الاسرة المالكة وحركة مايس 1941

الاسرة المالكة وحركة مايس 1941

نهلة نعيم عبد العالي
بدأت الخلافات بين أعضاء وزارة رشيد عالي الكيلاني، الذي تمتع بمساندة الجيش وبين الوصي عبد الإله ونوري السعيد إذ كان وزير الخارجية نوري السعيد وبمساندة من الوصي عبدالإله مؤيداً لوقوف العراق الى جانب بريطانيا وقطع العلاقات مع دول المحور والموافقة على إنزال القوات البريطانية في العراق على وفق معاهدة التحالف العراقية البريطانية لعام 1930.

وكانت تلك الموافقة تعني تدخلا مباشراً في شؤون العراق الداخلية ومحاولة لإشراك العراق مع بريطانيا في الحرب العالمية الثانية. تطورت هذه الأحداث بشكل سريع فطلب الوصي عبدالأله من رشيد عالي الكيلاني تقديم إستقالته ، لكن رشيد عالي رفض ذلك ، إلا انه وبعد تفاقم الإحداث اضطر الكيلاني الى تقديم إستقالته التي وافق عليها الوصي وعين طه الهاشمي خلفاً له ، الذي لم يتمكن من تقديم حل للأزمة ، فتدخل الضباط الذين قاموا بحركة ضد الحكومة مطالبين فيها بإستقالة طه الهاشمي وعودة رشيد عالي الكيلاني لرئاسة الوزارة الجديدة، وقد حظيت هذه الحركة بتأييد شعبي واستولى الجيش على الساحة السياسية متمثلاً بقادته الأربعة معلنين حركتهم ضد قوات الاحتلال البريطاني في الثاني من مايس 1941.
لم يكن هدف هذه الحركة التعرض للعائلة المالكة وإنما كان القصد منها الضغط على الوصي وحمله على قبول استقالة الهاشمي وتكليف الكيلاني بتأليف الوزارة الجديدة لاسيما بعد صدور أوامر بتفريق القادة كل من فهمي سعيد وصلاح الدين الصباغ وكامل شبيب ويونس السبعاوي وتشتيت شملهم.
في ليلة دخول الجيش العراقي الى بغداد كانت الأميرات شقيقات الوصي ووالدته الملكة نفيسة يقضين سهرتهن لترتيب الحفل العائلي الذي سيقام لمناسبة عيد ميلاد الملك فيصل الثاني بعد ثلاثة أيام ،ولم يكن هناك ما يشير إلى وجود شيء غير طبيعي ، وبعد الانتهاء من السهرة غادرت الملكة عالية الى قصر الزهور، والأميرة صالحة بنت الحسين إلى منزلها في شارع أبي نواس ، وفي إثناء ذلك شاهد سائق الملكة عالية حركة غيرطبيعية في الشارع فقد كان الجيش والآليات العسكرية تملأ الشوارع وعند عودته إلى قصر الرحاب أخبر الأمير عبدالإله ، فأسرع إلى دار عمته الأميرة صالحة ترافقه شقيقته الأميرة بديعة وكان مرتدياً الملابس النسائية.
وفي اليوم التالي أتصل بشقيقته الملكة عالية ليخبرها بمكانه، وقد أختار هذا المكان ليكون بعيداً عن أية شبهات، وقد أجتمعت النساء لتدبير خطة لتهريبه وجلست الملكة نفيسة لكتابة بعض الآيات القرآنية على ورقة وبعد الانتهاء قامت بتقطيعها إلى نصفين احتفظت بنصف أما الأخر فقد أعطته إلى عبد الإله لكي يتم اللقاء بينهما ، وكان أول من التجئن اليه هو الدكتور سندرسن باشا الذي تحدث حول هذه الإحداث قائلا: "في غمرة أحداث مايس1941 وردني اتصال هاتفي وعندما رفعت السماعة سمعت صوت امرأة تقول عمتي مريضة جداً أرجو أن تأتي بسرعة ، وعرفت بأنه صوت الأميرة بديعة توجهت بعدها إلى دار الأميرة صالحة ،وعندما لاحظت انتشار الجيش في الشوارع قصدت الجهة المقابلة ، وعندما وجدت الوصي متوتراً ومعه والدته وعمته وشقيقته الأميرة بديعة والكل في حالة قلق لما يجري أطلعني الأمير عبد الإله على شهادة طبية تعلن بأنه قد مات في تلك الليلة نتيجة أصابته بتخثر الدم في الشريان الإكليلي ،وكانت الشهادة تحمل توقيعاً مبهماً لهذا شككت في صحتها ، وأخذ الوصي يلح بضرورة الالتجاء إلى السفارة البريطانية ، فنصحته بالالتجاء إلى المفوضية الأمريكية لحين تدبير امرهربه إلى السفارة البريطانية ، وفي اليوم التالي وصل إلى المفوضية الأمريكية ومن ثم نقل إلى البصرة في الثالث من مايس 1941 ومعه رؤساء الوزراء السابقين".
