كيف بنيت مدينة كربلاء  وما يميز عمارتها؟

كيف بنيت مدينة كربلاء وما يميز عمارتها؟

د. رؤوف الانصاري
بعد قيام الدولة العراقية سنة 1921م ، ونظرا لموقع مدينة كربلاء الديني والسياحي والجغرافي ، بدأ العمران في هذه المدينة بأخذ منحى جديد كسائر المدن العراقية الكبيرة. فقد انتقلت إليها أساليب جديدة في التصميم والبناء وأنماط وعناصر المفردات المعمارية الغربية،

وخاصة في الأبنية التي استحدثت خارج حدود المدينة القديمة.وكانت أقرب المصادر المعمارية هي إنكلترا نظراً لتأثيرها الملموس في تلك الفترة التاريخية من العراق. بدأ تخطيط المناطق الجديدة من مدينة كربلاء بالابتعاد عن الأزقة الضيقة والطرق الملتوية التي تميز بها الجزء القديم منها وخاصة في المناطق المحيطة بالروضتين، وكان ذلك بحكم ظروف الحروب والغارات التي كانت تتعرض لها المدينة.
وللمرة الأولى استعملت في المباني الجديدة مواد بناء كالأسمنت والحديد وخاصة حديد الشيلمان (I Beam) الذي استعمل بكثـرة في تسقيف البيوت والأبنية الأخرى بدلاً من أخشاب جذوع النخيل وألواح جذوع الحور (القوغ) وبعض الأخشاب الأخرى، خصوصاً في القسم الجديد من المدينة والذي تم تخطيطه في عهد الوالي العثماني مدحت باشا.
وقد أعيد بناء تلك المباني مرة أخرى، نتيجة لتشييدها على أرض سبخة تنز فيها المياه مما أدى إلى انهيارها. وكان سبب ذلك وجود مستنقع كبير يحيط بمدينة كربلاء من الناحية الجنوبية والجنوبية الشرقية وعلى طريق كربلاء الحلة. وقد حافظت البيوت والمباني داخل محيط مدينة كربلاء القديمة على النسيج العمراني والطابع المعماري الخاص بالمدينة، إذ كانت منخفضة وذات طابق واحد إلى طابقين بحيث تلائم طبيعة وبساطة العادات الاجتماعية والوضع الاقتصادي والبيئي. وكذلك لا تتعدى ارتفاعاتها أرتفاع السور الخارجي لصحني الروضتين الحسينية والعباسية والتي ظلت على ما هي عليها منذ قرون عديدة وذلك حرمة لمكانة المرقدين. وفي هذه الفترة اشتهرت مدينة كربلاء ببعض العمائر البارزة أشهرها رباط الهنود (الإسماعيلية) المعروفين بـ(البهرة) ، وكذلك بناية دائرة الماء والكهرباء ودائرة الحكومة ودائرة البرق والبريد بالإضافة إلى بعض المكتبات ومبنى البلدية الذي كان موقعه في الميدان القديم ، وكذلك الأسواق التراثية والعديد من الخانات التي كانت تستقبل التجار والزائرين للسكن فيها(2).
وفي مركز مدينة كربلاء، حيث تكون الروضتان موقع تجمع سكان المدينة ومحور حياتهم ، كانت الأسواق تحيط بالروضتين والمباني الدينية الأخرى ، وتمتد أمام مداخلها بحيث لا يمكن للزائر إلا أن يمر من خلالها. وتمتاز هذه الأسواق ببساطة بنائها وطابعها المعماري الإسلامي. ومن أهم هذه الأسواق وأشهرها سوق الحسين، وسوق العرب، وسوق المخيم ، وسوق العباس ، بالإضافة إلى القيساريات التي كانت موزعة ضمن الأسواق(3). ومنذ سنة 1354هـ (1935م) وإلى سنة 1367هـ (1948م) بدأت بلدية كربلاء، وعلى مراحل العمل على فتح الشارع المحيط بصحن الروضة الحسينية بحجة تنظيم حركة المرور وسير الزوار. وبسبب التخلف في الرؤية العمرانية والفنية والفكرية من قبل المسؤولين آنذاك ، فقدت مدينة كربلاء ، نتيجة هذا المشروع ، أجمل آثارها العمرانية الإسلامية التي كانت جزءاً من صحن الروضة الحسينية والتي ظلت شاخصة قرون عديدة ، ومن أهمها مئذنة العبد الشهيرة التي كانت تعتبر أحد أجمل الصروح المعمارية في المدينة، وكذلك الصحن الصغير الملحق بها وبعض المعاهد والمدارس الدينية والجوامع(1). وقد كان بالإمكان تلبية تنظيم متطلبات حركة المرور وتنظيمها وتطويرها وتجنب ما حدث من هدم وتشويه ، وذلك بإتباع دراسة تخطيطية علمية سليمة بحث تهدف إلى الحفاظ على الأبنية الدينية والتراثية في المدينة. نشر جاك بيرك وهو مستشرق فرنسي سنة 1398هـ (1978م) انطباعاته عن رحلته إلى كربلاء في كتابه (من الفرات إلى الأطلسي) والتي تمت في فترة سابقة لم يحددها، ولكن على ما يبدوا أنه زارها في العهد الملكي، حيث يقول: (كربلاء هي مركز لواء عدد نفوسه 217 ألف نسمة ، منهم 80% من الحضر، وتضم المنطقة نفسها مدناً شهيرة مثل النجف والكوفة، وتقع على بعد 102 كلم إلى الجنوب الغربي من بغداد. فيها أراض زراعية غنية وتليها مباشرة المنطقة الصحراوية. وتمتد قناة الحسينية بمحاذاة نهر الفرات على اليسار، وهي إحدى أعمال المهندس الهندي المعروف وأيلكوكس الذي أدار فيما بعد الأعمال الهندسية في مشروع أسوان بمصر).
