نوري السعيد وتاسيس حزب العهد العراقي

نوري السعيد وتاسيس حزب العهد العراقي

في 28 تشرين الثاني عام 1913. أسس الضباط العرب العاملون في الجيش العثماني جمعية عربية سرية في العاصمة العثمانية الأستانة، أطلقوا عليها اسم "العهد" وقد لعب الضابط عزيز علي المصري دوراً رئيسياً في تأسيسها. وضع المؤسسون أهدافاً كبيرة لجمعيتهم. ومنها:‏

1. إن العهد جمعية سياسية سريّة هدفها الاستقلال الذاتي للبلاد العربية، واتحادها مع الأستانة على أسس مماثلة لتلك القائمة بالنمسا.‏
2. ينبغي الاحتفاظ بالخلافة الإسلامية بيد العثمانيين.‏
3. تولي الجمعية اهتماماً خاصاً بسلامة الأستانة وحمايتها من الدول الغربية والاستعمارية.‏
4. طيلة ستمائة عام ظل الأتراك يحتلون الحاميات الشرقية في وجه الغرب، وعلى الأمة العربية أن تُعدّ نفسها، لتكون القوة الاحتياطية لهذه الحاميات".‏
وكتب أحد مؤسسي الجمعية الضابط "نوري السعيد" في مذكراته "إن غاية جمعية العهد كانت الحصول على إدارة عربية محلية ولغة عربية رسمية. على أن يشترك العرب والترك في الإدارة العامة للدولة على أساس اتحادي. وكان بين الأتراك من يؤيد هذه الفكرة. ويؤازرها مثل مصطفى كمال باشا"
حافظت الجمعية على سريتها التامة.
وقد علمت المخابرات التركية بوجودها، إلا إنها فشلت فشلاً ذريعاً بكشف المؤسسين والمنظمين لها، وظهر عجز الأجهزة الأمنية التركية واضحاً خلال المحاكمات التي جرت لمؤسس الجمعية المقدم عزيز علي المصري في نيسان عام 1914. بأن تقدم أي دليل على تشكيله لجمعية مناهضة للنظام، والتي كان عقوبتها الإعدام آنذاك، واقتصرت الاتهامات التي وجهت إليه، بأنه اختلس من أموال الجيش العثماني. وقام بتسليم مدينة برقة الليبية للإيطاليين أثناء وجوده فيها مقابل رشوة مالية . علماً أن الاتهامين باطلين لما عرف عنه بالأمانة والشجاعة، إنما كان الاتهام بحقد شخصي من وزير الحربية آنذاك أنور باشا. ولخلافات عميقة جرت بين الطرفين أثناء الحرب في ليبيا، ولسبب ثان هو دفاع عزيز عن بلاده العربية وحريتها.‏
ويذكر الفريق الركن طه الهاشمي في مذكراته عن جمعية العهد، أن عزيز المصري أملى عليه برنامج جمعية العهد قبل اعتقاله. وقد أبلغ نوري السعيد بالأمر، فنسخ نوري البرنامج على مسودة ثم نسخة إلى عدة نسخ. ووزعها على أعضاء الجمعية. كما كلف عزيز المصري طه الهاشمي بدعوة الضباط العرب للانضمام إلى الجمعية بسرية مطلقة، وأن يقسم العضو اليمين على السيف والقرآن. بأن يحافظ على سرية الجمعية، ويناضل من أجل تحقيق برنامجها، وقد استطاع طه الهاشمي أن يؤسس عدة فروع للجمعية حين تم نقله من الأستانة إلى اليمن. فاتصل بالعديد من الضباط العرب أثناء سيره لعمله الجديد. فافتتح للجمعية فروعاً عدة في عدد من المدن العربية. مثل بيروت التي ترأس فرعها شريف الشريف. وانضم إلى فرع دمشق صادق الجندي وخالد الحكيم، أما فرع الموصل فترأسه ياسين الهاشمي وضم علي جودت. ومولود مخلص، أما فرع بغداد فضم شخصيات منهم حمدي الباجة جي) . ورشيد الخوجة. وعبد الحميد الشالجي. وتحسين العسكري وعاصم الجلبي. أما فرع البصرة فترأسه الأمين مزاحم الباجه جي.‏