وفي أثناء هروب الوصي كان الانقلاب العسكري قد وقع وأعلن عنه وأقيمت نقاط التفتيش وأحاط الضباط بالقصور الملكية وفرضوا إجراءات مشددة عليها ، وقطعوا الاتصال الهاتفي بين الملكة عالية وبين أفراد العائلة المالكة كما منعوا الزوار من الاقتراب منهم ، في حين سمحوا للخدم بالمجيء إلى القصر والقيام بالأعمال الموكلة إليهم و الخروج منه وكانوا يخضعون للتفتيش الدقيق الذي يشمل حتى أحذيتهم وكان أحد الضباط يرافق الأميرات عند ذهابهن إلى منزل عمتهن أو قصر الرحاب ، كما منعوا أيضاً الأميرة راجحة من دخول القصر عندما جاءت للاحتفال بعيد ميلاد الملك فيصل الثاني.
لم يتمكن احد من دخول القصر غير طه الهاشمي عندما أشيع بأن الملك غير موجود في قصر الزهور، فقد التقى بالملكة عالية التي كانت متذمرة من سوء الحالة وكانت أيضاً قلقة بشأن مصير شقيقها ، فطمأنها ووعدها بأنه سيعثر عليه وما عليها سوى القيام على رعاية الملك .
ترك هروب الوصي فراغاً دستورياً في البلاد فقرر قادة الحركة السعي لإيجاد وصاية للعرش وشكل مجلس وصاية يكون الأمير من ضمن اعضائه ، وقد قرر العقداء عرض الفكرة على الملكة عالية والتأكيد لها بأن هذه الإجراءات مؤقتة لتسييرالأمور حتى عودة الأمير عبدالأله ، وقد رشح العقيد محمود سلمان لهذه المهمة لكنه رفض لدوره الكبير في ترشيح الأمير عبدالأله .
تولى المهمة العقيد صلاح الدين الصباغ وقد أتصل بالملكة عالية ليطمئنها بأن الحركة ليست ضد الملك طالباً منها قبول وصاية جديدة ، ولكن رد الملكة كان قاطعاً اذ لم تقبل وصياً غير شقيقها، ، ثم أتصلت بالعقيد صلاح الدين الصباغ طالبة التحدث مع رئيس أركان الجيش مؤكدة له بأنها لاتعلم عن مكان الأمير شيئاً .
قررت حكومة الدفاع الوطني عرض فكرة الوصاية على الشريف حسين ناصر خال الملك غازي لكنه رفض ، ثم عرض الأمر على الشريف شرف الذي وافق على المنصب.
نصب الشريف شرف وصياً في العاشر من نيسان 1941 بوصفه احد افراد العائلة الهاشمية ،وقد حظي بدعم الساسة العراقيين لما يتمتع به من مزايا وخصال جعلته الرجل الأنسب لتولي هذا المنصب ،و بعد اختيار الشريف شرف وصياً على العرش ، قرر صلاح الدين الصباغ الذهاب إلى قصر الزهور لمقابلة الملكة عالية ترافقه مجموعة من الحرس وقد حاول رئيس الديوان الملكي عبد القادر الكيلاني الذي أدى دور الوسيط للعلاقة التي تربط بينه وبين رشيد عالي الكيلاني جاهداً أن يوضح للملكة مطالبهم قبل أن تتم المقابلة وبأنهم ليسوا على خلاف مع شقيقها ، لكن الملكة لم تستجب لرغبتهم.
