رلــــى راشـــد/ كاتبة لبنانية
بعدما أعلن فيليب روث الإنسحاب من مجموعة الكتّاب قبل نحو عام، يتراءى حديث الكاتبة الكندّية أليس مونرو عن التقاعد في عقدها الثامن، بمثابة صفعة للأدب. ليس لأن الإسم النسائي الآتي من صقيع الشطر الشمالي للقارة الأميركية، يتسلّل سنويا الى قائمة المرشحين المحتملين للفوز بنوبل للآداب فقط، تماماً مثل روث.
بل لأن الكندية من طراز على حدة، نجلُّه ونسعى إليه: ها هي سيدة تجعل سردياتها فقط، تنوب عنها، وها هي هوية صرنا لندرتها نتمنى تكاثرها. سيدة لا تأبه أن يتردد اسمها همساً، لتفسح الكلام لحكاياتها المباشرة الى حدّ الصدمة.
عاشت مونرو مزنّرة بالكتب الى حين بلوغها عقدها الثالث، لتعبّد القراءة منعطفات حياتها. حرّكت أصوات الجزء الجنوبي من الولايات المتحدة الأميركية قريحتها التأليفية وأظهرت لها إمكان نقل وقائع البلدات الصغيرة وناس الريف الى الورق، من دون عقد نقص، وجعلها مادة للتداول. حض هذا النسق من المقاربات، القراء على التحلق حول نصوصها، كأنها حقيقة مبرمة. لم تحتج مونرو الى اشهار ضجيج المقابلات الإعلامية أو الإطلالات المدوية الخاوية، لتنال الاهتمام. لم تأبه لأكسسوارات الإنتشار الإعلامي يوما، وإنما أتت بنثر مكتفٍ بذاته، بقصص قصيرة تتراءى منمنمات روائية، تنهمك في سرد الحكاية أولاً وأخيرا.
لم يمرّ إعلان مونرو لصحيفة"ناشونال بوست"أخيراً في شأن تقاعدها من دون إحداث جلبة. ذلك انه ليس من صنف الكلام العابر أن تؤثر السكوت الكتابي وأن تختار الإنصياع الى سنّة الأعوام المتأخرة، تلك التي تفترض بالمرء القول علناً، انه اكتفى. والحال ان مونرو اكتفت من استحقاقات الكتابة الجديدة، لكنها لم تكتفِ من العيش. أصرّت على إيضاح هذه المفارقة في لقائها مع الصحيفة جازمةً أن المرء يصل الى مرحلة يتأمّل فيها حياته على نحو مختلف:"عندما تكون في سنّي ربما لا ترغب في أن تبقى وحيدا الى الحدّ الذي يألفه الكُتّاب. يشبه الأمر ان يصير المرء اجتماعيا جداً، عند طرف الحياة غير المناسب". عندما عقّب الصحافي أن معظم الناس ربما سيصابون بالخيبة لمجافاتها الكتابة، ليستفهم اذا كان قرارها قابلا للتبدّل أجابت:"حسنا، أسأل الجميع أن يعيدوا قراءة نصوصي القديمة. كتبتُ نصوصا كثيرة، في كل حال". أكثرت مونرو في الكتابة بلا ريب، ولكن من دون اسراف المتسرعين. نثرت مشاريع كتابية فاحت منها رائحة الإمتياز وجعلتها تسلك"طريق القداسة الأدبية"، وفق تعبير مواطنتها الكاتبة مارغريت اتوود. ولا شك في أن شهادة المنتمين الى الحرفة عينها تساوي ألف شهادة.
ضجت قصص مونرو بنساء يافعات راقبن رغبة الرجال في السيطرة، فضلا عن نساء أخريات اصطدمن بخنوعهن الذاتي. غير ان من الخطأ ااعتبار أن مونرو وثّقت خيبات النساء حصرا، ذلك انه لم يفتها أن تنصت الى ما يقوله الرجال أيضا، في تماسهم مع نصف المجتمع الآخر. على الرغم من انجازاتها التأليفية المهمة، ظلّت مونرو في حديثها عن الكتابة تُبدي كثيرا من الإنبهار وتنمّ في حديثها عن تجربتها الذاتية، عن شيء من التململ يمكن سماعه في حناجر المبتدئات. لا تؤمن مونرو بالإجهار المتعالي الذي يحرك الكاتبات المعروفات.