ومن الذين انتسبوا إليها من سورية: محمد إسماعيل الطباخ. ومصطفى وصفي. وسليم الجزائري وأمين لطفي. ويحيى كاظم- وعارف قوام. ومحيي الدين الجبان. من دمشق). وعلي النشاشيبيالقدس) ومن العراق- نوري السعيد- جميل المدفعي. إسماعيل الصغار- عبد الله الدليمي- تحسين علي رشيد الخوجة- حميد الشالجي.
ـ وقد خسرت الجمعية ثلاثة شهداء في مجزرة جمال باشا السفاح، وهم سليم الجزائري وأمين لطفي. وعلي النشاشيبي.‏
حافظت جمعية العهد على سريتها كما أشرنا رغم المحاولات العنيفة التي قامت بها الاستخبارات التركية إلا أنها لم تنجح. وقد كتب أحد ضباط الاستخبارات التركية عزيز بك في كتابه الاستخبارات والجاسوسية في الدولة العثمانية) منهاج حزب العهد الذي ورد سابقاً. وقال إنه يتضمن:‏
"1-جمعية العهد جمعية سرية تعمل لاستقلال البلاد العربية الداخلي. متحدة مع حكومة الأستانة اتحاد المجر والنمسا 2-بقاء الخلافة الإسلامية بأيدي العثمانيين. 3-حماية الأستانة من مطامع الدول الأوربية لأنها رأس الشرق 4- إن المزايا الأخلاقية لحفظ كيان الأمة السياسي" .‏
ويذكر جورج انطونيوس أن تقارير المخابرات تزايدت حول نشاطات الجمعيات القومية، ومنها أن "الجيش مليء بالخلايا الثورية، وإنجلترة وفرنسة هما عملاء في البلاد يحرضون على الثورة. ومن المتوقع نزول قوات الحلفاء على شواطئ الشام، وأن بعض الضباط العرب قد تعهدوا بمساعدة الحلفاء حينما ينزلون هناك. ومن النادر أن تستطيع المخابرات العسكرية متابعة غوامض المؤامرات السياسية، ولم تكن هيئة أركان الجيش الرابع مستثناة من هذه القاعدة، فبينما كانت تصغي بأذنيها للشائعات كان أنفها عاجزاً عن ملاحقة رائحتها حتى مصدرها، وكانت الأخبار في جوهرها صحيحة. ولكن لم يكن من الممكن اقتفاء أثرها للوصول إلى أحد المتآمرين" .
وأمام العجز التركي عن اكتشاف التنظيمات داخل الجيش رغم تراكم التقارير بوجودها، عمل جمال باشا قائد الجيش الرابع في سورية إلى رفع تقرير إلى أنور باشا وزير الحربية بضرورة نقل وتوزيع الضباط العرب، وإبعادهم عن سورية. فاستجاب له وزير الحربية، فتم نقل الفرقة الخامسة والعشرين التي تضم مجموعة كبيرة من الضباط العرب، والتي ينتمي عدد كبير منهم إلى جمعية العهد في حزيران 1915 إلى تركيا للقتال في جبهة غاليبولي. وبعدها تم نقل عدد من الكتائب العربية من بلاد الشام، وإحلال كتائب تركية بدلاً عنها .‏ ورغم ممارسة التعذيب والقتل أحياناً وإعدام ثلاثة من قادة العهد هم سليم الجزائري وأمين لطفي وعلي النشاشيبي. لم تستطع المخابرات التركية أن تتكشف تنظيم العهد الذي نجح في الحفاظ على سرية تنظيمه حتى جلاء الترك عن البلاد العربية.‏

