الروضة الحسينية الشريفة..تاريخ معماري زاخر

الروضة الحسينية الشريفة..تاريخ معماري زاخر

عبد الحميد الخياط
مؤرخ وباحث
إن الحديث عن تأريخ تشييد الروضة الحسينية المطهرة وتطورها بالشكل الذي عليها الآن، يجرنا إلى الحديث عن تأريخ طويل يمتد إلى أربعة عشر قرنا، فقد ذكر المؤرخون أنّ بناء الروضة الحسينية يبدأ منذ دفن الأجساد الطاهرة من قبل أفراد من عشيرة بني أسد.

قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) (أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، هم معروفون في أهل السماوات، يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة والجسوم المضّرجة وينصبون بهذا الطف علماً على قبر سيد الشهداء لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه على مرور الليالي والأيام).
العمارة الأولى
لما ولي المختار بن أبي عبيدة الثقفي الكوفة في عام (65 هـ) مطالباً بثأر الحسين بن علي (عليه السلام) وقام بتعقب قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) وصحبه الكرام، وحاكمهم ومن ثم قتلهم، بعد ذلك بنى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وشيّد له قبة من الآجر والجص، وهو أول من بنى عليه بناءً أيام إمرته، وكانت على القبر سقيفة وبنى حوله مسجد، ولهذا المسجد بابان أحدهما نحو الجنوب والآخر نحو الشرق، ويؤيد ذلك القول الوارد عن الأمام الصادق (عليه السلام) في كيفية زيارة قبر الحسين (عليه السلام) فقد قال: (إذا أتيت الباب الذي يلي الشرق فقف على الباب وقل...) وقال كذلك: (ثم تخرج من السقيفة وتقف بإزاء قبور الشهداء) وما زال هذا المسير قائماً حتى الآن، فالجهة المحاذية لقبور الشهداء حتى الشرق، ومرقد الشهداء يقع في شرقي مرقد الإمام وابنه علي الأكبر (عليهما السلام)، بقيت تلك السقيفة والمسجد طيلة فترة العهد الأموي وسقوط دولتهم (123هـ) وقيام دولة بني العباس. وفي عهد هارون الرشيد العباسي الذي ناصب العداء للعلويين فسعى إلى هدم تلك القبور العلوية الطاهرة مؤملاً أن يمحو ذكر آل محمد وعترته (عليهم السلام) التي كانت فضائلهم تسمو على المخلوقين في حياتهم وبعد وفاتهم. فأرسل أناساً طبع الله على قلوبهم فنسوا ذكر الله العظيم، فقدموا إلى المرقد الحسيني لتهديم منار الهدى ونبراس النجاة للأمة، فهدموا المسجد في حرم الحسين (عليه السلام) والمسجد المقام على قبر أخيه العباس (عليه السلام) كما دمّروا وخرّبوا كل ما فيهما من الأبنية والمعالم الأثرية، وأمرهم الرشيد بقطع شجرة السدرة التي كانت نابتة عند القبر وخربوا موضع القبر، ثم وضع رجالاً مسلحين يمنعون الناس من الوصول إلى المرقد المعظّم والمشهد المكرم حتى وفاة الرشيد عام (193 هـ).

العمارة الثانية
لأسباب سياسيه تقرب المأمون العباسي للعلويين إذ عقد ولاية العهد للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام). فتظاهر بالتقرب والميل إلى العلويين باعتبارهم أصحاب حق بالخلافة، فأسند ولاية العهد إلى الإمام الرضا (عليه السلام) واستبدل شعار العباسيين بشعار العلويين وذلك (عام 193هـ) وأمر ببناء قبر الحسين (عليه السلام) وفسح المجال للعلويين وغيرهم بالتنقل وزيارة قبور الأئمة، فتنفس الشيعة نسيم الحرية وعبير الكرامة وذاقوا طعم الاطمئنان. ففي عهد المأمون أعيد البناء على القبر الشريف، وأقيم عليه بناء شامخ بقي على هذه الحال إلى سنه (232 هـ) حيث جاء دور المتوكل العباسي الذي دفعه حقده وناصبـيته لأهل البيت (عليهم السلام) إلى تضييق الخناق على الشيعة وشدد عليهم النطاق، فقد أمر بتتبع الشيعة ومنعهم من زيارة قبر الحسين (عليه السلام) ولم يكتف بوضع المسالح ومراقبة الزائرين ومطاردتهم مطارده شديدة دامت طيلة خمس عشرة سنة من حكمه، بل أمر بهدم قبر الحسين (عليه السلام) خلال تلك الفترة أربع مرات وكربه وخرّبه وحرثه وأجرى الماء على القبور.