ففي حين يسهل عند سماعها نسيان من تكون، يختلف الأمر عند قراءتها، لأننا نعثر في نصها على حسّ الإمكان المُعدي. من بعيد، يبدو الكلام التأليفي بسيطا، غير ان تلك الكتابة مثالية في بساطها، تؤكد تطلُّبها أعواما عدة من التأمل وتمزيق مسودات كثيرة لتولد.
الاعتزال في الذروة
تعتزل مونرو الكاتبة في الذروة وهي نالت للتو جائزة"تريليوم"الأدبية، أرفع التكريمات التأليفية في اونتاريو. ركنت إليها للمرة الثالثة بفضل أحدث مجموعاتها"الحياة العزيزة"التي تجري معظم قصصها في بلدات اونتاريو لتخدم كخلفية عادية لميل مونرو القادر للإفصاح عن العميق في اليومي، واخراج الاستثنائي من العادي. تكتمل الحكايات في سياق مشاهد معبّرة تتلاحق ولحظات مختلفة تلتقطها الكاتبة الكندية، كأنها تقف خلف عدسة تصوير.
على هذا النحو في قصة"القطار"مثلاً، هناك رجل عاد للتو من الحرب ونراه يركض على الرصيف قبالة قطار يتحرك قبل أن يقفز ليستقله، غير انه لن يلبث أن يغادره مجددا. تكتب مونرو:"كان يفترض للقفز من القطار أن يكون حركة إلغاء. رفعتَ جسدك وهيّأتَ ركبتَيك آملا أن تدخل هواء مختلفا. وتطلعت الى الخواء. ولكن بماذا فزت عوضا من ذلك؟ بمحيط جديد يطالب باهتمامك، على نحو لم تضطر له عندما كنت جالسا في القطار لتنظر ببلادة عبر النافذة. ماذا تفعل هنا؟ الى أين تذهب؟ يتملكك احساس بأن الأشياء تراقبك، أشياء لم تكن تعرف عنها شيئا. تشعر كأنك مصدر ازعاج فحسب. تصل الحياة من حولك الى استنتاجات منوطة بك وعجزت عن رؤيتها". ليست الحياة العزيزة تلك، المحبوبة الى أبعد حدّ اذاً، سوى حياة الشخصية المحورية وحياة الأفراد الإمثتاليين جميعا أيضا. ليست سوى نسيج النهارات والليالي والطفولة ومرحلة منتصف العمر بالنسبة إلى البعض ومرحلة الدنو من النهاية، بالنسبة الى البعض الآخر.
في مسار مونرو، تتراءى"الحياة العزيزة"أكثر مجموعاتها ارتباطا بالسيرة الذاتية، ويتعزز ذلك في القصص الأربع الأخيرة. في الحكاية الختامية التي تمنح المجموعة عنوانها، وكانت نشرت بداية في مجلة"ذي نيويوركر"في 2011، تعود الكاتبة الى منزل الطفولة، الى طقس المشي اليومي الى المدرسة الابتدائية، ومنها. ثم نصل الى اعلان يغيّر الإيقاع الروتيني، الى اعلان البرلمان الكندي الحرب على ألمانيا وقطع أوصال مدرسة الطفلة مونرو جزءين واضطرارها الى ارتياد مدرسة أخرى.
على ما يبدو، تدخُل مونرو راهنا وفي سن متأخرة، مدرسة إضافية، مدرسة الإستمتاع بما أنجزت وترف اتخاذ القرارات الشخصيّة، بدفع مما يحلو لها فحسب. ربما خمدت حماسة مونرو للكتابة، غير ان حماسة الحكاية الشخصية لا تزال في أوجها.
عن جريدة النهار اللبنانية