- العهد والثورة العربية‏
شارك تنظيم العهد في الثورة العربية من خلال ضباطه الذين التحقوا بها، وأسهموا إسهاماً كبيراً في تشكيل الجيوش العربية الأربع التي ظهرت بعد قيام الثورة العربية في الحجاز، وفي المعارك الحاسمة والكمائن والاستخبارات ضد الترك. وكان عدد كبير من هؤلاء الضباط قد التحقوا في السنة الأولى من انفجار الثورة. فمنهم من جاء على ظهر باخرة سواء من ميناء البصرة أو من شواطئ مصر، والبعض تطوع في جيشها وهو في معسكرات الأسر الإنكليزية، ومنهم من هرب ليلاً متخفياً من جبهة القتال التركية إلى خطوط القتال الإنكليزية.‏
وفي تشكيل أول وزارة للشريف حسين بعد قيام الثورة، عين زعيم العهد التاريخي عزيز علي المصري وزيراً للحربية، وبقي ستة أشهر فيها، وغادر الحجاز بعد أن اختلف مع الشريف حسين لأسباب عديدة أهمها عدم ثقة عزيز المصري بالإنكليز والفرنسيين حلفاء الشريف حسين فلدى البلدين مخططات استعمارية تتصادم مع مبادئ وطموحات وأهداف جمعيته- جمعية العهد، وقد علم كبقية الضباط العرب وسياسي الأحزاب العربية بالاتفاقات السرية التي عقدت بين الطرفين لاقتسام بلاد الشام والعراق. مما حدا به أن يتصل بالفريق فخري باشا قائد الجيش التركي المحاصر في المدينة المنورة مع قواته، ويعرض عليه تحالفاً ضد القوات الغربية، مقابل أن يوافق الترك على منح العرب استقلالاً ذاتياً. وحين علم الشريف حسين بهذا الاتصال، أعطى المصري إجازة إجبارية لمصر، وبدون عودة.‏
أما ضباط العهد وغيرهم من الضباط العرب حين سمعوا باتفاقات سايكس بيكو ووعد بلفور، أوقفوا القتال ضد الأتراك. وكادت الأمور أن تتحول إلى كارثة على الإنكليز والشريف حسين معاً. لولا تدخل الأمير فيصل شخصياً. الذي أقنع الضباط العرب باستئناف القتال. ومتابعة تحرير بلادهم، فدخلوا سورية في تشرين الأول 1918. وبعد تشكل الإدارة العربية في دمشق. شارك ضباط العهد فيها، واحتلوا أرفع المناصب العسكرية والإدارية.‏