أورد الطبري في حوادث (سنة 236 هـ) أن المتوكل أمر بهدم قبر الحسين (عليه السلام) وهدم ما حوله من المنازل والدور ومنع الناس من إتيانه، فذكر أن عامل الشرطة نادى في الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام بعثناه إلى المطبق (وهو سجن تحت الأرض) وهرب الناس وأقلعوا من المسير إليه، وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه وفي رواية أوردها الطوسي في الأمالي عن عبد الله بن دانيه الطوري قال: حججت سنة 247هـ فلما صدرت من الحج إلى العراق زرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على حال خفية من السلطان، ثم توجهت إلى زيارة الحسين (عليه السلام) فإذا هو قد حرث أرضه وفجّر فيها الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الأرض، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق إلى الأرض فتساق لهم، حتى إذا حاذت القبر حادت عنه يميناً وشمالاً فتضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك، ولا تطأ القبر بوجه فما أمكنني الزيارة، فتوجهت إلى بغداد وأنا أقول:
تالله إن كانت أميـة قد أتت *** قتل ابن بنـت نبـها مظـلـوم
فلقـد أتـاه بنــو أبـيه بمـثله *** هـــذا لعمــرك قبره مهـدوم
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا*** في قـتـله فتـــتبعـوه رميـم
ولما وصلت بغداد سمعت الهائعة فقلت: ما الخبر؟ قالوا سقط الطائر بقتل المتوكل، فعجبت لذلك وقلت إلهي ليلة بليلة.
العمارة الثالثة
وصل المنتصر إلى سدة الخلافة وتولى أمر السلطة في دولة العباسيين في أواخر عام 247 هـ فأصاب العلويين الفرج وزالت عنهم الكربة ورفع عنهم المنع، وأمر بتشييد قبة على قبر الحسين (عليه السلام) وركّز عليها ميلاً ليرشد الناس إلى القبر، وعطف على العلويين ووزع عليهم الأموال، ودعا إلى زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فهاجر إلى كربلاء جماعة منهم من أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وفي مقدمتهم السيد إبراهيم المجاب بن محمد العابد بن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وذرية محمد الأفطس حفيد الحسين الأصغر ابن الإمام السجاد (عليه السلام)، وأولاد عيسى بن زيد الشهيد، واستوطنوا فيه وبقي هذا البناء مشيداً حتى سقوطه سنة 273 هـ. على عهد الخليفة المعتضد العباسي.
العمارة الرابعة
سقطت العمارة التي شيدها المنتصر على القبر المطهر في 9 ذي الحجة سنة 273 هـ، ويذكر المؤرخون أن البناية قد سقطت في زيارة عرفة، وهي من الزيارات المخصوصة لحرم الحسين (عليه السلام) ويكثر فيها الناس، فقد انهارت السقيفة فجأة، فأصيب جرّاء ذلك جماعة ونجا آخرون، كان من بينهم أبو عبد الله محمد بن عمران بن الحجاج، وهو من وجوه أهل الكوفة وهو الذي نقل الخبر. وسبب سقوط السقيفة مجهول لحد الآن هل كان الحادث قد وقع قضاءً وقدراً؟ أم ان هناك يداً خبيثة من قبل السلطة الحاكمة آنذاك كان لها الدور في هذه الفاجعة العظمى. على كل حال فقد كان الحادث مؤلماً ومروعاً وفي الوقت نفسه أصيب القبر بالانهدام وصار مكشوفاً لمدة عشر سنين. حتى تولى الداعي الصغير محمد بن زيد بن الحسن جالب الحجارة من أولاد الحسن السبط إمارة طبرستان بعد وفاة أخيه الملقب بالداعي الكبير، فحينئذ أمر ببناء المشهدين وإقامة العمارة المناسبة، وهما مشهد أمير المؤمنين في النجف ومشهد سيد الشهداء في كربلاء، فكان المعتضد وقتذاك خليفة العباسيين سنة (283 هـ)، وقد زار محمد بن زيد كربلاء والنجف وأرسل المواد والتحفيات، فقد كانت علاقته مع المعتضد العباسي حسنة، وتربطه به رابطة متينة، فتمكن بسببه أن يشيد البناء على الحرمين في الغري والحائر، فشيّد على القبر في كربلاء قبة عالية لها بابان ومن حول القبة سقيفتين، وعمّر السور حول الحائر وأمام المساكن، وأجزى العطاء على سكنة كربلاء ومجاوري الروضة المقدسة.
