بيع الكتب ببغداد.. تاريخ وذكرى

بيع الكتب ببغداد.. تاريخ وذكرى

زين النقشبندي
ويذكر السيد شمس الدين الحيدري صاحب المكتبة الأهلية في سوق السراي إن نعمان الأعظمي صاحب اشهلر مكتبة في العراق " المكتبة العربية كان معمماً ثم مطربشاً ثم لبس السدارة في العشرينيات كباقي العراقيين وتفسير ذلك هو أن نعمان الأعظمي كان في بداية حياته قد درس دراسة إسلامية لذلك كان معمماً ثم تخرج فأصبح من طبقة الأفندية فبدأ يرتدي الطربوش بعد سفره خارج العراق،

بعدها أصبح يرتدي السدارة التي جلبها الملك فيصل الأول (رحمه الله) معه الى العراق وشجع رجال الحكم في العراق والعراقيين عامة على ارتدائها فسميت باسمه (فيصلية).
بداية دخول عالم الكتاب
ذكرنا ان نعمان الأعظمي كان قد فتح محلاً للتجليد وبيع الكتب في سوق السراي، وقد ذكر لنا ابنه المرحوم سلمان الأعظمي إن والده كان من أمهر المجلدين، وقد تدرب وتعلم على يديه وأخذ الصنعة منه العديد من المجلدين، وقد استمر نعمان الأعظمي الى آخر حياته يمارس مهنة التجليد إضافة الى نشر وبيع وتوزيع الكتب، لأنه كان يرى أن التجليد عملية ملازمة للكتاب فهي مهنة تعطي الكتاب الجمال والرونق والمتانة، لإضافة ما للمجلدين من صلة كبيرة بالكتاب والمكتبات والقراء ومنهم النخبة المثقفة وما زالت هذه الصلة موجودة، ويذكر السيد أمين عباس النعيمي (مقابلة معه في شارع المتنبي بتاريخ 10/10/ 1996). وهو الشاهد الأخير على تأسيس سوق السراي الذي يتذكر مسترسلاً ذكريات كثيرة منها أنه تعلم التجليد أولاً على يد الأسطة وهيب الذي كان يعمل بدائرة البنك، ومن خلال احتكاكه مع المجلدين الانكليز الذين كانوا يعملون حينذاك في العراق تعرف على أساليب أخرى، ومن ثم عمل مع محمد اسماعيل الشيخلي في الفترة التي كان يعمل عنده عامل مصري يدعى (محمد) وقد اشتهر محمد المصري وتعلم منه التجليد الفني بصورة جيدة، أما أهم أنواع السجلات لتي كانت تجلد في حينها إضافة الى تجليد الكتب كما يذكر النعيمي فهي (سجل اضمامة، سجل يومية، سجل استاذ، سجل حسابات) ويذكر ايضاً ان ثمن القراءة الرشيدية المجلدة بـ(30 فلساً) وثمن هدية المصحف المجلد بـ(نصف ربية) ومما يتذكره ايضاً السيد أمين الذي هو أكبر المجلدين الباقين على قيد الحياة (متعه الله بالصحة والعافية) انه كان يشاهد الأستاذ الزهاوي وهو يركب مطيته ويحضر إلى محل نعمان الأعظمي في سوق السراي حيث كان آنذاك طفلاً صغيراً (كان ذلك كما يتذكر عند سقوط بغداد سنة 1917م ).
