من تراث الدكتور صفاء الحافظ..الحزب الشيوعي العراقي والمثقفون

من تراث الدكتور صفاء الحافظ..الحزب الشيوعي العراقي والمثقفون

د. صفاء الحافظ
في لقاء ودي في لايبزغ مع عدد من أساتذة جامعة كارل ماركس، دار الحديث عن الحركة الثورية في الأقطار النامية، وبديهي ان يأخذ العراق مكانه المتميز في هذا الحوار الطويل.


سأل أستاذ قديم، من الذين عبروا العهد النازي بسلام، عن تأثير الفكر الماركسي بين المثقفين العراقيين عرضنا عليه الواقع كما هو، في مده وجزره، وبلورنا كلامنا للحاضرين بأرقام مقربة تمثل النسب العليا والدنيا التي حصل عليها مرشحو الحزب الشيوعي، خلال مراحل مختلفة، في انتخابات النقابات والاتحادات والجمعيات المهنية التي تضم اعدادا كبيرة من المثقفين العراقيين، لقد ضربنا أمثلة من الأطباء والمحامين والمعلمين والمهندسين والزراعيين والاقتصاديين الخ.. ولكن خلال الجواب لاحظنا على وجوه رفاقنا الألمان شيئا من الاستغراب، بل قليلا من الشك المؤدب.
تحدث بعض الحاضرين عن التركيب الطبقي للمجتمعات الرأسمالية وصنف المثقفين عموما ضمن معسكر البرجوازية الكبيرة، كما ان البعض الآخر، بحكم اختصاصه بشؤون العالم الثالث، يعرف الكثير عن المشرق العربي وعن موقف المثقفين فيه من الفكر الماركسي، إلا ان معلوماته عن العراق كانت قليلة.
من جانبنا عرضنا الحقيقة كما هي، وشرحنا معطيات الواقع المتطور بأمانة في جلسة "اكاديمية"، انتهى اللقاء في حينه ولكن منذ ذلك الوقت يدور في فكري سؤال مبرر ممزوج بالفخر والاعتزاز، فضلت ان يكون موضوع كلمة اكتبها بمناسبة مرور اربعة عقود على تأسيس حزبنا الشيوعي.
لماذا أصبح الفكر الماركسي اللينيني وطيدا بين المثقفين العراقيين؟ ذلكم هو السؤال، يتحدث الأستاذ مصطفى علي، الوجه الوطني المعروف، عن نخبة من المثقفين العراقيين تصدت عام 1924 للفكر الرجعي دفاعا عن حقوق المرأة العراقية ولا شك ان موضوع "السفور والحجاب" كان خطيرا في ذلك الزمن المبكر من تاريخ الحركة الوطنية المعاصرة، ومن حديث الأستاذ علي نفهم ان الشباب الماركسي هو الذي أثار وقاد المعركة آنذاك، والواقع ان البرجوازية الوطنية وقفت مترددة في خوض مجمل الكفاح الفكري والسياسي ضد الجاهلية والإقطاع، ليس فقط خلال العشرينيات، بل حتى خلال الفترات اللاحقة، الأمر الذي عجل في انتشار الفكر الماركسي بين صفوف المثقفين الذين كانوا يتوقون الى تبدل في الأوضاع المتخلفة والفاسدة.
ويمكن إجمال العوامل الموضوعية التي ساعدت على رسوخ الفكر الاشتراكي العلمي بين صفوف أكثر المثقفين ثورية بنقاط أهمها:
سيادة التخلف الاقتصادي والثقافي، وبروز تناقض حاد بين الإمبريالية والإقطاع من ناحية والشعب من ناحية أخرى، وإصرار الحكم الأجنبي على استخدام أساليب تختلف كثيرا عن مستوى التطور في العالم، يضاف الى ذلك ضعف البرجوازية الوطنية اقتصاديا وفقرها فكريا، وجمودها ضمن الأطر الإيديولوجية المتحجرة، أي عجزها حتى الآن عن اللحاق بأخواتها في مصر ولبنان وسوريا، وهو اضعف المقاييس فكان لزاما على الماركسيين العراقيين ان يدافعوا ليس فقط عن الفكر الاشتراكي العلمي بل عن الجانب التقدمي في التراث القومي (العربي والكردي) والتصدي دون هوادة لكل المفاهيم الرجعية فيه.
اما العوامل الذاتية التي ساعدت على انتشار الفكر الماركسي في العراق فهي وجود تنظيم سياسي متين، يستند الى برنامج يستجيب لمتطلبات المرحلة، ويتفق وظروف العراق الخاصة.
لقد اهتم الحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه قبل أربعين عاما بالثقافة وبالمثقفين وكانت مبادرة ذكية ان يهتم تنظيم بغداد بالطلاب وبالمعلمين، بل الأذكى منها اهتمام فهد شخصيا بدور المعلمين الريفية والأولية والعالية، ورعاية التنظيم فيها وتصليبه ورفع مستواه، فبواسطة خريجي دور المعلمين التقدميين تمكن الحزب من تحقيق هدفين أساسيين:
أولا، الوصول الى عقول الناشئة، وهي ما زالت غضة، وتزويدها بالفكر العلمي، وتسليحها ضد مؤثرات التقاليد المتوارثة البالية، ومساعدتها على ان تتمثل التراث القومي والوطني من منطلقات تقدمية، هؤلاء التلاميذ والطلاب، الذين تأثروا بالفكر الجديد، أصبحوا في فترات لاحقة خميرة بل عماد الحركة الفكرية الماركسية في العراق.
ثانيا، بث الوعي الثوري بين الفلاحين عبر فصائل المعلمين التقدميين الذين هم، في الغالب، اقرب الى حياة الكادحين/ او هم من أصول ريفية، والمعلم في الريف، كما دلت التجربة، اقدر من غيره من المثقفين على نشر الوعي الثوري بين الصغار والكبار.
وعبر النشاط المخطط والدؤوب استطاع الحزب ان يبني قاعدة صلدة بين جمهرة المثقفين في العراق لم تزعزعها ضربات الرجعية.. رغم شراستها وقساوتها البالغة.
ومن ناحية اخرى رعى الحزب فئة المثقفين وبلور مطالبهم التقدمية الخاصة: لقد صاغ برنامجا واضحا في مجالات السياسة التعليمية، والثقافة الوطنية، والأدب والأعلام والفنون وشؤون الوظيفة (العمل) الخ.. ورغم تباين الأصل الطبقي للمثقفين في العراق، دافع الحزب عن مطالبهم التقدمية جميعا بوجه الفكر الجاهلي، والضغط الإمبريالي والعسف البيروقراطي. واستطاع خلال حملات الدفاع عن مطالب المثقفين المشروعة، الثقافية والمادية، ان ينفذ الى أوساط تحسب عادة على الملاك البرجوازي وحتى الى البعض من أبناء الإقطاعيين وكبار البيروقراطيين، وان يؤثر فيهم تنظيميا وفكريا ويكسب عناصر واسعة منهم الى جانب قضية الشغيلة.
لقد اهتم الحزب بنشر الوعي بين المثقفين فأصدر العديد من المجلات والنشرات والكتب، العلنية والسرية، التي زودتهم في جميع الظروف بأفضل ما في الفكر الإنساني التقدمي من عطاء ولم تتركهم فريسة الأفكار البرجوازية التي كانت سياسة رسمية تهيمن على التعليم والمدارس والمعاهد والكليات ووسائل النشر والإعلام.
ان مهام الحزب في مجال المثقفين ما زالت كبيرة، بل ازداد ثقلها كما ونوعا في ظروف اشتداد الصراع الوطني والطبقي، لذا تضاعف العبء الواقع على اكتاف المثقفين الماركسيين في العراق.
ان المرحلة الراهنة بحاجة الى صيغ متجددة باستمرار، ومتنوعة تنوع الحياة نفسها، كما ان واقع البلاد يتطلب من المثقفين الماركسيين ليس فقط محاربة التيارات الانتهازية والتعصب القومي الشوفيني، العربي والكردي، والمفاهيم الجاهلية، بل عليهم قبل كل شيء ان يعطو جوابا عن كل سؤال يطرحه البناء، ويساهموا بنشاط في بلورة الحلول الناضجة للمشاكل التي تبرز في مختلف الميادين: في الاقتصاد والقانون والسياسة والأدب والمسرح والفنون والتاريخ والفلسفة والعلوم الطبيعية الخ على ضوء الماركسية اللينينية الخلاقة التي تتعارض والجمود وتأبى التحريف الذي يحسنه بعض المثقفين المتحذلقين.
وفي كل الأحوال يبقى في منظور المثقفين الشيوعيين وكل الماركسيين هدفهم الراسخ: خدمة الكادحين في المدينة والريف، وإسعاد الشعب عربا وكردا وأقليات والدفاع عن الاستقلال الوطني، وتطوير المنجزات التقدمية، وإشاعة الديمقراطية في حياة البلاد، ورفع المستوى الثقافي للمواطنين، وتوطيد العلاقة بين منظومة الدول الاشتراكية، وفي مقدمتها اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، ومع الحركة العمالية التقدمية في الأقطار الرأسمالية والمساهمة في دعم كفاح الشعوب من أجل الحرية والديمقراطية والسلام.
ان ما غرسه الرواد الماركسيون قبل أربعين عاما، ورعاه طيلة هذه الأعوام رفاقهم بما قدموا من جهد وتضحيات حد الفداء بالأرواح، هذا الغرس يجب ان ينمو باستمرار ليعيش في وارف ظله المثقفون العراقيون وتزدهر كفاءاتهم الى حدها الأقصى.

كتبت هذه الكلمة سنة 1974