كرر عبد القادر الكيلاني الطلب حتى أستطاع إقناعها و جرى حوار طويل لكن الملكة حسمت الموقف لصالح شقيقها وجاء في مذكرات الأميرة بديعة عن موقف الملكة عالية قائلة " عندما تمت المقابلة انزوينا نحن النسوة نسترق السمع منصتين لما يدور بينهما من حوار لم نفهم ماقالاه ألا إنني رأيت أختي تضرب برجلها الأرض وتقول أن هذا لن يحصل أبداً أبدأً وتركتهم وحدهم".
توجه الشريف شرف بعد تنصيبه وصياً إلى قصر الزهور الملكي ليستأذن الملكة عالية بشأن الوصاية وطلب مقابلتها ، وعندما قابلها شرح لها أسباب هذه الزيارة وأطلعها على أن العرش قد خلا وحصل فراغ دستوري أوقع الحكومة في حرج وإن هذا الأجراء مجرد ترتيب مؤقت ، وأن لا حركة عدائية ضد الأسرة المالكة ، لكن موقف الملكة عالية كان حازماً وقوياً كعادتها وقد ردته رداً عنيفاً وقاسياً، وشجبت الحركة بعنف على الرغم من تأكيده لها أنه ليس هناك خطر تجاه شقيقها أو تجاه العرش مطلقاً.
شرع الوصي الجديد بممارسة صلاحياته الدستورية موجهاً كتاباً الى رشيد عالي الكيلاني يعهد اليه بتشكيل الوزارة الجديدة ، وفي الثاني عشر من نيسان عام 1941 صدرت الأرادة الملكية المرقمة 139 لسنة 1941 بتشكيل الوزارة الجديدة.
سادت القصر حالة من التوتر في أثر القيود التي فرضتها عليه الحكومة الجديدة وبهذا انقطعت الأخبار كلها عن تحركات الأمير عبدالإله وتنقلاته ، قررت الملكة عالية وشقيقتها الأميرة بديعة بعد تنصيب الشريف شرف بثلاثة أيام ، الذهاب إلى الدكتور سندرسن لكونه الوسيط بين الأمير عبدالإله والبريطانيين فضلاً عن علاقته بالعائلة المالكة والتي تعود إلى العشرينيات ، ركبت الملكة عالية والأميرة بديعة سيارة البلاط مرتديتان العباءة والبوشي ، بعد أن انتحلت الملكة عالية شخصية الأميرة صالحة ، وعندما وصلتا الى بيت عمتهما وقد أخبرتاها بغرض الزيارة ، وخرجتا من البوابة الخلفية لبيت الأميرة صالحة متوجهات إلى بيت الدكتور سندرسن .
وجاء في مذكرات الأميرة بديعة " عندما انقطعت عنا أخبار أخي ولم تكن هناك أوامر بمنعنا من الخروج أو الدخول إلى القصر ، قررنا أنا وأختي الملكة عالية أن نلتقي بالدكتور سندرسن فركبنا سيارة البلاط وارتدينا العباءة والبوشي ، طلبنا من السائق أن يوصلنا إلى بيت عمتي الأميرة صالحة ، وحرصاً منا على تمويه الانقلابين خشية أن يراقبوا تحركاتنا دخلنا إلى بيت عمتي وخرجنا من البوابة الخلفية وكانت الملكة في موقف لاتحسد عليه فهي لم تتعود المشي في الشارع ، ورأينا أن لانذهب إلى منزل الدكتور سندرسن خشية أن نكون مراقبتين ، نزلنا إلى المستشفى الملكي وقد أثار حجابنا المبالغ فيه وهيبتنا المتميزة انتباه نائب ضابط عند نزولنا من العربة فبدأ بمتابعتنا ، وكان الأمر صعباً لأختي عالية بوصفها ملكة العراق ، وعندما وصلنا إلى بيت الدكتور سندرسن ، اخبرنا بان الأمير في الحبانية وسوف يسافر إلى الأردن ، ثم عدنا بعدها إلى دار عمتي صالحة".
كان الأمير عبد الإله حريصاً على نقل نشاطه الى شقيقته عالية ، الواقع الذي تجسد في رسائله الشخصية التي ألقتها الطائرات البريطانية على قصر الزهور في بغداد وقد التقط الحرس واحدة منها وكان نصها " أختي الملكة عالية في الرابع من حزيران سأكون مع الجيش البريطاني في بغداد فألتقي بكم وبالعزيز فيصل ".