شارع الاكمكخانة
وقد اتخذ المجلدون في بداية القرن الماضي من جامع الآصفية - الطابق الثاني (أزيل هذا الطابق عند إجراء الترميمات والإدامة على هذا الجامع البغدادي في الفترات اللاحقة ) مقراً لهم حيث كان هذا الجامع مقراً للمولويين وهم من المجيدين والمجودين في الخط وفنونه وقد اشتهر الكثير منهم بتجليد الكتب إضافة الى خط واستنساخ وتزويق وتذهيب الكتب، ويعدُّ نعمان الأعظمي من أوائل المجلدين الذين فتحوا محلاً في سوق السراي لتجليد الكتب، وبعد أن تعلم منه أخوه الأسطة محمد صالح الأعظمي الصـنعة فتح له محلاً في شـارع المســتشفى (المقصود بناية المحاكم الشرعية الواقعة في رأس سوق السراي من جهة القشلة أمام مقهى الشابندر حالياً فقد اتخذت في بداية هذا القرن مستشفى لاخلاء الجرحى العثمانيين لمدة أكثر من سنتين (مثل مستشفى الطوارئ حالياً)، كما اخبرنا بذلك الحاج محمد الخشالي صاحب مقهى الشابندر بتاريخ 22 أيار 1997 عندما سألناه عن أصل هذه التسمية التي أطلعنا عليها كتاب عليه ليبل يحمل اسم المجلد محمد صالح الأعظمي المجلد الذي يقع محله في هذا الشارع علماً انه كان في شارع الأكمكخانة عدد من الاطباء الذين يجرون العمليات الجراحية منهم الدكتور صائب شوكت والدكتور ماكس والدكتور فائق سليمان كل في عيادته، وقد يرقد المريض لمدة ثلاثة أيام في العيادة علماً ان أسرّة هذه العيادة كانت قليلة وبالتالي لا نستطيع ان نطلق على أي منها اسم مستشفى لكننا نستطيع ان نطلق على مستشفى المحاكم اسم مستشفى فهو المقصود كما نعتقد، قرب الأكمكخانة نمرة 6هـ-23 (كما هو مطبوع على الليبل المثبت على عدد من الكتب المجلدة في حينه منها كتاب فذلكة الطب بقلم د.سامي شوكت 1926.
ثقافته
كانت ثقافة نعمان الأعظمي ثقافة دينية، وكان مولعاً منذ الصغر بكتب التاريخ والأدب وهو في طليعة الرجال الذين رفعوا للعلم مناراً، واعتمدت ثقافته على التثقيف الذاتي حيث يذكر المرحوم قاسم محمد الرجب صاحب مكتبة المثنى الذي كانت تربطه بنعمان الأعظمي (رحمه الله) صلة قربى وصلة جوار كما يذكر في مذكراته علما انه كان قد بدأ عمله في مكتبة نعمان الأعظمي عام 1930، للمزيد راجع مجلة المكتبة، العدد 56، بغداد 1967 قائلا :
(ان جل اهتمام نعمان ورغباته كانت احياء ما يتعلق بتاريخ العراق ولا سيما بغداد وكان نعمان هو الذي يصحح ملازم المطبوعات فإذا عصت عليه جملة أو كلمة أو وجد فيها غموضاً شطبها وعدلها حسب ادراكه دون التقيد بالنص) ويذكر ايضاً (انه كان يلاحظ جهل باعة الكتب فإن الكثير منهم لا يعرف القراءة والكتابة والبعض الآخر دخل المدارس الليلية أخيراً وتعلم قليلاً، أما نعمان الأعظمي فإنه كان يطالع مع أحد الإيرانيين الجريدة الفارسية بغية أن يتعلم الفارسية وبالرغم من كثرة ما قرأ لم يتعلم سوى كلمات معدودة من تلك اللغة) وهذا ينافي ما عثرنا عليه فالشهادة المدرسية التي عثرنا عليها والتي يعود تاريخها الى 15 تموز 1317-1899 تذكر ان نعمان ابن سلمان هو أحد طلبة المدرسة الابتدائية الواقعة في الأعظمية وقد نال الإعفاء بدرجة الامتياز مما يؤهله لدخول الدراسة الإعدادية، ونرفق صورة مصورة من الشهادة مع ترجمتها.
وإننا كما تبين لنا من خلال الإطلاع على الكتب التي طبعها، ان هذا الرجل قد كون لنفسه ثقافة تكاد تكون عالية جداً من خلال احتكاكه بالنخبة المثقفة الموجودة في العراق وقتذاك، ومن خلال اتصاله خلال سفراته خارج العراق بعدد كبير من العلماء والأدباء والمثقفين في الدول التي زارها، مما كان لهذه الثقافة الدور المهم كما يذكر الاستاذ قاسم الرجب في مذكراته (انه كان يحسن اختيار الكتب التي يتولى طبعها ولا اعتقد أي كتبي آخر في العراق كان يضارعه في ذلك، وكان الى جانب ما نشره من الكتب القيمة التي أشبع بها رغبته، وقد نشر كثيراً من القصص المتنوعة المنزوعة من ألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب).
مناجاة الحبيب
وهو بعد أديب وباحث كما نعتقد، فخلال اطلاعنا على كتابه المطبوع سنة 1927 في مطبعة الفرات –بغداد- ديوان (مناجاة الحبيب في الغزل والنسيب) الذي احتوى على أهم القصائد الغزلية والأبيات الغرامية للشعراء الأقدمين والعصريين حيث قام بجمعه وترتيبه وطبعه ونشره، ويذكر في مقدمة هذا الكتاب (فلما رأيت الأدب قد راج في هذا العصر وشاهدت الاقبال قد ازداد على النظم والنثر دعاني ضميري أن أهدي إلى أدباء شبابنا وفضلاء كهولنا هذا الديوان).