ويتحدث بيرك عن عمران مدينة كربلاء حيث يقول: (إن المدينة تتشابه مع باقي المدن العراقية الأخرى في طريقة البناء، حيث تنتشر البيوت البارزة والشرفات الزجاجية المسندة بقوائم خشبية بسيطة (الشناشيل)، وإلى جانب هذه البيوت التقليدية هناك أيضاً الأحياء السكنية المبنية بالأسمنت المسلح، وهي بيوت يسكنها الموظفون والضباط(1). وفي سنة 1954م بدأ العمل بتنفيذ بناء (حي الإسكان) من قبل الحكومة والذي خصص لموظفي الدولة ويقع إلى الجنوب الغربي من مركز المدينة على بعد ثلاثة كيلو مترات تقريباً(2). وفي سنة 1955م أستحدث متصرف كربلاء السيد حسن السعد (حي الحسين) الذي يقع إلى الجنوب الغربي من مركز المدينة على بعد 3 كلم على طريق كربلاء النجف الجديد وملاصقاً لحي الإسكان، ويعتبر هذا الحي من الأحياء الحديثة الموجودة حالياً في كربلاء وأوسعها، وقد خطط بطريقة دائرية يتوسطه فندق كربلاء السياحي وتتوزع فيه المناطق الخضر(3).
وفي الستينيات استحدثت أحياء جديدة منها (حي المعلمين) سنة 1960م والذي يقع إلى الغرب من مركز المدينة على بعد 4 كلم تقريباً، و(حي البلدية) سنة 1961م والذي يقع في المنطقة المحصورة بين شارع حي الحسين وشارع المستشفى القديم، وكذلك (حي العباس) سنة 1964م والذي يقع على طريق كربلاء بغداد الجديد ويبعد حوالي 3 كلم عن المركز.
وفي بداية السبعينيات ونتيجة لزيادة عدد سكان مدينة كربلاء ونزوح مجاميع سكانية كبيرة من المناطق المحيطة بالمدينة وبعض المدن والقرى الأخرى، أخذت المدينة بالتوسع أفقياً خارج محيطها القديم فاستحدثت أحياء جديدة تقع أغلبها في الجهة الغربية والجهة الجنوبية الغربية من المدينة منها: (حي الحر » و « حي العامل » و« حي النقيب » و« حي الإصلاح الزراعي » و« حي الجمعية » سنة 1970م ، و« حي رمضان » و« حي الأسرة » و« الملحق » و« حي الصحة » و« حي البنوك » سنة 1975 و« حي الموظفين » سنة 1976م ، و« حي سيف سعد » سنة 1977م ، « حي العروبة » و « حي الثورة » سنة 1978م(1). وفي سنة 1978م بدأ التخطيط لتنفيذ مشروع شارع المشاة بعرض (40) متراً والذي يربط الروضتين الحسينية والعباسية وانتهى العمل فيه سنة 1980م .
وقد تسبب هذا المشروع في تشويه الطابع المعماري الجميل لمركز مدينة كربلاء بصورة ملفتة للنظر، وجاء مقترناً بعدم الالتفات إلى الأصالة الحضارية للبيئة الإسلامية التي تتميز بها هذه المدينة وكذلك نسيجها العمراني، مما أدى إلى تهديم الكثير من معالم العمارة الإسلامية البارزة فيها ، كجزء من سوق الحسين الشهير، وجامع الصافي، ومدرسة بادكوية الدينية، ومدرسة حسن خان، والبيوت التراثية الجميلة وغيرها. وشيدت على جانبي شارع المشاة مبانٍ غير منتظمة ومن غير دراسة وتخطيط مسبق وبدون تفهم لطابع المدينة العمراني الإسلامي(2).
ونتيجة لازدياد وتدفق مجاميع بشرية جديدة أخرى من القرى والأرياف وبعض المدن العراقية الأخرى بسبب الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980م، بلغ عدد سكان مدينة كربلاء سنة 1985م (184 ، 574) ألف نسمة(3).