وبعد مدة القت الطائرات البريطانية منشوراً سقط على موقع الإذاعة فألتقطه الحرس،و كان نصه ( أنا مكان نونو سينما) فأخذوا يفتشون موقع السينما متأملين أن يعثروا على شيء ما يدلهم على معنى المنشور وقد استخدموا مصابيح يدوية بعد أن قطعوا الكهرباء في القصر وكان أحد الحرس ينقل كل تحركات العسكريين داخل صفوف قواتهم والقرارات التي يتخذونها إلى سيدات القصر ، وقد أخبرهن عما كان يتضمنه المنشور فاجتمعن وأستطعن أن يحلن اللغز فكان أسم نونو يعني الملك فيصل الثاني ومكان سينما هو في الحبانية لأن الأمير كان يأخذه اليها فعلمن بأنه أي عبد الإله موجود في قاعدة الحبانية.
أتخذت حكومة الدفاع الوطني إجراءات لضمان سلامة الملك ووالدته فقررت نقلهم إلى مدينة أربيل خشية أن يتعرض القصر الملكي إلى قصف الطائرات البريطانية التي كانت تغير على بغداد في تلك الأيام .
عندما سمعت الملكة عالية بهذا الأجراء أخبرت رئيس مجلس الأعيان السيد محمد الصدر الذي كان يتردد على القصر في ذلك الوقت ويجتمع بالملكة عالية للتداول معها في شؤون البلاد ومستقبله، وإخبارها بالتطورات والمشاكل التي تحصل في الخارج وكانت الملكة تخبره بكل المضايقات التي تتعرض لها ، وقد حذرته قائلة " أعتقد بأن هؤلاء سوف يمنعونك من أن تصل الينا في المرة القادمة لأنني علمت أنهم بصدد إجراءات جديدة سيتخذونها بشأننا فإذا ما حصل لنا أي مكروه لاسمح الله سوف ابعث لك أحد الخدم وفي يده خاتمي هذا إذا ما أعطاك إياه فأعلم بأنه رسولنا ".
في صباح يوم الأربعاء المصادف الثامن والعشرين من مايس عام 1941، حضر إلى القصر المقدم صالح زكي أمر فوج الحراسة يرافقه يوسف الكيلاني بوصفه نائباً عن وكيل رئيس الديوان وأخبر الملكة عالية بأن عليها الاستعداد للسفر وجلالة الملك فيصل الثاني إلى مصيف صلاح الدين على أن يكون السفر سرياً ، عند ذلك أرسلت الخادم وصل الله إلى السيد الصدر ليخبره بموضوع الترحيل طالبة إستشارته فيما إذا كان يرى من المصلحة إخلاء القصر أو العصيان للبقاء وبعد ساعتين جاءها الخادم وأخبرها بإشارة الصدر بالسفر ، وقد تبين فيما بعد بإنه لم يكن رأي الصدر وإنما كان رأي الحرس.
بدأت الملكة عالية وشقيقاتها الاستعداد للرحيل وحملت معها مسدساً وجمعت مجوهرات العائلة ومجموعة من الوثائق لإرسالها إلى الكويت ، ويروي دي غوري عن ذلك قائلا " لقد سلمت المجوهرات والأوسمة ومن بينها الوسام الهاشمي ذو السلسلة الذهبية ووسام فيكتوريا ومسدس من الفضة أهداه هتلر إلى الملك غازي ووثائق أخرى الى القوة الجوية البريطانية لإرسالها إلى الكويت ، لكن الطائرة التي نقلتها سقطت في مياه الخليج العربي وقد بذلت جهود كبيرة للعثور على الطائرة لكنها باءت بالفشل" وأعتقد بأن البريطانيين قد سرقوها.
