من مظاهر التحديث في عهد الوالي المصلح مدحت باشا

من مظاهر التحديث في عهد الوالي المصلح مدحت باشا

د. طارق نافع الحمداني
باحث واكاديمي
ان التطور الذي شهدته المدن العراقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم يأت دفعة واحدة، ولم يجر قبوله بسهولة، ذلك لأن المجتمع العراقي وقتئذ، كان ما يزال يعيش في تراث الماضي وتقاليده، ولم ينفض عنه غبار الماضي ويتلمس جلابيب الإصلاحات الحديثة، الا بفضل الضغوط العديدة التي جاءته من المكتشفات الحديثة التي انتشرت سريعاً في العالم،

ومن التأثير الغربي الواسع غير المقصود، ومن إجراءات حكومية عديدة، ابتدأت بمجيء مدحت باشا إلى العراق عام 1869. يعد مدحت باشا أول والٍ عمل على إدخال مظاهر التحديث إلى العراق في جوانب الحياة المختلفة، لإدراكه أن العراق كان يعيش في عزلة عن تيارات الحضارة الغربية التي تأثرت بها بعض الولايات العثمانية. وتميز الوالي مدحت باشا عن الولاة الذين سبقوه بإطلاعه على المشكلات التي عانى منها العراق ودراستها، والسعي لوضع الحلول الناجعة لها قبل تسلمه منصب الولاية، لذلك فمحاولاته الإصلاحية جاءت لوضع قواعد النهضة ودعائم التحديث في العراق، في مرافق الحياة الحيوية.
تناولت إصلاحات مدحت باشا مجالات مختلفة. ففي مجال الإدارة طبق نظام الولاية الذي كانت قد أصدرته الحكومة العثمانية في عام 1864/1281، وبموجبه أصبحت ولاية بغداد مؤلفة من نفس لواء بغداد وأقضيته، وضمت أقضية خراسان وخانقين، وادخل بموجب النظام الإداري الجديد عدداً كبيراً من الموظفين المدربين الذي حلّوا محل اشباه الأميين من البشوات والأغوات، ووضع لكل وحدة إدارية ملاكاً ثابتاً في الموظفين وثبت واجباتهم، لإنجاز الأعمال التي كان يزمع القيام بها في العراق.
أرسى مدحت باشا الأسس الأولى لعملية التحديث في مجال البلديات والمجالس البلدية، وبنى المدارس مما زاد في نسبة المتعلمين في العراق، وأسس المصانع وأوصى باستيراد عدد من المكائن لتطوير الصناعة، وعمل على تطوير مشاريع الرّي، وأصدر جريدة الزوراء. ولا يمكن لأحد أن ينكر ما لهذه الأعمال الإصلاحية من أثر في العراق، واقل ما يمكن أن يقال فيها أنها هيأت النفوس للإصلاح، ولو سار الولاة الذي جاءوا بعده على منواله لتغير وجه العراق. لقد تعاقبت على العراق بعد عزل مدحت باشا عام 1872 ولاة متعددون لم يقم أكثرهم بعمل يذكر، فكانوا ضعافاً في الإدارة تعوزهم الثقافة والمعرفة، ولم تعرف سوى أسمائهم، وصار العراق يستقبل الواحد تلو الآخر دونما فائدة تذكر منهم.
ومهما يكن من شيء، فإن هناك عدداً من مظاهر التحديث التي استفادت منها المدن العراقية، ومن بينها ديالى، حيت تركت آثاراً واضحة في حياة المجتمع ونهضته الحديثة. فخطوط البرق (التلغراف) مثلاً قد تمّ مدّها إلى العراق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نتيجة للاتفاقات التي جرت بين الحكومتين البريطانية والعثمانية عام 1857، والتي اسفرت عن إيصال خط برقي من الهند إلى البصرة فبغداد، في قاع نهر دجلة، وتم مدّ خط مماثل ما بين بغداد واستانبول في حزيران عام 1861.
مدت في السنوات القلائل التالية خطوط برق إضافية بين بغداد والفاو، وبين بغداد وخانقين، وبذلك تم وصل المدينة بالهند وفارس. واستمرت عملية إيصال الأسلاك البرقية من بغداد إلى بقية مدن الولاية، فأوصل الخط البرقي منها إلى مدينة بعقوبة ، مركز قضاء خراسان، في عام 1869. ولما كانت ممارسة أعمال النقل بطيئة في العراق عموماً، ولا يمكن الاعتماد عليها كثيراً، فان اتساع نظام البرق إلى معظم أجزاء العراق، قد ساعد على تقوية قبضة الحكومة على أموره، وإدخال الإصلاحات الحديثة التي كانت تنوي القيام بها.