من ذكريات الرجب عنه
أول ما يذكر قاسم محمد الرجب في مذكراته عن بداية دخوله عالم الكتب إذ يقول:
صلتي بسوق السراي تعود إلى سنة 1930-1931 يوم تركت المدرسة واتصلت به وكان عمري اثنتي عشرة سنة عندما اشتغلت عاملاً صغيراً بالمكتبة العربية لصاحبها نعمان الاعظمي وكنت يوم ذاك في الصف السادس من المدرسة الابتدائية، وكان مرتبي الشهري 600 فلس، ولم اكن قد رأيت بغداد كثيراً لأنني كنت من سكنة الاعظمية فكنت أراها في السنة مرة أو مرتين، وفي أيام الأعياد فقط، فلما اتصلت بالمكتبة وبالسوق كنت اعجب لما تحتويه من كتب إذ لم أكن قد رأيت مكتبة من قبل (للمزيد راجع الحلقة الأولى من مذكراته المنشورة في مجلة المكتبة (العدد 56) السنة السابعة كانون الثاني 1967/صفحة 6.)، وكان سوق السراي آنذاك زاخراً بالمكاتب الصغيرة منها والكبيرة أمثال المكتبة الوطنية لعبد الحميد زاهد والمكتبة الأهلية لعبد الأمير الحيدري والمكتبة العصرية لمحمود حلمي ومكتبة الشرق لعبد الكريم خضر وهناك مكتبات صغيرة منتشرة من أول السوق إلى آخره ومنهم من يعرض بضاعته على الرصيف وذلك أمثال حسين الفلفلي واحمد كاظمية والحاج محمد وسامح إسماعيل ومن المكاتب الصغيرة التي ما زالت صغيرة حتى اليوم مكتبة التجدد لحقي بكر صدقي ومكتبة الشبيبة لرشيد عبد الجليل والمكتبة الحديثة للحاج محمد ومكتبة الزوراء لحسين الفلفلي،إذ لم تتقدم هذه المكتبات بالرغم من وجود طاقات من الذكاء عند البعض منهم ومن حسن المعاملة عند الآخرين.
وكانت المكتبة العربية كبرى تلك المكاتب في السوق والعراق كافة وصاحبها نعمان الاعظمي، كان عارفاً بالكتب ذواقاً باختيار ما ينشره ويطبعه من الكتب القديمة وعالماً بالكتب الخطية بل كان الوحيد الذي يفهم هذا الفن ويعتني بتسويق الكتاب المخطوط وعرضه، على إن الرجل لم يكن يحب المطالعة ولكن الممارسة الطويلة ورحلاته الكثيرة إلى إيران ومصر والتقائه بأكبر خبير في الكتب الخطية وهو السيد محمد أمين الخانجي الذي يعتبر الوراق الوحيد في العالم العربي في تلك الأيام، وكان سوق الكتب ضعيفاً والمطبوعات قليلة والأمية متفشية كما إن الكتب الخطية لا تتحرك فلا سوق لها، فإذا أحرز نعمان الاعظمي بعضها حزمها وسافر من أجلها إلى مصر ليبيعها أو يبدلها بالكتب المطبوعة وكان الهاوي الوحيد لشراء المخطوطات في بغداد المحامي عباس العزاوي مع إن نعمان الاعظمي كان لا يعرض عليه إلا ما يحصل عليه من التوافه وما يبقى من الجيد يرسله إلى مصر (تعتبر مكتبة مخطوطات عباس العزاوي اليوم من أكبر وأشهر المكتبات في العراق، فتأمل عزيزي القارئ أية نوادر وجواهر كان يبيعها نعمان الاعظمي في مصر)، وكانت الكتب رخيصة سواء المطبوع منها أو المخطوط فهي تباع بأسعار زهيدة جداً إذ ليس هناك جهة رسمية أو علمية تهتم بشراء الكتب ولا مراسلات أو تجارة منظمة بين بغداد والخارج.