نقلت العائلة المالكة إلى أربيل في التاسع والعشرين من مايس عام 1941 ، وبعد وصولهم مكثت العائلة في بيت الملا أفندي وهو من كبارالأكراد وزعيم هذه المنطقة وكان رجلاً ثرياً وله عشيرة قوية لذلك كان من الصعب على الحكومة الوصول اليه ،وبقيت العائلة المالكة في داره تحت إشراف وحماية قوة عسكرية ، وقد أشرف على تسفير العائلة المالكة آمر فوج الحرس الملكي المقدم صالح زكي وقد اتخذت الترتيبات اللازمة بعدم الأتصال بأي كان إلا على وفق التعليمات التي وضعتها الحكومة ومن ضمنها:
!- عدم ذهاب الأجانب والمشتبه بهم من رجال ونساء مع جلالتها حتى وان كانوا من الحاشية.
2- منع الوزراء السابقين وعوائلهم من الأختلاط بجلالة الملك والملكة.
3- عدم مرافقة رئيس المرافقين إذا كان لا فائدة من سفره .
4- إذا أرتأت جلالة الملكة مرافقة سمو الأميرات مع جلالتها إلى المصيف يسمح ويشترط عدم اختلاط سموهن بأي أحد كان، أما التي تعود منهن فلا يسمح لها بالذهاب إلى المصيف مرة ثانية .
في ظل هذه الأحداث كانت الحكومة البريطانية تعد العدة لإرسال حملة عسكرية إلى العراق لطرد خصوم الوصي وكان من بين هذه الحملة فريق من الجيش الأردني الذي تولى أمرته الجنرال كلوب وكانت الحكومة العراقية تتوجس الخيفة والحذر من أن يتحول نزول القوات البريطانية إلى الأراضي العراقية إلى احتلال للبلاد.
وصلت القوات البريطانية إلى الحبانية يقودها كلوب باشا وحصل الصدام بينها وبين حكومة الدفاع الوطني ، سيطرت فيه القوات البريطانية بسهولة بفضل سلاحها الجوي وبعد ذلك توجهوا إلى بغداد ، التي وقعت تحت وابل من غارات الطائرات البريطانية سيطر البريطانيين على بغداد في السابع والعشرين من مايس 1941للمرة الثانية وأضطر الكيلاني وعدد من وزرائه ومن ضمنهم ناجي السويدي ورؤوف البحراني مع مجموعة العقداء إلى الهرب خارج العراق.
هكذا وبعد أن فشلت حركة الثاني من مايس 1941 عاد الوصي إلى ممارسة سلطاته الدستورية، و دخل الأمير عبد الإله بغداد في صباح الأول من حزيران 1941 قاصداً قصر الزهور والتقى بالملكة عالية وشقيقاته بعد عودتهم من أربيل ، وبعد فشل الحركة جاء أحد الحرس إلى بيت الملا أفندي يطلب منه تسليمه الملك فيصل الثاني فرد عليه قائلا " والله لا أسلم الملك حتى لو قتلتموني فلما رأوا إصراره تركوه وخرجوا".
كانت بداية أعمال الوصي تشكيل وزارة للسيطرة على الوضع الداخلي المتأزم ودفعه باتجاه الاستقرار ، ولهذا أستدعى الى قصر الرحاب في الثاني من حزيران عام 1941، محمود صبحي الدفتري ، وعرض عليه تشكيل الوزارة الجديدة ، إلا أن محمود صبحي الدفتري أعتذر عن ذلك ، ونصح بإسنادها الى رئيس وزراء سابق ويقصد بذلك جميل المدفعي فأجابه الوصي بأنه سبق وأن كلفه ولكنه أعتذر ، اتجهت رغبة الوصي الى إسنادها الى علي جودت الأيوبي الذي لم يستجب لتلك الرغبة معتذراً وأسندت فيما بعد الى جميل المدفعي وشكل وزارته الخامسة في الثاني من حزيران 1941 ، كانت بداية أعمال الوزارة إعلان الأحكام العرفية وفصل عدد كبير من الموظفين من وظائفهم كما أعتقل عدد كبير من المؤيدين لحكومة الكيلاني، وعندما تشكلت وزارة نوري السعيد في الحادي والعشرين من أيلول 1941 خلفاً لوزارة المدفعي طالبت بقادة الحركة ، فجيء بهم الى العراق ، وتألف مجلس عرفي في بغداد لمحاكمة المشتركين في أحداث الشهرين نيسان ومايس 1941، وحكم عليهم بالإعدام.