أما بالنسبة للبريد، فلم يعرف العراق وجود خدمات بريدية منتظمة قبل عام 1868، إذ كان البريد يعتمد على بريد شركة الهند الشرقية البريطانية، وبريد السعاة المعروفين بالتتارية، الذي يقوم بنقل الرسائل بين بغداد واستانبول. ولكن الحكومة بدأت الاهتمام بأمر البريد، فقامت عام 1869 بإصدار نظام (إدارة البوسطة الأساسي)، الذي نشر في 26 ربيع الآخر 1288هـ/تموز1871م، وبموجبه شرعت يفتح دوائر للبريد والبرق في مدن العراق المختلفة، وشملت مدن: بعقوبة وخانقين والحلة وشهربان والدليم وكربلاء والديوانية، وهي المدن التي كان قد وصلها الخط البرقي آنذاك. وشهد العراق ومدنه الرئيسية في مطلع القرن العشرين، استخدام الهاتف (التلفون)، إذ ربطت مدينة بغداد بمدينة الكاظمية بالهاتف عام 1912، ثم جرى مد أسلاك للهاتف بين بغداد ومدينة بعقوبة، مركز قضاء خراسان.
وفي الوقت الذي سارت فيه الخطوط البرقية (التلغراف) والملاحة النهرية والبحرية على خير ما يرام لربط أجزاء العراق المختلفة وتسهيل السير فيه، فان خطوط المواصلات الأخرى قد أصابها التعثر. فمن المعروف أن الطرق في العراق، باختلاف المناطق، كانت مهملة وغير مكسوة، وتغرق عمقاً في أتربة الصيف، وتفيض فتتحول إلى مجار من الوحل، بسبب الأمطار أو فيضان القنوات، وغدت سكك الحديد أكثر قبولاً باعتبارها من الوسائل العملية في هذه البلاد. ولقد طرحت مشروعات مختلفة منذ خمسينات القرن التاسع عشر لمدّ خطوط حديدية من البحر المتوسط إلى العراق، أو حتى إلى الهند، ولكنها لم تكن مشروعات إقتصادية، فصرف النظر عنها. ومع ذلك، ففي سني الثمانينات من القرن التاسع عشر، تألفت شركة محلية لمدّ خط حديدي بين بغداد وخانقين، بالوسائل المحلية المتوفرة، الا ان عدم رأس المال اللازم قد حال دون تحقيقه، ولم يكن المشروع الذي خلفه في سنة 1890 أحسن حظاً.
ومع تعثر مشاريع سكك الحديد في العراق، فان خدمات النقل القديمة ظلت قائمة فيه، بين بغداد ومدنها. إذ بدأ ظهور العربات البّرية المعتادة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان هناك خط عربات (تجرها الخيل) منتظم بين بغداد وبعقوبة، وبين غرب بغداد وسامراء، وهذه الخطوط تعتمد أساساً على حركة الحجاج الكثيفة.
ومن وسائل الانتقال المهمة في ولاية بغداد دواب الحمل، كالبغال والجمال، التي كانت تسلك طرق القوافل المهمة التي تربط بغداد بكرمنشاه وهمدان، مارّة بمدن بعقوبة وخانقين وقصر شيرين. ويمر على هذا الطريق، كما يقول عيساوي، ما يقرب من (50) ألف جمل و(40) ألف حمل بغل إلى كرمنشاه خلال العام، وتتجه حمولة (10) آلاف حمل إلى خانقين، وحمولة (3) آلاف إلى قصر شيرين.
ومما يذكر هنا، ان مدحت باشا خلال مدة ولايته للعراق قد أوجد (دائرة النافعة)، لتكون مسؤولة عن الطرق والمعابر في العراق. الا ان هذه الدائرة كانت قد الغيت بعد مغادرة الوالي مدحت باشا لبغداد بأقل من شهرين. وقد خلت ولاية بغداد طوال السنوات الواقعة بين عامي 1872 و1906 من وجود أية دائرة متخصصة تقوم بتنفيذ المشاريع العامة كالطرق والجسور ووسائل الاتصالات الأخرى ومشاريع الري، لذلك عهدت إلى دائرة البلديات للقيام بهذه المهمات. الا ان الملاحظ، أن هذه الدائرة لم تقم بأعمالها بصورة مرضية، وبخاصة في مجال إنشاء الجسور في ولاية بغداد وأقضيتها، ومنها قضاء خراسان. ففي أثناء مروره بمدينة بعقوبة عام 1914، وصف لنا هيوبارد Hubbard ، جسر بعقوبة العائم، بقوله:
" في طريقي من بغداد إلى (ارارات) مررت ببعقوبة حيث وجدت ما يثير إشمئزازنا، ذلك لأن الجسر العائم لم يكن يسمح بمرور سير العربة، (ذات العجلات)، ولذا وجب علينا ان نغير سير العربة، ونعبر نهر ديالى بواسطة (قفة). وفي الجانب الآخر من النهر وبعد مسيرة ميل وجدنا عربة أخرى بانتظارنا، لاستبدال عربتنا".
وهكذا يظهر لنا من هذا الوصف، طبيعة جسر بعقوبة (جسر الطوافات أو العوامات)، الذي كان ضعيفاً لا يسمح بمرور عربات النقل ذات العجلات. ويشير الأمر إلى تقصير إدارة البلديات في العراق، في بناء الجسور الحديثة الكافية لعمليات النقل البّري.