ونعمان الاعظمي كان الوحيد الذي يستورد الكتب ما خلا بعض التوافه التي تصل إلى غيره ولا سيما إلى محمود حلمي، إما الباقون فكانوا يعيشون على الكتب المدرسية المستعملة أو على التركات التي تباع أحياناً بالمزادات بالبيوت أو المساجد، والكتب الرائجة يوم ذاك كانت الكتب الدينية والقصص والموالد النبوية وكان نعمان الاعظمي يسافر كل سنة إلى مصر فيشحن معه إليها ما جمعه من المطبوعات الحجرية ومطبوعات بغداد والنجف والكتب الخطية ليعرضها بمصر والشام ويستبدل بثمنها مطبوعات أخرى، ولا تصله من الكتب طوال السنة إلا بعض المصاحف كما إن المفردات كانت لا تصله إلا قليلاً مما يحصل عليه من المبادلة وكنت أرى ولأول مرة المطبوعات العربية التي تطبع في أوربا، وكان يغالي بأثمانها ويفتخر بها طوال مكوثها عنده إذ لم يكن أحد على علم بمثل هذه المطبوعات ولم تكن قد وصلت إلى الأسواق ببغداد وما كان بالمكتبات العامة والخاصة منها فهو يعود إلى وجود بعض الأجانب أوصله بعض المستشرقين أمثال الأب انستاس الكرملي ويعقوب سركيس، وبيع بعض تركات العلماء المغاربة أمثال الشنقيطي وغيرهم.
من كتب التاريخ
وكان جل هم السيد نعمان ورغبته أحياء ما يتعلق بتاريخ العراق لا سيما بغداد فنشر كثيراً من الكتب المهمة كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي الذي كان يعد من الكتب المفقودة وكذلك نشر كتاب الحوادث الجامعة الذي نسب وهما إلى أبن الفوطي بأشراف مصطفى جواد، وكان ذلك في بدء اشتغالي عند نعمان الاعظمي ولن أنسى يوم كنت أذهب بالمسودات والملازم إلى المدرسة المأمونية الابتدائية ليصححها الأستاذ مصطفى جواد (وكان معلماً فيها يومذاك) مسودات الطبع وأذكر أنه أرسل بيدي الملزمة الأولى من الكتاب للأستاذ محمد رضا الشبيبي ليكتب مقدمته، وكان نعمان هو الذي يصحح ملازم المطبوعات فإذا عصت عليه جملة أو كلمة أو وجد فيها غموضاً شطبها وعدلها حسب إدراكه دون تقيد بالنص، وعندما أكمل كتاب الحوادث الجامعة الذي كنت أنا أطبق ملازمه وأجمعها لتكون كتاباً كما يفعل المجلد، وبقيت الفهارس فلما أرسلها الأستاذ مصطفى جواد إلى نعمان الاعظمي نظر فيها وتمتم وقال أنه لا يريد طبعها لأنها ستزيد الكتاب بعض الصفحات فمزقها، وكان معجباً بهذا الكتاب لما فيه من أخبار وحوادث طريفة عن بغداد.
كل الصيد..
ونشر أيضاً كتاب النور السافر في أعيان القرن العاشر للعيدروسي، وكانت أكثر نشراته ببغداد بمطبعة الفرات وصاحبها محمد رشيد الصفار فهو الذي كان يشرف على بعضها، وكان نعمان الاعظمي إذا باع كتاباً يتغزل به ويطرق مجلداً بمجلد ويظهر له صوتاً كما يفعل باعة الأحذية ويصيح (كل الصيد في جوف الفراء) وهو لطيف بمعاملته متساهل لا يحتكر كتاباً ولا يغالي به وإذا باع شيئاً بالدين فأنه لا يطالب بثمنه وهو كثير النسيان فإذا دفعت له الثمن فبعد خمس دقائق يطالبك به مرةً أخرى، ولكنه كان متسامحاً وبشوشاً بخلاف الباقين من أصحاب المكتبات، فإذا أشترى منه شخص كتاباً ما وأراد إعادته ولو بعد مضي زمن فأنه لا يمانع بشرط أن يستبدله بقصص كان يتولى طبعها مثل مريم الزنارية والمياسة والمقداد، حتى ولو كان الرجل لا تهمه هذه القصص، وكان سوق الكتب كما سبق لي بيانه ضعيفاً والصفة الغالبة على تلك الكتب، المصاحف والموالد النبوية والأدعية والصلوات والروحاني والقصص، ومن كثرة نسيانه إذا سام عليك قيمة الكتاب اليوم فقد ينسى غداً ما قاله اليوم وبإمكانك أن تأخذه بنصف الثمن إذ هو لا يضبط سعراً لتسويقه الكتاب، ولا يلتفت إلى القوائم التي اشترى بموجبها، ومن ثم فأن أكثر ما يصله كان مبادلة ومن كثرة تلك المبادلة التي اغرق بها أسواق مصر صرت أنا أجد من مطبوعات بغداد النادرة منها اليوم كثير من الكتب وهي مربوطة لم تفتح بعد، وهذا مما يؤخذ على أصحاب المكتبات المصرية.