وقد جرى التحقيق بعد أحداث مايس ففيما يتعلق بالملكة عالية فقد استدعيت للتحقيق من اللجنة الخاصة في وزارة العدل ونظرا لمركزها الدقيق بوصفها ملكة العراق ولتعذر مثولها أمام المحكمة فقد كتبت أفادتها وأرسلتها إلى اللجنة التي كشفت فيها موقفها من قادة الحركة ، وقد كانت الملكة عالية من خلال ما كتبته في أفادتها جريئة في مجابهة الوضع القائم . التي جاء فيها" بعد مغادرة سمو الأمير أخي بغداد أشتدت الرقابة علينا ومنع الزائرون عنا وكان كل من يخرج ويدخل معرضاً لتفتيش دقيق ، كنا في وضع يشبه السجن وكان كل ما يهمني هو سلامة صاحب الجلالة الملك فيصل الثاني وقد أتصل بنا صلاح الدين الصباغ تلفونيا فأفهمناه بأنه ليس له أية صفة لمخاطبتنا ثم أتصل بنا أمين زكي سليمان تلفونيا وأخبرنا أن لم يظهر سمو الأمير عبدالأله فسوف يصدر بيان بخلعه ، وفعلا صدر هذا البيان وقد كنت أتوقع أن يكون عبد القادر الكيلاني الذي حضر مرة عندنا أكثر تأدباً فأخذ يكلمني بلهجة غريبة قائلا ياسيدتي لو قلبت بغداد حجراً على حجر لما عاد أخوك فيحسن أن لا تكوني مثله في العناد وعدم التبصر في تقدير الأمور وأنتم عادتكم أن تجيبوا على كل اقتراح لا توافقون عليه ، وإنشاء الله أخوك لن يعود أو ربما يعود بعد زمن طويل بصفة شخصية لا بوصفه وصياً ، فأجبت عبد القادر بأن أخي سيعود عزيزاًًًًًً كما كان ، وقد اشتدت وطأة الرقابة بتدخل صالح زكي أمر فوج الحراسة ، حتى أن أحدى الطائرات البريطانية ألقت رسالة من سمو الأمير لم تصل الينا ،وإنما سمعنا مضمونها من بعض الجنود الذين سمعوا أحد الضباط يقرأها ، وفي المساء أخبرني يوسف الكيلاني وصالح زكي بالسفر ، و ركبنا السيارة ونحن لانعلم إلى أين سيذهب بنا وركب العقيد عبد الوهاب كبير المرافقين إلى جانب السائق في السيارة التي ركبنا فيها مع صاحب الجلالة فجاء صالح زكي وخالف الآداب وركب الى جانب عبد الوهاب من غير أن يستأذن ثم سارت السيارة ووصلنا إلى أربيل ونزلنا في بيت الملا أفندي فلقينا من جانب صاحب الدار الكرم وحسن الضيافة فيظهر أن صالح زكي قد علم بانهيار الوضع فقد أخبر آمر الحامية هناك أنه ربما أضطر إلى نقلنا فأجابه آمر الحامية بأنه لايستطيع نقلنا ما لم يتلق أوامر صريحة بذلك وأن أمر الحامية أتصل بالضباط طالباًًًً تأييدهم برفض نقلنا فيما لو أراد صالح زكي هذا النقل فلبوا طلبه ".
كان للملكة عالية أثر واضح في صدور الأحكام بحق القادة ، كما أصرت على محاكمة عبد القادر الكيلاني وكيل رئيس الديوان الملكي ، وعندما طلب الأمير عبدالاله مقابلة المعتقلين كل على انفراد في قصر الرحاب ، جيء بالشريف شرف لمقابلته وكان ذلك بحضورالملكة عالية ، في البداية تهجم كلاهما على الأخر ، وعندما سأل الأمير عبدالأله الشريف شرف عن قبوله الوصاية، قال الأخير: إنني لم أكن ارغب فيها وإنما قبلت لمصلحة الملك والبلاد ، فأجابته: الملكة عالية كذبت ، بعدها سكت الشريف شرف وحين سأله الأمير عبدالأله عن سبب سكوته أجابه الشريف شرف : لقد قلتما بأني كاذب ثم سأله الأمير عبدالأله عن سبب هربه أجاب الشريف شرف : إني لم أهرب أنت الذي هربت من شعبك .