ومن الأمور الحديثة التي جرى استخدامها في العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الكيروسين. إذ بذلت محاولات (زمن مدحت باشا) للاستفادة من رواسب النفط حول مندلي، وذلك بإعداد مشروع لتصفيته في بعقوبة سنة 1871. إذ كان يتم استخراج (الكيروسين) بالوسائل المحلية المتاحة، وكان يكلف البلدية 670 بارة للقية، ومع ذلك فقد حلّ تدريجياً محل زيت الزيتون في الأسواق. إذ جرت العادة على استخدامه من قبل كما أصبح في مكاتب الإدارة وغيرها. ونتج عن ذلك الاستغناء عن الكيروسين الأمريكي، وأصبحت كل مدينة تستخدم مصابيح الكيروسين.
ومع أهمية الزراعة والرّي في تحديث العراق، إلا أن المشاريع في هذين المجالين ظلت قاصرة؛ إذ ان أية خطة ترسم لتطويرهما لا تكون ناجحة بدون السيطرة على المياه، واطلاقها وتوزيعها، وموازنتها مع الأراضي الموجودة. ولم يكن الولاة العثمانيون في العراق يدركون مثل هذه القاعدة العملية السليمة، مما جرّ البلاد إلى كثير من الكوارث والنكبات، بخاصة وأنه لم تكن هناك (محطات قياس) لمعرفة كميات الماء في الأنهر وتصريفها عند مدينة بغداد. وكانت أول (محطة للقياس) قد أنشأها السير وليم ويلكوكس عام 1906 في منطقة دار القنصلية البريطانية في الضفة اليسرى لنهر دجلة. بعد ذلك تعاقبت عملية بناء محطات القياس لارتفاع مناسيب المياه في أماكن مختلفة من دخول مياه نهري دجلة والفرات في العراق. وعلى الرغم من أهمية الفيضان واخطاره في العهد العثماني، فان الولاة العثمانيين لم يقوموا بعمل جاد لدرء خطر الفيضان سوى تقوية السدود وبطريقة السخرة، وبطرق بدائية ومواد بسيطة كالتراب والخشب.
ومن الفيضانات التي تعرضت لها بعقوبة ولم يتمكن الولاة العثمانيون من إيقافها ما حدث عام 1884، إذ كتبت جريدة الزوراء في عددها 1156 نيسان 1884: " وفي الوقت نفسه طغت مياه نهر ديالى فاغرقت مناطق بعقوبة وبهرز والهويدر ونواحيهم".
ولعل من أخطر الفيضانات التي تعرضت لها بعقوبة، ذلك الذي حدث عام 1907 في عهد الوالي أبو بكر حازم (1907-1908)، حيث قالت الزوراء:
" فاض نهر ديالى فيضاناً لم يسبق له مثيل فصارت المياه تجري في نهري دجلة وديالى حتى استولت على الأراضي في أطراف البلد فأحاطت بجوانبها الثلاث، فإبتدر من جهة محافظة البلد بتحكيم السداد الموجودة وهي من تراب، وسورع من الجهة الأخرى لتعمير المحال المنخرمة من الأسداد التي في طرفي دجلة وسدّها بغاية الاهتمام، والضرر في قضاء خراسان من فيض هذين النهرين مرّة وهو أمر طبيعي، فلذلك أعطيت الأوامر الأكيدة إلى من يلزم تبليغه بإيثار المعاونة اللازمة إلى أهالي تلك الأنحاء، أما المياه المستولية على طريق القضاء المذكور فقد صارت مانعة للمرور والعبور وخربت أسلاك البرق".
اما عن الخسائر الناجمة عن ذلك الفيضان فقد كتبت جريدة الزوراء:
" أمطرت السماء في قضاء الخالص لمدة 48 ساعة ثم ثارت عاصفة فانحدر سيل من نهر ديالى فانهدمت ديار كثيرة واحاط الماء قرية (الهويدر) وبساتين أطراف بعقوبة، وارتفع الماء على كافة بساتين وقرى (خرنابات) و(شفتة) و(بهرز) وانقطعت الطرق، وخرب في قرية (دلي عباس) مائة مسكن، وفي ناحية (شهربان) اربعون داراً، وفي قرية (أبو صيدة الكبير) ثمانون مسكناً وبقيت بساتينها تحت الماء، وخربت ديار كثيرة من ديار (الزهيرات) و(العواشق) و(أبو صيدة الصغير) و(المخيسة) و(بلدروز)، وتفرقت العشائر الساكنة تحت الخيام، وإنهدم صدر جدول (بلدروز)، واستولت مياه ديالى على قسم من مزارع الهارونية وشهربان والاسيود، فاتلفت المواشي والأغنام، وبسبب فيضان نهر ديالى فاض الماء في النهروان حتى صار كنهر ديالى وانهدم في قرية تيل تاوه (قضاء الخالص حالياً) مساكن كثيرة".