بعد أن كان عدد سكانها سنة 1971م (102 ، 213) ألف نسمة(4)، أي بلغت نسبة الزيادة خلال 14 سنة 81%. وهذا يقتصر على المدينة وليس على أقضيتها ونواحيها كمحافظة. ومن جانب آخر، ونتيجة لتوسع بعض شوارع المدينة مثل شارع باب القبلة (أبو الفهد)، وشارع السدرة، وشارع الجمهورية، وفتح شوارع جديدة داخل المدينة مثل شارع باب السلطانية، وشارع المحيط، لذلك فقدت الكثير من العوائل مساكنها، ولم تعد مدينة كربلاء بوضعها الموجود قادرة على استيعاب هذا العدد الكبير من السكان وبناء مساكن إضافية جديدة فيها، فأخذت المدينة مرة أخرى تتوسع أفقياً خارج محيطها القديم والجديد من الجهة الغربية والجنوبية الغربية بوجه خاص، فاستحدثت أحياء جديدة أخرى وهي: (حي الانتصار) و(حي البهادلية) سنة 1980م، و(حي العسكري) بقسميه في الحر وخلف الطاقة سنتي 1980، و1983م، و( حي الضباط) و (حي الشهداء) سنة 1983م، و (حي السلام) سنة 1989م ، و(حي الصمود) سنة 1990م، و(حي التحدي) سنة 1992م، وكذلك (حي التعاون) سنة 1992م(1). وتفتقد معظم الأحياء الجديدة في كربلاء إلى أبسط مقومات الحياة المدنية التي تتميز بها الأحياء السكنية الجديدة في الدول الأخرى، كوجود مراكز تجارية وأسواق شعبية حديثة، والمراكز الحكومية كدوائر البلدية والصحية والمواصلات، وكذلك المراكز الاجتماعية والثقافية وملاعب الأطفال والساحات الرياضية والمناطق الخضراء. وتتميز مباني هذه الأحياء بأنها شيدت بأسلوب وطراز معماري يختلف عن البناء القديم السائد في مدينة كربلاء القديمة. فقد أندفع فيه البناءون إلى النقل والتقليد العمراني الحديث دون الالتفات إلى البيئة العمرانية الأصيلة للمدينة، مما أدى إلى أن تفقد مباني الأحياء الجديدة جزءاً من خصائصها العمرانية.
ولعل ما قام به النظام البائد بعد انتفاضة أهالي المدينة في آذار 1991م من تهديم لمساحات واسعة لمركز مدينة كربلاء (ما بني الروضتين وما يحيطهما) يمثل ذروة التخريب المتعمد. فأزيلت جميع المعالم العمرانية الإسلامية المميزة ، مما أدى إلى فقدان المدينة للكثير من تراثها العمراني الذي كانت تحفل به كالمساجد والمعاهد والمدارس الدينية والحسينيات والأسواق والقيساريات والبيوت التراثية الجميلة(1). وتحولت المنطقة الواقعة بين الروضتين إلى ساحة واسعة يبلغ طولها 350 متراً وعرضها 160 متراً(2). وفي بداية سنة 1997م بدأت بلدية كربلاء بتبليط أرضية الساحة الواسعة (ما بين الروضتين) بالكونكريت وزرعت أجزاء منها بأشجار النخيل، وتم منح رخص لبناء فنادق حول هذه الساحة من دون وضع دراسة للمركز من الناحية التخطيطية والتصميمية، وعدم اعتماد الطرق الهندسية لتحسين المنطقة. وكذلك تم تشييد مبان تحيط بالمركز لا تتوافق مع فنون عمارة المرقدين والنسيج العمراني للمدينة القديمة. إن شق الشوارع خلال العقود الماضية بشكل متعسف في مركز المدينة، وتدمير مساحات واسعة، وإزالة المباني الدينية والتراثية، بحجة إعادة تطوير المنطقة، أدى إلى تهشيم كيانها المتحد وتجزئته إلى أجزاء متفرقة تفتقر إلى وحدة الترابط العمراني والاجتماعي المميز لها، والذي تبلور عبر قرون عدة.
وكذلك إضعاف هيبة ومكانة الروضتين وحرمتهما ضمن المحيط العمراني غير المتجانس. وكذلك إلغاء كافة الأنشطة الحيوية والتجارية والتي كانت متمثلة بالأسواق والمحال التجارية.
وقد أقيمت خلال السنوات الماضية العديد من الأبنية في محيط الروضتين والساحة الواسعة الواقعة بينهما، يشكل القسم الأكبر منها فنادق صغيرة ومتوسطة الحجم شيدت بشكل مشوه وهجين ولا علاقة له بالتراث والأصالة والطابع المعماري الإسلامي الذي تميزت به المدينة ولعدة قرون.
وفي شهر نيسان (أبريل) 2006م تم تشكيل لجنة هندسية في محافظة كربلاء مهمتها وضع الشروط الخاصة بمشروع التصميم الأساسي الجديد لمدينة كربلاء المقدسة لدعوة المكاتب الاستشارة الهندسية العراقية والدولية لتقديم عروضها لإعادة تخطيط المدينة وفق خصائصها ومزيتها الأصلية.