مع الادباء والكتاب
وكان يتردد إلى الأسواق كثير من العلماء والأدباء والشعراء أمثال جميل صدقي الزهاوي الذي كان يكتري الروايات باستمرار من نعمان وغيره فيدفع له أجرة عن قراءة كل مجموعة منها ربية واحدة أي ما يساوي اليوم (75) فلساً، وطه الراوي الذي كان أكبر مشجع ومرغب للكتاب في جميع مجالسه الرسمية والبيتية، ونوري السعيد ويوسف العطا وبهاء الدين الشيخ سعيد النقشبندي وإسماعيل الواعظ ومحمد السماوي ومصطفى علي وغيرهم، وكان اكبر زبون للسوق وللكتاب هو عباس العزاوي المحامي، فكان يتردد إلى أربع مرات أو أكثر في كل يوم فلا يفوته كتاب مطبوع أو مخطوط وبصحبته أخوه علي غالب العزاوي المحامي، وكان رجلاً ذكياً مهذباً، فكان عباس العزاوي يستشيره عند كل صفقة يقع عليها اختياره، وإذا ما وقع كتاب خطي ولن يشتريه العزاوي فانه يبقى سنوات دون أن يباع إذ لم يكن هناك يومذاك من يتسوق الكتاب، وهناك كثرة من أصحاب الأقلام لم ارهم قد دخلوا السوق أو اشتروا كتاباً وهذا أمر عجيب ؟.
وكانت تصل إلى بغداد المخطوطات من كربلاء والنجف الاشرف وهي أجود ما يعرض من المخطوطات وأندرها، وكان يتسوقها الكتبي الشيخ مهدي رئيس وغيره ويعرضها على نعمان الاعظمي أو انستاس الكرملي فان لم يوفق في بيعها لهما عرضها على عباس العزاوي الذي سرعان ما يشتريها، ومن كركوك كان يتسوق المخطوطات الملا صابر حافظ وهو رجل حسن المعاملة، وأذكر أن نعمان الاعظمي سافر، ذات مرة إلى إيران فأشترى بعض المخطوطات ولما عاد بها احتجزت منه في الحدود ولم يتمكن من إخراجها واعادتها، ولكنه عند رجوعه أخبر احمد حامد الصراف المحامي بما وقع له ليتوسط له لدى السلطات الإيرانية بما لديه من علاقات ودية مع كثير من ساستها وعلمائها وأدبائها، فاشترط على نعمان انه إذا وفق في إعادة هذه المخطوطات إليه فإنه يأخذ احداها يختارها هو مما يعجبه منها، فوافق نعمان على ذلك، وقام الأستاذ الصراف بمساعيه فحصل عليها كاملة واختار منها ديوان (حافظ الشيرازي) محلى بالذهب ومزوقاً، إلا إنه بعد أن أشبع رغبته منه عاد فباعه اليه ثانيةً بمبلغ لا بأس به.
موسى الشهرستاني
ويضيف قبل ان اشتغل بالمكتبة العربية كان يعمل فيها السيد (موسى الشهرستاني) الذي لم يرق له الاشتغال فيها واستاء من معاملة أستاذنا فالتجأ الى المدرسة وبقي عاكفاً على طلب العلم حتى دخل الكلية الطبية وتخرج منها طبيباً واختص بأمراض العيون من جامعة لندن، ولم يستفد من معرفته بالكتب أو ما يتعلق بها لانصرافه الى المدرسة كل الانصراف، ولما ترك المكتبة عين نعمان مكانه شاباً آخر اسمه عبد الأمير عباس، وهو شاب أمين ولطيف جداً، وأشهد انه من أطيب ما رأيت من الشباب المعاصر ولكنه كان كذلك مستاءً إذ لا تقدير لما يقوم به من شتى الأعمال المكتبية والفنية فترك العمل بالمكتب وأصبح خطاطاً وفناناً ورساماً.