- انقسام جمعية العهد إلى عهدين‏
بدأت بذور الانقسام داخل جمعية العهد، منذ أن كانت القوات العربية تتمركز في جنوب الأردن. حيث حدث خلاف بين الضباط السوريين والعراقيين، بسبب تولي الضباط العراقيين المناصب القيادية في الجيش العربي المكلف بتحرير بلاد الشام، في حين كان الضباط السوريون يتولون المناصب الثانوية. وقد سادهم شعور بأنهم أحق بتولي قيادة الجيش الزاحف لتحرير بلادهم. وإن كانت القيادة لإخوانهم في العروبة. إضافة إلى أن السوريين كانوا يشعرون أن فيصل يفضل الضباط العراقيين عليهم. وكاد الخلاف يصل إلى حد انشقاق الجيش العربي، مما يؤثر على قوته ووحدته. فسارع نوري السعيد بالسفر مع وفد رفيع إلى القاهرة، لبحث الخلاف مع قيادات سورية وطنية فيها. فاجتمع في بيت كامل القصاب مع عدد من القياديين السوريين، فشرح لهم خطورة الأمر. فاتفقوا على أن يرسل كامل القصاب رسالة للضباط السوريين تحثهم على الوحدة مع إخوانهم العراقيين، وبأنه قادم إليهم قريباً. وعاد السعيد من القاهرة. ثم بعد فترة جاء القصاب إلى معسكر القيادة في العقبة، والتقى بالضباط السوريين وأقنعهم بإنهاء الخلاف. كما التقى بالأمير فيصل، وحثه على عدم التفضيل بين الضباط العرب، وأن يتولى الضباط السوريون مناصب متقدمة كإخوانهم العراقيين في الجيش العربي، فوعده فيصل بتغيير سياسته. وقبل أن يعود كامل القصاب إلى القاهرة، التقى في اجتماع عام ضم الضباط السوريين والعراقيين، وحثهم على الوحدة في سبيل القضية العربية. وزيادة في الاطمئنان طلب منهم أن يقسموا على يمين كتبه بنفسه ونص على التالي: "أقسم بالله. ألا أشتغل إلا للبلاد العربية. والأمة العربية. وأن أُقاوم كل من يمدَّ يده للأجانب. وكل سلطة تتعاون مع الأجانب. وكل سلطة استبدادية في البلاد" وأقسم الضباط الحاضرون على اليمين، وقبّلوا بعضهم، وانتهى الخلاف. وغادر كامل القصاب المعسكر عائداً إلى القاهرة على أن يصدر الأمير فيصل تشكيلات جديدة للقيادات العسكرية العربية ينصف فيها السوريين. إلا أن الأمير فيصل أصدر تشكيلاته العسكرية الجديدة فاحتفظ العراقيون بالمناصب العليا وأعطيت للسوريين قيادات هامشية. فسقط اتفاق القصاب والأمير فيصل. فعاد الخلاف بين الطرفين الذي استمر إلى مابعد بعد انتصار الثورة وتولي فيصل الحكم في سورية. فجمّدت الجمعية حتى انقسمت إلى حزبين. حزب عهد سوري، وحزب عهد عراقي.‏

- حزب العهد العراقي
شكل عدد من الضباط العراقيين وبعض السياسيين المتواجدين في دمشق عام 1919 حزب عهد عراقي وضعوا له برنامجاً. جاء في مادته الأولى. ما يلي.‏
"إن غاية الجمعية الأساسية هي كما يلي:‏
أ‌- استقلال العراق استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية. وداخل حدوده الطبيعية وهي: يقسم العراق إلى ثلاث مناطق: الأدنى. والأوسط. والأعلى. ويمتد حدود الفرات شمالي دير الزور. وضفة دجلة الممتدة من قرب شمالي دياربكر إلى خليج البصرة. ويشمل ضفتي دجلة والفرات من الشمال واليمين المحدود بالمواقع الطبيعية.‏
ب‌- أن يكون للعراق الخيار في من يشاء من الأمم الراقية للمعاونة في الشؤون الفنية والاقتصادية إذا اقتضت الحاجة على أن لا تمس تلك المساعدة بالاستقلال التام.‏
ج- إنهاض الشعب العراقي ليباري أرقى الأمم.‏
د- السعي لخير الأمة العربية." .‏
- انقسام الضباط العراقيين‏
لم يكن الضباط العراقيين في حزب العهد العراقي على رأي واحد تجاه مستقبل العراق السياسي والعلاقة مع بريطانيا المحتلة له، فقد انقسموا إلى ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى ترفض الوجود البريطاني في بلادهم وتدعو إلى الاستقلال التام، ويترأس المجموعة الفريق ياسين باشا الهاشمي المعروف بمعاداته للإنكليز والفرنسيين. والمجموعة الثانية كانت ترى أن لا مستقبل للعراق بدون التحالف مع بريطانيا، ووجودها في العراق للأخذ بيده والنهوض به، ويتزعم هذه المجموعة نوري السعيد3. وجعفر العسكري وبقيت مجموعة وسطية بين المجموعتين فهي تريد الاستقلال التام للعراق ولكن دون استخدام العنف وإثارة بريطانيا، إلا أن هذه المجموعة انضمت بعد انفجار ثورة دير الزور، وتداعياتها، واكتشاف النوايا البريطانية تجاه العراق إلى المجموعة الأولى. ومارست العمل الثوري والقتالي ضد الوجود البريطاني في العراق.‏

عن كتاب نوري السعيد
زبير سلطان قدوري