العمارة الخامسة
حكم بغداد عضد الدولة البويهي في خلافة الطائع بن المطيع العباسي، وقد أمر ببناء الرواق المعروف برواق عمران بن شاهين في المرقدين الغروي والحائري، وهو المعروف اليوم برواق السيد إبراهيم المجاب، وفي عام407 هـ شب حريق هائل داخل الروضة المقدسة، وذلك خلال الليل وحدث هذا الحريق من جراء سقوط شمعتين كبيرتين على المفروشات فقد كانت الروضة تنار بواسطة الشموع، فقد التهمت النار أولاً التأزير والستائر ثم تعّدت إلى الأروقة فالقبة السامية، ولم يسلم من النار سوى السور، وقسم من الحرم ومسجد عمران بن شاهين.
العمارة السادسة
تولى الحسن بن المفضل بن سهلان تجديد بناء الحائر الحسيني بعد أن شبّت فيه النار واحترقت القبة والحرم، ففي عام 412 هـ شيد فيه قبة على قبر الحسين (عليه السلام) وأصلح ورمّم ما دمره الحريق، وأمر ببناء السور وهو السور الذي ذكره ابن إدريس في كتابه (السرائر) عند تجديده للحائر (عام 588 هـ) فقد جدد ابن سهلان السور الخارجي، وأقام العمارة من جديد على القبر المطهر بأحسن ممّا كان عليه، ووصف الرحالة ابن بطوطة هذه العمارة في رحلته إلى كربلاء سنة 727 هـ وقال: وقد قتل ابن سهلان سنة 414 هـ وبقي البناء الذي أمر بتشييده في الحائر الشريف حتى خلافة المسترشد بالله العباسي سنة 526 هـ حيث عاد الإرهاب من جديد على الشيعة، ورجع البطش والتضييق عليهم، واستولى المسترشد العباسي عما في خزائن الحائر المقدس من أموال ونفائس وموقوفات ومجوهرات، فأنفق قسماً منها على جيوشه وقال: (إن القبر لا يحتاج إلى خزينة وأموال). واكتفى بهذا السلب ولم يتعد على الحائر والقبر الطاهر. وعندما تولى الوزارة في عهد الخليفة العباسي الناصر مؤيد الدين محمد بن عبد الكريم الكندي الذي يعود نسبه إلى المقداد بن الأسود الكندي حيث قام بترميم حرم الإمام الحسين (عليه السلام) في (عام 620 هـ). وأصلح ما تهدّم من عمارة الحائر، فقد أكسى الجدران والأروقة الأربعة المحيطة بالحرم بخشب الساج، ووضع صندوقاً على القبر من الخشب، نفسهُ وزيّنه بالديباج والطنافس الحريرية، ووزع الخيرات الكثيرة على العلويين والمجاورين للحائر.
العمارة السابعة
تعتبر هذه العمارة هي السابعة بالنسبة لصاحب كتاب مدينة الحسين (عليه السلام) للسيد حسن الكليدار ج1 ص31 في حين يعتبرها الثامنة صاحب كتاب تأريخ مرقد الحسين والعباس (عليه السلام) للسيد هادي طعمة ص83، باعتبار أن الذي قام بتشييدها السلطان معز الدين أويس ابن الشيخ حسن الجلائري بن حسين بن أيليعا بن سبط أرعون بن الغابن هولاكو خان الذي تولى في (عام 757 هـ) سلطة العراق بعد أخيه السلطان حسين الصغير، وبنى حرم الإمام الحسين (عليه السلام) وأقام عليه قبة على شكل نصف دائرة محاطة بأروقة كما هو عليه الحال اليوم، وقد بوشر بالعمل في (عام 767 هـ) وأكمله ابنه أحمد بن أويس (سنه 786 هـ) فقد كان الواقف عند مدخل باب القبلة من الخارج يشاهد الضريح والروضة بصورة واضحة وجليّه، كما شيّد البهو الأمامي للروضة الذي يعرف بإيوان الذهب، ومسجد الصحن حول الروضة على شكل مربع، واعتنى عناية فائقة بزخرفة الحرم من الداخل والأروقة بالمرايا والفسيفساء والطابوق القاشاني. كما أمر السلطان أحمد الجلائري بزخرفة المئذنتين باللون الأصفر من الطابوق القاشاني، وكتب عليها تأريخ التشييد وهو (عام 793 هـ).