كتب.. وكتب اخرى
وكان نعمان الأعظمي يحسن اختيار الكتب التي يتولى طبعها ونشرها ولا أعتقد إن أي كتبي آخر في العراق كان يضارعه في ذلك، وكان إلى جانب ما نشره من الكتب القيمة التي اشبع بها رغبته قد نشر كثيراً من القصص المنتزعة من ألف ليلة وليلة أو من كتب أخرى عثر عليها لم أجد لها أصلاً وقتذاك، مثل قصة المياسة والمقداد وقصة مناجاة موسى وتليها قصة الجمجمة وهي مملوءة بالخرافات والروايات الاسرائيلية ما لا يمكن ان يكون لهذه القصة أي صبغة إسلامية إذ فيها تشكيك بالعقائد وغير ذلك، وكان ينشر أدعية كثيرة مختلفة أوسعها انتشاراً هو دعاء عرف بـ(عهود السليمانية) وفيه أحجية سبع منجيات، ويحتوي على آية الكرسي ودعاء الاستغاثة لتفريج الكروب وفوائد للقبول والعطف، وهو يحمل تميمة لكل طالب حاجة لكي يدخل بها الحكام ويتجنب المصائب ولدغات الأفاعي والعقارب، ويسهل ببركته الولادة من العسر وعمل المحيا وفك المربوط، وفيه اسماء الله الحسنى، وسيف ذو الفقار.
الدعاء الجوال
ولهذا الدعاء موزعون في كل القرى العراقية من المشايخ وفتاحي الفال وبعض المصريين الذين كانوا يترددون على العراق مع صندوق الدنيا (الولايات) يجوبون به الشوارع والأزقة، وهناك في المكتبة قسم كبير للكتب الروحانية التي ينطبق عليها قول القائل (اقرأ تفرح، جرب تحزن) وكان لهذه الكتب زبائن وطلاب من مختلف الناس، وقد اشتهر من تلك الكتب ولا يزال مشهوراً شمس المعارف الكبرى والكباريت في تسخير العفاريت وعمل المنديل ومنبع أصول الحكمة للبوني وغير ذلك، وكانت هذه ترسل الى الكاظمية والنجف الاشرف فيشتري منها أحد الكتبية من الذين اشتهروا بحسن معاملتهم وتساهلهم في البيع والشراء، هو الشيخ تقي الكتبي في سوق الاستربادي، وقراء هذه الكتب مغفلون فاشلون في الحياة فراحوا يتشبثون بالأوهام والخيالات ويستغيثون بالأكاذيب والترهات، كان سوق المكتبات محطاً لكثير من العلماء والأدباء والساسة، فكان بعضهم يختص بمكتبة يجلس فيها دون غيرها في الغالب، فعلى مكتبة نعمان الأعظمي كان يتردد محمد سعيد الجركجي (محمد سعيد الحاج خلف) يرتدي الجزية أو اليشماغ أحياناً مع الصاية والعباءة وهو مداوم لا ينقطع، يطالع كتب الحديث والفقه وتراجم الرجال في الجرح والتعديل في مصطلح الحديث وكتب الخلاف والجدل وغير ذلك، وبالرغم من كثرة ما يطالعه وما يقتنيه من كتب لا أظنه قد جنى شيئاً من مطالعته بل كان لا يحسن قراءة سطر واحد على الوجه الصحيح وكان مع كل هذا يعتبر مستشاراً لنعمان فهو الذي يشتري له العقار وهو الذي يشرف على نوع البناء وغير ذلك، فقد كان أميناً وطيباً.
المفكرة العربية
ومن أشهر المفكرات وأوسعها انتشاراً (المفكرة العربية) التي يصدرها نعمان الأعظمي وهي لا تزال تصدر الى يومنا هذا وكان ينظمها ويرتبها أحد خطباء المساجد في بعقوبة واسمه الزيدي، والمفكرة هذه تحتوي على خليط عجيب من الحكم والأمثال والأنواء الجوية وأمور أخرى لا يربطها رابط ولا تدخل تحت حصر من تقليم العنب وفيها اشارات الى ازدياد البلغم وتزاوج البراغيث وتكاثرها وعلة القمل وتزاوج القطط وجز صوف الأغنام ونباح الكلاب وحمل الحيوانات وتكاثرها وتناسل الأغنام، كما كانت تحتوي على ذكر مواقيت الصلاة والأعياد الرسمية ووفيات الأئمة والقواد، وقد اختلف نعمان مع موظفها الذي كان لا يتقاضى منها سوى بعض النسخ فأحالها الى أحد أحبار اليهود القدامي وأخذ هذا يرتبها دون
مقابل.