وذكر السيد محمد حمدي الجعفري موقف الملكة عالية المتشدد ضد قادة الحركة إذ أنه في أعقاب فشل الحركة وصدور حكم الإعدام بحق قادتها ، بادرت عوائل المحكومين إلى إرسال أولادهم إلى البلاط الملكي لمقابلة الملكة عالية والتشفع عندها لتخفيف الأحكام الصادرة بحق آبائهم ، ووقفت الأمهات يتقدمهن أولادهن في البلاط الملكي، وقد طوقت كل أم رقبة إبنها بشريط احمر اللون وكان الجميع يشكلون صفاً طويلا يدخل كل
منهم حيث تجلس الملكة ، فيتقدم الطفل وينحني أمامها ويقبل يدها ويطلب الصفح عن والده والعفو عنه وكانت الملكة عالية تبتسم لهذا المنظر وتبدو عليها مظاهر الفرح والسعادة ، وكان الجميع يأمل عفو الملكة عن هؤلاء الآباء ، لكن شيئا من ذلك لم يحدث ولم تبادر الملكة عالية أو أي من أميرات البلاط الملكي إلى الطلب من الوصي بالعفو أو تخفيف الحكم.
ذكرالسيد فيصل فهمي سعيد نفيه القاطع لمثل هذه المقابلة قائلا"عندما سمح لنا بزيارة والدي ذهبنا إلى سجن ابي غريب ، كان الطريق معبداً بالأسلاك وعندما وصلنا لم نجدهم كانوا قد أخذوهم إلى المحكمة ، وفي اليوم التالي المصادف الرابع من مايس 1942جاءوا ليأخذونا لرؤية والدي بطلب منه وقد ذهبنا أنا وأخي يعرب وأم زوجة والدي ، وعندما دخلنا عليه كان في يده المصحف ، فطلبت منه أم زوجته أن يسمح لها بالذهاب إلى عبدالإله لتخفيف الحكم ، فقال لها أرجوك دعيني أرى أولادي ، هل تسمعين هذه الأصوات أنها مناصب الإعدام لنا لقد انتهى كل شيء ، ويؤكد السيد فيصل ان سبعة عشر ساعة لوحدها، لاتكفي للذهاب إلى الملكة".
كما أكدت أيضا السيدة مديحه السلمان أنها عندما قابلت زوجها في السجن طلب منها عدم الذهاب لرجاء أي أحد قائلاً لها " لا تذهبي لرجاء أي كان يحط من قدرك." ، وعندما قابلت أم الشهيد يونس السبعاوي الملكة نفيسة خاطبتها قائلة" أنت أم قبل أن تكوني أميرة ولك إبن واحد شأنك شأني وتعرفين مقدار تعلق الأم بولدها الوحيد فكيف أذا كان الولد قد رزقت به بعد أن فقدت ثلاثة عشرطفلاً قبله أناشدك باسم الأمومة إن تبادري إلى إنقاذ ولدي من حبل المشنقة الذي ينتظره ، فإجابتها الملكة نفيسة بعصبية وبكلمات تركية تدل على التأنيب فما كان من أم يونس السبعاوي إلا أن وقفت رافعة يدها إلى السماء قائلة: أسأل الله أن يكون مصير ولدك أسوء من مصير ولدي" ، فخرجت الأميرات يراقبن
على هذا الحوار ، وما حصل في أثناء خروجها حضر موكب عبدالأله فضرب والدة يونس السبعاوي متعمدا بسيارته على جانبها الأيمن فأوقعها على الأرض.
يتضح الحوار الذي جرى بين أم يونس السبعاوي والملكة نفيسة ، بأنه على الرغم من الأعمال الخيرية والإنسانية التي قامت بها سيدات العائلة المالكة إلا أن علاقتهن مع الشعب لم تحددها هذه الأعمال بقدر ما كانت تحددها عوامل أخرى يأتي في مقدمتها رضا الشعب عنهن أوعدمه وليس ما قدمنه من أعمال ، وتجسد هذا الواقع عند سقوط النظام الملكي وموقف الشعب المساند للثورة.
وجاء في مذكرات مديحه السلمان زوجة الشهيد محمود سلمان ،في أثناء زيارتها زوجها بأن الملكة عالية اتصلت بآمر المعتقل عبد القادر حسين تلفونياً ليبلغ محمود سلمان قائلة له " كيف حاله الآن وكيف حال وصيه الشريف شرف "وعندما بلغ عبد القادر محمود سلمان بما قالته الملكة رد عليه "بلغها شكري على سؤالها فأني بفضلها على أحسن حال" .
