتقديم أهم مسرحيات ميللر‏,‏ ومقالاته الرفيعة عن فن المسرح وعن مسرحياته أيضا‏,‏ فنكون بذلك من الحاضرين المنتدي الثقافي والفني العالمي والحديث‏.‏
ومع أن مسرحنا القومي لم يقدم أبدا مسرحية ميللر الشهيرة فقد قدم له سنة‏1963‏ مسرحية شهيرة أخرى هي مشهد من الجسر بطولة الفنان القدير توفيق الدقن‏..‏ ولعلها أن تكون مدفونة في خزائن التليفزيون مع سائر المسرحيات المنسية أو المهملة‏,‏ ويعيد اكتشافها البرنامج الرائع كنوز مسرحية‏.‏
وفاة بائع متجول هي قصة رجل بسيط مهنته السفر بين المدن لعرض عينات من منتجات الشركة التي يعمل بها على التجار‏,‏ وحثهم على الشراء‏.‏ وقد كبر سن البائع ويلي لومان حتى صار يخشي أن تتعرض سيارته التي يقودها لحادث يهدد حياته‏.‏ وقد تعب من التجوال والسفر المستمر‏,‏ وأصبح يحلم في الصحو فيختلط الواقع عنده بأوهامه‏,‏ ويتذكر لحظات من حياته الماضية وكأنها واقع حاضر‏,‏ ويتطلع إلى الراحة ويتمني أن يمنحه المدير وظيفة مكتبية في مقر الشركة‏.‏
والمدير شاب صغير ورث الشركة عن أبيه‏,‏ وويلي لومان كان مقربا من الأب وكان يداعب ابنه وهو طفل ويدلله‏,‏ فلا يعقل أن يرفض له طلبا بعد الخدمة الطويلة‏..‏ لكن مدير الشركة يرتب على عجزه عن مواصلة العمل قرارا بفصله حيث لم يعد منتجا أو قادرا على الاستمرار‏(!)‏ ويلي لومان له أخ غني وناجح‏,‏ يزور أخاه والأسرة زيارات جد قصيرة‏,‏ يكلم الأخ ولا يكاد يسمع منه‏..‏ وويلي له ولدان ويعتبرهما فاشلين‏,‏ والوالدان يجافيانه لأن أحدهما ضبطه مرة في الفندق مع واحدة من بنات الهوي‏.‏ ولما يحمل عليه الولد تدافع الزوجة عن زوجها‏..‏
الأسرة تواجه مأساة‏,‏ والأب يحطم قلبه قرار الفصل فيركب سيارته‏..‏ ويقع له حادث يقتله‏.‏
هل انتحر؟ هل مات بالقضاء والقدر؟‏..‏
نهاية المسرحية ترثيه زوجته بمناجاة مؤثرة‏:‏
سامحني يا عزيزي‏.‏ لا أستطيع البكاء‏.‏ لا أعرف لماذا لا أستطيع البكاء‏.‏ لا أفهم‏.‏ لماذا فعلت ذلك؟ ساعدني يا ويلي فأنا لا أستطيع البكاء‏.‏ يخيل لي أنك لست إلا في رحلة أخرى وأتوقع عودتك‏.‏ عزيزي ويلي‏..‏ لا أستطيع البكاء‏.‏ لماذا‏.‏ انتحرت؟ ابحث وابحث وابحث عن السبب الذي لا أفهمه يا ويلي‏.‏ لقد دفعت آخر قسط من دين رهن بيتنا اليوم‏,‏ اليوم يا حبيبي‏,‏ ولكن البيت لم يعد فيه أهله‏.‏
‏(‏غصة في حلقها‏)‏ لقد تحررنا من الدين وخلص البيت لنا‏(تبكي كأن دموعها تحررت من الاحتباس‏)‏ تحررنا اليوم‏..‏ تحررنا‏..‏ فلماذا فعلتها؟
كتب ميللر ثماني عشرة مسرحية وخمس قصص وستة كتب في النقد والسيرة الذاتية‏.‏

كنت في أوقات سابقة قد كتبت عن مسرحيات له هي الزمن الأمريكي وهي أقرب إلى سيرة الشباب في أيام الأزمة الاقتصادية المروعة أعوام‏1929‏ إلي‏1932,‏ ومسرحية اليانكي الأخير والزجاج المهشم وكلهم أبنائي و البوتقة ومنظر من الجسر‏...‏
كلها مسرحيات يتكرر انتاجها في الغرب بوتيرة عالية‏,‏ وقد شاهدت بعضها بلندن وروما وفي باريس وبرلين على ما أذكر‏.‏ ويقبل عليها المشاهدون جيلا بعد جيل‏,‏ وربما يستمر إحياء مسرحيات ميللر أجيالا كثيرة مقبلة‏.‏
وبذلك تصبح هذه المسرحيات ومثلها من الروائع العالمية مرجعا فكريا للشباب والكبار جيلا بعد جيل‏,‏ وتظل شخصياتها ومواقفها أمثولات تقاس بها المواقف والأفعال والأقوال في العصر الحديث‏.‏
وهكذا تصبح أشهر المسرحيات وأعمقها تأثيرا عنصرا من عناصر تكوين الشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية الحديثة في بلاد كثيرة ويصبح المسرح صلة بالعالم وموقع لقاء العالم‏.‏
وكثيرا ما نصحت اخواني أهل المسرح المصري بتكوين فريق مسرحي مختص بالمسرح العالمي يقدم للشباب وللأجيال خلاصة الفكر الحديث ويكون من عناصر التكوين للفضائل والحكمة والرؤية السديدة واللقاء بالدنيا‏,‏ على أن يقدم عشر مسرحيات أو عشرين مسرحية كل عام بنفقة معقولة كما فعل مسرحنا القومي أحيانا في الستينيات‏,‏ ومسرح التليفزيون شعبة المسرح العالمي بفضل قيادة حمدي غيث‏.‏

عن كتاب مقالات في المسرح العالمي
طبعة القاهرة/ 2005