وبقيت هذه العمارة على القبر الشريف حتى يومنا هذا، ولكن الترميمات مستمرة على الروضة الحسينية عبر السنين المتعاقبة،لاسيما بعد الدمار الشامل الذي تعرضت له مدينة كربلاء المقدسة إبّان الانتفاضة الشعبانية عام (1991م) إثر تعرضها للقصف العشوائي بالمدافع والدبابات والطائرات العمودية، التابعة للحرس الجمهوري بقيادة صهر الرئيس العراقي المخلوع حسين كامل، وخلّف ذلك القصف فجوة في قبة سيدنا العباس (عليه السلام)، وانهيار سوري الصحن الحسيني والعباسي في بعض أجزاءه، وتصدّع الجدران الداخلية للمرقدين الشريفين.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فأن التاريخ أثبت لنا بالدليل القاطع أن كل من يشترك بقتل وظلم الإمام الحسين (عليه السلام)، فأن الله سبحانه ينتقم منه في الدنيا شر انتقام، ناهيك عن خزي الآخرة وعذابها الذي لا يبور، عمر بن سعد الذي اقترف جريمته النكراء بقتله الحسين (عليه السلام) طمعاً بملك الري، لم يقف جرمه إلى ذلك الحد، بل تعداه إلى أن وصل به الحال أن يطلب من أصحابه قائلاً: عليّ بالنار لأحرق بيوت الظالمين على أهلها! وهكذا أضرم النار في خيام أهل بيت النبوة، وبالرغم من كل تلك الانتهاكات والمآثم، فأنه لم ولن يحصل على ضالته المنشودة، بل أن الصحابي الجليل المختار بن يوسف الثقفي، وبعد مرور أربع سنوات من الحادثة المؤلمة، قد أذاقه وبال أمره، إذ قتله وشلته المجرمة شر قتلة، وألقى بهم جميعاً في مزبلة التاريخ، كذلك حسين كامل عندما اقتحم جيشه كربلاء المقدسة بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة، وقف أمام باب قبلة الإمام الحسين (عليه السلام) ونادى بأعلى صوته مخاطبا الإمام بقوله: أنت حسين وأنا حسين، لنرى أياً منا قد انتصر على الآخر، كل ذلك حصل طمعاً بالجائزة والمناصب العليا من سيده صدام، بيد أن الذي حصل وبعد أن استفحل النزاع بينه وبين أزلام نظامه على السلطة، وتفاقمت الأزمات عليه من كل حدب وصوب، ما حدى به الهرب إلى الأردن طلبا للشهرة والأمان، ولكنه انخدع بأمان سيده وقفل راجعا إلى العراق بعد أربعة أشهر عجاف قضاها في الغربة، وما كان يدري أن سيف البغي الذي أسلطه على رقاب أتباع الحسين (عليه السلام) في العراق، قد كان بانتظاره على الحدود العراقية الأردنية حيث فتك به بعد أن أوثقوه كتافاً إلى بغداد، وبأيدي أسياده الظلمة الذين تمرد عليهم برهة من الزمن، ولن تتشفع له ندامته على ذلك! وهكذا كان مصداقاً للمثل القائل: من سل سيف البغي قُتلَ به.
العمارة الثامنة
البدء بإنشاء الطابق الثاني للسور الخارجي للصحن الحسيني المبارك، الذي سيضم متحف النفائس ومركز الدراسات التابع للمكتبة وأقساماً هندسية وإدارية وقاعات دراسية وأخرى للمؤتمرات والندوات العلمية، وهو مشروع مكمل لتسقيف الصحن وإلحاقه بالحرم المطهر، يتمكن أن يسع لخمسة أضعاف أو أكثر من الوضع الذي كان يسعه الحرم في السابق، وهذا المشروع الضخم سيؤرخ لمرحلة جديدة في تاريخ الحرم الحسيني الشريف، الذي بوشر العمل به في رجب عام 1426هـ، ومن المؤمل أن يتم انجازه في غضون سنتين من تاريخ المباشرة..

من كتاب تاريخ الروضة الحسينية