وقد نفذ حكم الإعدام شنقاً في يونس السبعاوي وكل من الضباط فهمي سعيد ومحمود سلمان في الخامس من ايار 1942 ، وفي العشرين من أب 1944 حكم على العقيد كامل شبيب بالإعدام، أما العقيد صلاح الدين الصباغ الذي كان قد هرب إلى تركيا فقد بذل الوصي جهوداً كبيرة لأعادته الى العراق، وعندما وصل الى العراق حكم عليه في السادس من تشرين الأول 1945 بالإعدام ، اما رشيد عالي الكيلاني فقد هرب الى ايران ومن ثم الى القاهرة في 29 ايار 1941 .
أقامت الملكة عالية بعد عودتها منقبة نبوية في قصر الزهور في الثلاثين من حزيران 1941، وطبعت البطاقات ووزعتها على سيدات المجتمع العراقي وعقيلات الوزراء والسفراء وقد صاحبها الملك فيصل الثاني ووالدتها الملكة نفيسة وشقيقاتها. وفي أثناء أقامتها وليمة كبرى ألقت خطابها على الحاضرات وكان هذا أول خطاب تلقيه وقد تمتع بصدى واسع في أنحاء البلاد جميعها بعد أن نقلته الإذاعة العراقية ، وقد ركزت بهذا الخطاب على تعزيز موقف أخيها .
وجهت الملكة عالية في ذلك الخطاب شكرها الى الشعب العراقي على الشعور الذي أظهره أبان الحوادث المؤسفة للأسرة المالكة والعرش ثم تضمن الخطاب عبارات تصف فيها الحركة بالنكبة والكارثة وقادة الحركة بالنفوس الشريرة وغيرها من الكلمات التي تعبر عن استيائها مع شيء من الألم ومما ورد فيه:
" أن مصاب كل فرد من أفراد هذا الوطن هو مصابهم وكارثة هذا الوطن هي كارثتهم كما وصفت حزن الملك الصغير عندما أجبر هو وأمه على مغادرة قصرها ، وفي النهاية قالت بأن الشكر واجب لله تعالى بعد أن بقي الشعب ملتفا حول العرش ، وبقي العرش خادماً وأميناً لمصلحة هذا الوطن وسعادة أبنائه" .
وقد علقت دار الإذاعة والصحف العراقية على خطاب الملكة وكانت هذه التعليقات تحمل طابع المجاملة ، كما عبرت في الوقت نفسه عن موقفها من حركة مايس فقد وصفها البعض بأنها فتنة عشواء أو نكبة وكارثة ، وبأنها استهدفت الأسرة المالكة ومن تعليقات دار الإذاعة على الخطاب للسيد حسين مروة :
أيتها الملكة العظيمة "ها قد مرت الأيام ومرت الأسابيع ولا يزال خطابك الملكي السامي ملء النفوس وملء الأذهان ، ولا تزال كل لفظه من لفظاته الكريمة تنشئ في نفوسنا وفي أذهاننا آفاق من المعاني الرفيعة تتسع ثم تتسع حتى تصبح عالما رحيبا الرجاء في نواحيه نوراً أزين من النور شيع حنان من جوانبه عطراً أحب من العطر، وتتمشى في حواشيه غمامات من الألم الهادي تسحب ذيولها بترفق وكبرياء" .
أما جريدة الأحوال فقد جاء فيها تمجيد لخطاب الملكة عالية " لفتت المآسي الأخيرة وقد كانت خافيه بواعثها على الكثيرين من أبناء هذا الوطن ، أنظار المتتبعين والمراقبين من الناحيتين السياسية والأجتماعية إلى آثارها ونتائجها ،وحملتهم على دراستها دراسة عميقة ، ولكن خطاب حضرة صاحبة الجلالة ذلك الخطاب المؤثر الذي أسال الدمع والعبرات قد أزاح الستار عن تلك الحقائق، حقاً أن خطاب صاحبة الجلالة الملكة كان خطاباً تاريخياً للمرة الأولى إذ لم يسبق لتاريخ العراق أن دون مثله" .